قليل من الفلسفة لا يضر…أين فلسطين ؟

على العنزي
نشرت قبل سويعات منشورًا عن الغاء اسم فلسطين في خدمة كوكل للخرائط، وادّعيت أن فلسطين أصبحت في خبر كان. وأنا الآن أوضح ما ادعيته، والكلام خليط من الفلسفة وعلم اللغة.
في علم اللغة هناك الفكرة والرمز والمعنى. فمثلًا معنى الباب في ذهني هو الفكرة، وكلمة الباب، مقروءة أو مسموعة، هي الرمز أما المعنى فهو الباب المشار اليه إشارة حسية أو ذهنية. وثمة أمثلة كثيرة في عالمنا المحسوس وغير المحسوس لهذا المثلث الذي يطلق عليه “مثلث المعنى” في علم اللغة.
وهناك خلاف بين علماء اللغة حيال الرمز والمعنى، أيهما يؤسس الآخر. وسألتزم بأرجح الآراء وهو إن الرمز هو المؤسس للمعنى، فلو قال زيد مثلًا: ما هو الرقي؟ فهو يسأل عن المعنى. فيكون الجواب بذكر جنس الرقي وفصله أو خاصته ليرتسم المعنى في ذهنه، فنقول له هي فاكهة صيفية ذات لب أحمر حلوة الطعم مثلا، فهنا قد أسسنا المعنى في ذهنه من خلال الرمز مفسرين للفكرة التي في أذهاننا عن الرقي وهي موجودة قبل الرمز بطبيعة الحال، وبوسع زيد أن يقارن ما قلناه بأية حبة من فاكهة الرقي ليعرف صدق الرمز الذي استخدمناه.
فالرمز لا بد أن يكون انعكاسًا لشيء خارجي حقيقي ويكون بوسع المتلقي أن يقارن الواقع به. فالرمز ما هو إلا نسخة عن الواقع. وهذه النسخة قد تكون مطابقة للواقع بصورة كلية، وقد تكون مطابقة له في جزء ومخالفة له في جزء أو أجزاء. وهناك رمز لا يمثل أي شيء حقيقي، بل هو نسخة عن واقع خيالي لا وجود له على أرض الواقع.
وفي عصرنا اليوم، والذي يسِمُه كثير من الفلاسفة المعاصرين بعصر “ما بعد الحداثة” أصبح الإعلام هو المنفذ الوحيد لتشكيل المعنى، ووصل الضخ الإعلامي الهائل للمعلومات حدًا قد يحيل إمكانية المقارنة بالواقع إحالة عملية. لذا فإن إنسان هذا العصر قد استسلم، في أغلب الأحيان، إلى ما تلقيه هذا الماكنات الإعلامية. وهو إذ قد أستسلم لهذه الرموز، فهو على الأغلب قد أهمل ارتباطها بالواقع، بل إن هذه الرموز قد أصبحت هي الواقع بالنسبة له. وهو ما يسميه الفلاسفة المحدثون “الواقع المفرط” الذي فقد ارتباطه بالواقع الحقيقي لأنه حل محله.
ونعود لما ادّعيته في منشوري السابق، فان خدمة كوكل الآن هي بوابة المعرفة الحقيقية لأغلب الناس في العالم. من منا لا يستعين بمحرك بحثها يوميًا؟ فضلًا عن خدماتها الأخرى. فهي، بعبارة أخرى، من أهم ماكنات تشكيل الواقع المفرط في الأذهان. لذا فهي حين ترفع اسم فلسطين من خدمتها للخرائط فهذا معناه إن اسم فلسطين قد ارتفع في الحقيقة، أين ستجد اسم فلسطين الآن؟ في الكتب، في الخرائط القديمة، في أذهان الناس، في المقالات والمؤتمرات، حسنًا، يمكننا أن نسمي كل ذلك تاريخًا.. أين هي في الحقيقة؟ ليس هناك إلا الكيان المسخ وشعب مقهور محتجز في قطاع غزة والضفة الغربية، سينتقل بعد إبرام صفقة القرن إلى سيناء. ولكن أين فلسطين؟ هي موجودة… عفوًا أقصد ذكراها موجودة… في أذهاننا وفي كتب التاريخ.

انتهى باختصار شديد أتمنى أن لا يكون مخلًا بالمعنى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here