العالم عبد الجبار عبد الله يوم التقيته

عربي الخميسي
تمضي الايام والسنون ، وان كان هناك ذكريات من ذلك الزمن الغابر فذكرى
العظام لن تنسى ! والمعروف ان التاريخ يؤرًٍٍخ امورا حياتية كثيرة، فهو
يتحدث عن واقعة معينة وفعل معين او شخصية لها مآثرها ، حرب ، عيد ، ظاهرة
طبيعية او اجتماعية ،

وضع اقتصادي او سياسي مثلا ، ولادة شخص عظيم او وفاته ، او انعطافة
اجتماعية او ثوريهة كل هذه وغيرها من امور كثيرة ، قام بتدوينها المؤرخون
ومن ذوي الاختصاص اوكتاب السير والقصص والروايات نقلا ام تعايشا وهكذا ..
نعم ايها المتلقي الكريم ، اردت بهذه الكلمات البسيطة ان اشير الى رمز
مهم من رموز العراقيين عامة والمندائيين خاصة ، ذات الوقع المميز في
قلوبهم وفي تاريخهم المعاصر ، يستحق منا جميعا استذكاره واحياء سيرته
وعرض منجزاته تلك هي الشخصية العراقية المندائية الفذة العالم الدكتور
عبد الجبار عبد الله .. وهذه شهادتي العيانية مما تبقى من خزين الذاكرة
لأيام زمان
لست انا وحدي من يشيد بعظمة هذا الرجل بل ، كل رفاقه من العلماء وزملائه
وتلاميذه ومعارفه ومن اختلط به او تعرف عليه وشتغل معه وغيرهم من الناس ،
في كل المجالات العلمية وخلال العلاقات الاجتماعية والادارية والنشاطات
الاخرى الثقافية والادبيه .. وبالنسبة للمندائيين فهم ليسوا بحاجة من
يعرفهم به باعتباره الشاخص الدال والمثل الاعلى والوجه الساطع والمضئ
لأمتدادات الشخوص العلمية المندائية سابقا والمحدثين منهم حاليا ، وبعد
هذا كله اطرح السؤال الاتي ترى اما يحق للمندائيين بل العراقيين عموما ان
يؤرخوا مولد هذه الشخصية او يوم رحيلها ؟ وهو مجرد تساؤل مشروع ….؟

وهنا ساتحدث لكم كيف ومتى التقيته
في سنة 1942 / 1943 كنت احد طلبة الصف الخامس العلمي في الثانوية
المركزية في بغداد قبل ان تصبح اعدادية ، وكانت الدراسة بها سنتين وليست
ثلاثة ، وكان مديرها آنذاك الاستاذ رشيد سلبي ويعاونه الاستاذ علاء الريس
، اما عبد الجبار عبد الله فقد كان بها مدرسا يقوم بتدرس مادة الفيزياء
للصف الخامس العلمي ، وان هذا الصف كان يضم ست شعب ولم يكن من نصيبي ان
اكون احد طلابه ، فقد كان مدرسنا الاستاذ المرحوم السيد هاشم الحسني ،
والثلاث الاخريات من الصفوف للاستاذ عبد الجبار عبد الله ، وكانت كتب
الفيزياء التدريسية لمادتي الصوت واخرى لا اتذكرها من تاليفه هو والاستاذ
السيد هاشم الحسني مشتركا ، وكانت المدرسة تضم حوالي الستمائة طالبا
للصفين الرابع والخامس..
وللحقيقه اقولها ، كنت اشعر باحساس غريب وبشيء من الزهو والفخر لا اعرف
كنهه ، عند ما كان يرد اسم هذا الرجل باحاديث الطلبة والاساتذة الاخرين ؟
.. وكلها تمجد هذه الشخصية وقدراتها العلمية..؟
وانتهت السنة الدراسيه ، وذهب كل منا الى حال سبيله ، فالاستاذ سافر الى
الخارج للدراسة حسب علمي ، وانا ذهبت للتعليم وعينت معلما لاحدى المدارس
الأبتدائية في بغداد ، ومن خلال تناقل الاخبار كنت اسمع عنه وعن عبقريته
وتفوقه في دراسته في امريكا،.. وكيف رزق هو وزوجته ولديهما التوأمين كل
من الاستاذين الموقرين سنان وهيثم عبد الجبار عبد الله السام ، خلال ما
كانا على ظهر الباخرة التي ابحرا فيها في طريقهما للولايات الامريكية
المتحدة ….
وفي السنة الدراسية التالية تم قبولي بالكلية العسكرية ، فاصبحت ضابطا
واشتغلت بالجيش العراقي برتبة ملازم في كثير من الوحدات العسكرية وبمختلف
المناصب ، وتدرجت بالرتبة العسكرية و بعد عوتي من الدراسة في انكلترا على
حساب الجيش دخلت كلية الاركان ، كأول صابئي مندائي يلتحق بهذا المعهد
العسكري العالي ، وكنت اناضل من اجل اثبات الوجود وللحصول على ما ابتغيه
رغم الصعاب التي كانت تواجهني ، وكنت اتذكر دوما رجالنا الكبار المعاصرين
الاعلام الخالدين عبد الجبار عبد الله وغضبان رومي ونعيم بدوي هؤلاء
المربين الأجلاء .. كنت اضعهم امام عيني دوما كقدوة عليا لي ، واحاول ان
احذو حذوهم واشق طريقي بالحياة دون عون او رعايه من احد ، حيث لا احد من
عائلتي اومن المندائيين كانت له القدرة على ابداء المساعدة في حينه ، كما
كانت تسير الامور آنذاك … ومع ذلك كسبت ود ورضا القادة العسكرين الذين
اشتغلت معهم او بمعيتهم جميعهم ، حتى جاءت ثورة 14 / تموز سنة 1958 وصدر
امر تعيني على الفور بموقع البصرة بعد الثورة مباشرة ، وفي منصب حساس قمت
فيه بتأدية الواجبات الموكلة لي بكل اخلاص وامانة وبحس وطني عراقي خالص
وباحسن ما يمكن ، الا ان الامر لن يرضي كل الاطراف في الصراع الذي كان
قائما بين قوى الشر والخير ، والذي اخذ طابع الحدية بينهما آنذاك ،
لأسباب ليست من صلب موضوعنا هذا .. وفي الآخر حدث ما حدث ، وكان ما حصدته
ان اكون اول ضابط عراقي بالجيش يحال على التقاعد وثورة تموز لا زالت طرية
ندية …!
وهكذا رجعنا الى بغداد من حيث اتينا ، ولنبدأ من الصفر ، وهنا اكمل قصتي
والمرحوم ابي سنان عبد الجبار عبد الله ..
ولما لم اكن املك دارا سكنية في بغداد ، صار علي ان افتش لأستئجار واحدة
، وبمساعدة الاخت المرحومة السيدة بلقيس عنيسي الأنسانة طيبة الذكر زوجة
ابن العم المرحوم غريب جابر مخيطر ابو معتز عديل عبد الجبار عبد الله
حصلت على واحدة ، ..وشاءت الصدف ان تكون هذه الدار بمقابل دار ابي سنان
تماما ، ولا تبعد عنها سوى بضع امتار بعرض الشارع الفاصل بيننا ، في محلة
العلوية – بغداد قرب الجامعة التكنولوجية حاليا . وهنا سنحت لي الفرص ان
اشاهده عن قرب ، واتبادل التحية والحديث احيانا مع رئيس جامعة بغداد
الدكتور عبد الجبار عبد الله ..
كانت دار سكن ابي سنان وعائلته ملاصقة لدار عديلة وبما يسمى بالانكليزية
( تون ) كان قد اشرف على بنائهما المرحوم المهندس غريب جابر بمساحة 300
متر مربع لكل دار وعلى نمط واحد وبمشتملات قليله متشابهة تماما لكليهما ،
ومن خلال تواجدي بهذه الدار المستأجرة وبحكم الرابطة الاسرية بيننا ،
سنحت لي الفرص الأطلاع على بعض الأمور الشخصية والعائلية لهذه الاسرة
المندائية الكريمة ، وتصرفات الراحل الخاصة الى حد ما ، واسلوب تربيته
لأولده وتعامله مع زوجته وعيال بيته و موقفه من المرأة بشكل عام ، وهنا
اعتقد ان هذا الجانب الشخصي والانساني من حياته ، سيسلط الضوء على نمط
التعامل والممارسات مع الغير من خارح دائرته الضيقة الى العامة ، وعليه
لا غرو ان ابين جانب مهم من جوانب حياة المرحوم ، هذا الجانب الذي لا
يعرفه احد لأنه يعتبر من الامور الشخصية البحتة ..
ففي كل صباح كنت اشاهده ، واقفا امام باب داره وهو جاهز بكامل قيافته
ينتظر السيارة الحكومية الخاصة التي تنقله الى مبنى الجامعة، وما من يوم
اتى سائق السيارة وقرع جرس الباب على الاطلاق ….! فهو حاضرا متهيئ
حاملا حقيبته الصغيرة التي لا تفارقه ابدا، وبعد التحية وسؤال السائق عن
احواله واموره الشخصيه يقوم هو نفسه بفتح باب السيارة للولوج داخلها ،
ولم يدع السائق بفتح الباب ابدا ، وفي الساعه الثالثة واحيانا الرابعة
مساء كل يوم يعود ابو سنان لبيته رغم ان الدوام الرسمي كان قد انتهى منذ
ساعات ، وحال نزوله من السيارة يأمر سائقها بالعودة من حيث اتى ، ولم
اذكر أبدا ان تلك السيارة لأغراض شخصيه لنقل عائلته مثلا .. ! او جلب
حاجة معينة من الاسواق التي اقربها تبعد عن داره بحوالي الكيلومتر والنصف
، كما لم ار على الاطلاق ان زوجته ام سنان استخدمت تلك السيارة يوم ما
لأيصالها الى مدرستها التي كانت تعمل بها كمعلمة ، وحتى الاولاد الصغار
لم يركبوها يوما ..
وبعد عودته من الجامعة مساء ، يتولى رعاية اطفاله الصغار ويعاملهم بكل
لطف ورقة وحنان كان ابا مثاليا بكل معنى الكلمة ، فكان يصطحبهم خارج
البيت ويقوم بجولة معهم نحو حديقة صغيرة كانت قريبة نسبيا من الدار
باتجاه بارك السعدون ، وليعطي الوقت الكافي لربة البيت لتهيئة الطعام
وتوضيب امورالعائله الاخرى ، ولأن ربة البيت كانت قد عادت من الدوام هي
الاخرى ..
وبعد هذه الجوله القصيره وفي حالة عدم رجوعه ثانية الى الجامعه كأمر عادي
ونادر ، كنت اراه جالسا في احد غرف الدار التي اتخذها مكتبا له ، وهو
منهمكا بالقراءة او الكتابه حتى وقت متاخر من الليل ، اشاهده من خلال
الاضوية المنارة ، واحيانا يقوم مساء باستقبال بعض زواره من الاساتذة كما
يترآى لي ….
هذا الرجل كان يعيش وعائلته بهدوء وانسجام تام ، شأنه شأن اي انسان سوي ،
لم اسمع او ارى حدثا او واقعة تجلب الانتباه او تدعو الى التساؤل او
الاستغراب ، وذلك طيلة مدة مكوثنا مقابل دار هذه العائلة الكريمة الهادئة
المطمئنه المستقرة ..
ومن خلال سؤالي اثناء حديث عابر معه باحد الايام ، عن سبب تاخره بعد
انتهاء الدوام الرسمي ..؟ اجابني قائلا ليس نصا ولكن بما معناه …
الوظيفة يا ابو رغيد مسألة ضمير واخلاق قبل ان تكون مسؤولية قانونية خاصة
ما يتعلق منها بشؤون الناس فلا يجوز اهمالها او تاخير البت فيها
اوتأجيلها الى يوم غد كنت اهاب التحدث معه لا خوفا منه ولكن لوقاره
وورعه، ويخال لي بتصوفه وزهده وقناعته التي لا حدود لها، راهبا مندائيا
متصوفا ، فهو يفرض احترامه على من يتحدث معه دون ان يشعر به المقابل بلا
نرجسية او تعصب ، يحترم رأي المقابل ويصغي اليه باهتمام ،سالني ابو سنان
يوما قائلا (لماذا دخلت العسكرية وهي بالضد من معتقدك وتوجهاتك وليس لك
من يحميك بالجيش كما كان سائدا ايام الحكم الملكي ) فاجبته باسبابها ،
الا انه لم يقتنع بها واضاف قائلا يمكنك الان اكمال دراستك الجامعية حيث
لا زلتَ في مقتبل العمر ..! وكانت نصيحة ثمينة لن انساها ابدا ، فاخذت
بها وقد غيرت مجرى حياتي فيما بعد والتحقت بالجامعة المستنصرية حيث أنهيت
دراستي الجامعية.
تعرض هذا العالم الجليل الى الأساءة يوم الانقلاب الاسود في 8 / شباط /
1963 مع الاسف الشديد ، ولم تشفع له منزلته العلمية الرفيعة ، وإداؤه
الوظيفي المميز ، حين حل الحقد الاسود بقلوب الجهلاء ، وعمت البغضاء ،
واكتسحت الاثام البلاد باسرها ، وشوهت كل ما هو خير ، وخربت كل ما هو
جميل ، واباحت القيم والاخلاق وزهقت ارواح الابرياء دون ذنب ، وكان
الراحل احد ضحاياها وقد اصابه ما اصاب من قهر واضطهاد وتعسف والاستهزاء
به وبعلمه ، سببت له اللوعة والالم في أعماق نفسه وصلت الى حد الاحباط
وخيبة الامل ، فزج به داخل المعتقل ، وتعرض الى الاهانه وسوء المعاملة،
وبقى في سجون الانقلابيين حوالي ستة شهور دون سبب مبررا وتوجيه تهمه
معينة ، وتحت تاثير ضغوط الرأي العام المحلي والعالمي اخلي سبيله ، ولم
تمض مدة طويلة على خروجه من المعتقل شد رحاله وعائلته ، ورحل الى
الولايات المتحده بناء على تلقيه دعوة من جامعاتها التي كانت تعرفه وتقدر
منزلته العلمية جيدا ، الا ان فترة اعتقاله الرهيبة سببت له صدمة نفسية
وحسرة واسف على ما حل بالعراق ومزيدا من الألم كتمه ولم يبح به لأحد ،
قيل انها كانت سببا مباشرا لمرضه المستعصي ووفاته من جرائها لاحقا ..
سافر ابو سنان الى امريكا وخلال استقراره هناك ، كنت اقرأ بعض رسائله
التي كان يرسلها الى ابن عمه المرحوم ابراهيم وهام سام الصائغ في شارع
النهر، والتي يؤكد فيها حبه للعراق ونبضه الوطني وذكرياته لأهله واصدقائه
ومعارفه ، ولن ينسى البيت والحديقة والجيران ونخلة البرحي ، وخلال مكوثه
في المستشفى كان يقول ان زائريه كثيرون ، وما يفرحه ان بعضهم لم يعرفهم
او يلتقي بهم من قبل وهذا ما يخفف عنه الام مرضه ,,,!
رحل عبد الجبار عبد الله والى الابد ولكن عطاءه العلمي بقي وسيبقى خالدا
، وجيأ بجثمانه الى بغداد ليدفن بين طيات اديم العراق ، تنفيذا لوصيته
التي تعبرعن بالغ حبه للعراق وصدق عواطفه له ، ومدى تعلقه بارض الوطن
وشعبه وقيمه وسعادة اهله ومستقبلهم.
كان يوم تشييع جثمان الراحل المغطى باكاليل الزهور من دار والده الشيخ
الجليل الكنزفرا عبد الله الشيخ سام رئيس طائفة الصابئةالمندائيين ،
الواقعة في محلة الكريمات قرب السفارة البريطانية القديمة يوما مشهودا
مهيب ، حضر هذا التشيع جمهور غفير ضم بنات وابناء الطائفة ورجال دينهم ،
ووفدا حكوميا رسميا كان رئيس جامعة بغداد الدكتور السيد جاسم سيد خلف على
رأس الوفد ، يصحبه اساتذة وتدريسيون من الجامعة ومن خارجها وكنت شخصيا
مشتركا بهذا التشييع الاليم لهذا الرجل الخالد …
العالم الانسان الدكتور عبد الجبار عبد الله على المستوى الشخصي ، نخلة
برحي باسقة من نخلات بستان عائلة آل سام المندائية الموقرة في مدينة قلعة
صالح ، شجرة طيبة الثمر، كثيرة العطاء، قدم للوطن والعالم عصارة فكره
وعلمه وخبرته وبحوثه العلمية، رجل ديمقراطي بمعنى الكلمة ، قليل الكلام ،
يسمع اكثر مما يتكلم .. وان تكلم اوفى واوجز بما هو احق وأصوب، ثاقب
الرؤى ، رزن ، متزن ، هادئ الطبع ، قوي الحجة واثق منها ، لطيف التعامل
مع الغير ، صديق كل الناس ، متأني بتصرفاته وممارساته الشخصيا ، انسان
سوى بسيط متواضع ، ميال لعمل الخير ، وذو قلب لا يعرف الكره والبغضاء ،
همه سعادة الانسان عن طريق العلم والمعرفة ، يتمتع بحس عراقي وطني خالص
واصيل لا ينازعه به احد … يحب عائلته وعائلته تبادله الحب ، ويحضى
باحترام وتقدير زوجته السيدة الفاضلة قسمة عنيسي الفياض واولاده، وباقي
افراد الاسرة المندائية الكبيرة ، ويحبه كل من عرفه او تعرف عليه من بني
البشر ..!
هكذا عرفت الراحل العالم الدكتور عبد الجبار عبد الله انسانا وابا وصديقا
مخلصا امينا عراقيا مندائيا مسالما
الذكرى الطيبة والخلود كل الخلود لأبي سنان العالم الدكتور المرحوم عبد
الجبار عبد الله السام
يعيش العراق وشعبه الابي بكل اطيافه الجميلة منبعا للعلم والعلماء الخالدين

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here