رؤية في ثورة 14 تموز 1958 في سطور-

بهجت عباس-

(كُتبت بمناسبة مرور خمسين عاماً على حدوثها)

1.هل نستطيع أن نسميها ثورة ؟ إذا فهمنا معنى الثورة لغوياً وسياسياً فهي

انتفاضة شعبية ضدّ الحاكم نتيجة تعسفه وتردّي أوضاع البلد اقتصادياً واستشراء الفساد بأنواعه ، سواء أكان هذا الحاكم خاضعاً (عميلاً) للمستعمر أم لم يكن. فهي إذاً حركة تغيير إصلاحية لصالح الشعب ، كالثورة الفرنسية في 1789 مثلاً . أما الانقلاب ، فهو حركة يقوم بها نفر محدود ، عادة من أفراد القوات المسلحة ، للتخلص من الحاكم ، سواء أكان هذا الحاكم عادلاً أو مستبداً ، وقد تكون غاية الانقلاب ضدّ مصلحة الشعب ، كما هي في حالة أليندي في شيلي . ولما كان الوضع متردياً في العهد الملكي، نتيجة استئثار السلطة آنذاك ، والفوارق الكبيرة بين الأغنياء والفقراء، الطبقة العاملة والفلاحين مثلاً، وانعدام الديمقراطية وعدم تكافـؤ الفرص ، واستحواذ الطبقة الحاكمة والنخبة على موارد العراق، كان هناك تذمّـر شعبيّ واضح أراد تغيير الأوضاع ، مما شجّع الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه للقيام بهذا التغيير معتمدين على مساندة الشعب . فهي أقرب إذاً إلى الثورة منها إلى الانقلاب ، وقد تكون مزيجاً منهما.

ولكنْ مع الأسف لم تـؤدّ ثورة ( وأحب أن أسميَّها كذا مع تحفظّات) 14 تموز 1958 المهمة التي وجب عليها أداؤها ، نتيجة تصارع الأنداد والأضداد، مما أعقب اضطرابات سياسية ، بل كارثية . فهي إذاً ، بطريقة غير مباشرة، تتحمل هذا الوِزرَ .
ولكنها مع هذا كانت غير محتّمة ، أيْ كان بالإمكان تفادي القيام بها والصبرُ مـدّةً أطولَ ، وخصوصاً كان الحكم الملكي ، أو نوري السعيد ، تحت ضغط تأثير محلّي ودولي لإجراء إصلاحات والسير نحو الديمقراطية .
وكان بالمستطاع تطوير النظام الملكي نحو الديمقراطية شيئاً فشيئاً ، أي إطلاق الحرية للشعب على جُـرع أو وجبات يستطيع هضمها ، مع تثقيف عام على أنْ لا فوارقَ بين طائفة وأخرى أمام القانون . على أنَّ هذا الأمر ليس بيسير ، نتيجة عدم تقبّـل كثير من الناس هذا التثقيف نتيجة التقاليد والمفاهيم القبلية والدينية والاجتماعية الطبقية واختلاف المشارب.
ولكنْ في بعض الأحوال يكون استخدام الشدّة أو القـوّة وليس العنفَ ضرورةً لازمة لتحقيق أهداف نبيلة ، كإجبار الطفل على تناول الدواء المرّ الذي يشفـيه إن امتنع عن تناوله أو فرض إطاعة القوانين إنْ تمرّد عليها الفرد.
فبهذا سيكون بالإمكان تغييـر الأحداث ، إذا قام بالأمـر أناس تهمّهم المصلحة الوطنية وخدمة الشعب وليس أهواءهم ومصلحة الذات الأنانية . وهذا يعتمد على الإنصاف في تعيين الكفء بغضّ النظر عن حسبه ونسبه ودينه وقوميته وانتسابه الحزبي أو عدمه .
وهذا لم يـوجدْ في السابق أو الآن . فمسار الثورة أخذ بالانحراف نتيجة تمسّـك مَـنْ هم في الحكم بالحكم والخصومة بينهم في الوقت ذاته ، كما أنَّ العوامل الخارجية التي لم يكن في صالحها هذا التغييـر لعبت الدور الكبير ، مما أثّـر على الزعيم عبد الكريم قاسم كثيـراً ، فخشيته من سيطرة الشيوعيين جعلته يقلب لهم ظهر المِجَـنّ ، فأخذ يحابي أعداءه وأعداءهم ليظهر بأنه محايد ، ولم يكنْ محايداً ، وهم بدورهم لم يلعبوها جيداً لتأثير الاتّحاد السوفييتي عليهم أيضاً.
فالقاعدة الشعبية التي حصلوا عليها فقدوها نتيجة للأخطاء التي وصلت حدّ الإرهاب ليكونوا القوة اللاعبة الكبرى إن لم تكن الوحيدة . فبعد أن كانت أكثر طوائف الشعب متفقـة على إزالة الملكية التي انهارت في ساعات معدودات ، أخذت الأطماع الشخصية الحزبية تطفو على السطح، مما سبّب حساسية لدى بعضهم البعض ، كما أن انعدام الأمن والاغتيالات المنظّمة والاعتقالات العشوائية والتصادمات التي حصلت بين الفئات المتناحرة غيّرت المسارَ إلى الاتّجاه الذي لا رجعة عنه .
فقد لعب الزعيم عبد الكريم قاسم دوراً خطيراً في إجهاض الثورة دون قصد، ربما ليس رغبة منه في الحكم الأبدي ، ولكن ْ لعدم ثـقـتـه بالأحزاب والشكوك التي ساورته من نواياهم . هذه الأحزاب التي لم تنظر إلا إلى مصلحتها الخاصة والتي كان ثمة صراع حتى بين أعضائها، فهؤلاء يتحملون جميعاً العواقب التي ترتبتْ . وإنَّ معاقبة الزعيم عبد الكريم قاسم المخلصين له وإعطاء الحرية أو الوظائف المرموقة لأعدائه والمتربصين به ، في لعبة التوازن المعروفة ، وادّعاءه بأنّه فوق الميول والاتجاهات ، لعبت كلّها دوراً كبيراً ، ولا ننسى حملات الرئيس جمال عبد الناصر التحريضية بإزالة الزعيم قاسم متضامناً مع الدول العربية الأخرى وبعض الدول الكبرى التي تضررت مصالحها الإستراتيجية والحرب الأمريكية السوفييتية الباردة.
10.لمْ يكنْ الزعيم عبد الكريم إلاّ وطنيّـاً غيوراً مخلصـاً ، كان يحبّ

الفقراء ويساعدهم ، وكان نزيهاً ، ولكنه كان مستبداً ، فلم يكنْ يرتاح أنْ

يرى شخصاً غيره تحت الأضواء ، وقد ذكرت هذا ببعض التفصيل

في مقالي في موقع الناس تحت هذا الرابط

http://www.al-nnas.com/ARTICLE/BAbas/7tmuz3.htm

11.لذا أراد أنْ يهمِّش كلَّ منْ رآه استقوى أو اكتسب شعبيّـة ، فقد اعتقد

بأنّه صانع الثورة ومفجِّرها ، وله الفضل الكبير على الشعب، لأنّه هو

الذي حرّرهمْ ، فعليهم طاعته. فجبهة الاتّحاد الوطني التي وحّدت القوى

الوطنية قبل 14 تموز (تفصّختْ) بعد الثورة ، حيث تضاءل دورها ،

فاندفاع الشعب وراء قادة الثورة وذوبانه في العسكر وتطرّفه وانقسامه

بعدئذ شِـيَـعاً وأحزاباً وطوائف ، جعل الجبهة في خبر كان .

12. والصراع الذي اندلع بعد الثورة بين فئات (أحزاب) مدنيّة مُطَعَّمة

بضباط من الجيش كان ظاهره المبادئَ ، قوميةً وحدويةً اشتراكية

شيوعية وغير ذلك ، وباطنه المصالح الشخصية ليس إلاّ . وقد بان

هذا جيداً بعد انقلاب شباط 1963 الدموي، حيث الخلافات والخصومات

والمؤامرات والمعارك اشتعلت بين رفاق الدرب التي أدتْ إلى هلاك

كثيرين منهم بأيدي رفاقهم.

13. أما الحزب الشيوعي ، فقد لعب الدور الأكبر للتهيئة للثورة ، فقد أصبح

كلُّ وطنيّ أو ديمقراطي (شيوعياً) أمام نظر الحكومة الملكية والناس ،

وهذا ما زاد من رصيده. ونظراً للتضحية التي قدّمها الحزب قبل الثورة

أصبح محترماً بين الناس ومَهيباً أمام الحكومة . وهذا ما سهّل للجيش

أن يقوم بالثورة معتمداً على القاعدة الشعبية العريضة للحزب الشيوعي.

لكنَّ الحزب سعى للمكاسب الخاصة به دون أخذ اعتبار الآخرين من

أحزاب ومستقلين. فمن انتمى إليه أصبح ذا شأن ، لذا انتمى إليه انتهازيون كثيرون ابتعدوا عنه بعد انتكاسته في صيف 1959. وهذا من سلبياته . ومن سلبياته أيضاً أنه أخذ يجاري ويحابي الزعيم عبد الكريم قاسم (الذي انفرد بالسلطة تقريباً) بعد نيل الضَّرباتِ منه والتي كانت قوية أحياناً ، فظهر بمظهر العاجز وكان المفروض به أن يقف بصرامة وخصوصاً بعد إجازة عبد الكريم قاسم لحزب شيوعي زائف ، هو حزب داود الصائغ ، بدلاً عن إجازته . وهناك مواقف سلبية بل أخطاء كثيرة أيضاً .

14. وبالعكس من ذلك كانت مواقف الحركات القومية العربية ، أيّدت الثورة في بدئها ، حيث اعتقدت بضمان مصالحها ، وعادَتْـها بعد أنْ عرفت أنها فقدتـها ، فوقفت بشدّة بل بعدوان مسلح ضدّها ، مما اضطر الزعيم قاسم إلى التنازل لهم بإرضائهم بل بضرب الشيوعيين مغازلة لهم.

وكذلك الحركة القومية الكردية لم تكنْ لتتساهل عندما ضُربت مصالحها

فكانت الحرب الذي أدتْ إلى إضعاف قاسم أمام الحركة القومية العربية.

والتزم الحزب الوطني الديمقراطي الحياد بل آثر العزلة ما لم تُسلّم مقاليد

الحكم إلى مدنيين ورجوع الجيش إلى ثكناتهم . لم يؤثر القرار الأخير

كثيراً في المسار. ولا يجب أنْ ننسى الدور الذي لعبه الرئيس جمال عبد الناصر في قلب النظام الجديد الذي أنقذه من حلف بغداد وعداء نوري السعيد.

15. ومن الطبيعي أنَّ عدوَّ عدوِّك صديقي ، إلاّ إذا كان هذا عدواً لدوداً.

لذا يكون تعاون قيادة الثورة الكردية أو عدم تعاونها مع البعثـيّين محتملاً ، تبعاً للظروف الراهنة حينذاك.

16. أما ضرب مصالح الشركات الكبرى بإصدار قانون رقم 80 الخاص بالثروة النفطية ، فهو الذي عجّل الأمر بالتخلص من الزعيم عبد الكريم قاسم .

فليس بهذا ما يخسرون فقط، بل قد يشجع الدول العربية الأخرى ، تحت

ضغط شعوبها ، أن تفعلَ الفعل ذاتَه . أما الإجراءات الأخرى التي قامت

بها الثورة من قانون الإصلاح الزراعي وقانون الأحوال الشخصية وغيرها

فهي التي قصمت ظهر البعير فكان الهياج!

كندا في العشرين من مايس 2008.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here