عندما يختل الميزان

جاسم الحلفي

تميّز النقد لثورة 14 تموز 1958 في ذكراها السنوية الحادية والستين، بالتآسي على مقتل الملك فيصل وافراد من العائلة المالكة وولي العهد عبد الاله ونوري السعيد، وإدانة التمثيل بهم. واستهجان العنف الذي ادى الى مصرع هؤلاء، واستنكار لماجرى في صبيحة ذلك اليوم. وتحميل قادة الثورة مسؤولية ذلك، وهناك من حملهم تبعات الانتكاسات وما آلت اليه الأوضاع وتداعياتها حتى الان!. اكيد ان القتل والسحل الذي حدث في صبيحة ذلك اليوم هو مدان، وغير مقبول، مع ان ذلك الفعل الشنيع، لم يكن ضمن خطة قادة الثورة وتوجهاتهم، كما اكدت كتب ومذكرات من اشترك في الثورة. كما ان الدراسات العلمية الرصينة برأت قادة الثورة من تلك الأفعال الشنيعة. فأصبح معروفا أن من قام بتصفية العائلة المالكة، هو الملازم اول عبد الستار العبوسي، آمر دورة تدريب المشاة الاساسية، الذي لم يرتبط باي نوع من العلاقة مع الزعيم عبد الكريم قاسم. اما ردود فعل الناس، فكانت عشوائية، انفعالية، سجلت كرد فعل لما يعتمر في قلوبهم من غضب جراء معاناة اوجاع الفقر والحرمان والذل. التقييم الموضوعي يتطلب، الى جانب أمور أخرى، دراسة المرحلة المعينة والظروف المحيطة وسياسات النظام السياسي واثره على معيشة وكرامة المواطنين.

بالعودة الى منهج الكتاب نفسه الذين نقموا على تلك الواقعة، وانتقدوها بعيون اليوم، انطلاقا من الثقافة الديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة، واحترام حقوق الانسان وحفظ كرامته، وغيرها من القيم التي لا ينبغي اجتزاؤها وابتسارها، حيث تعني ضمن ما تعنيه، توفير عيش لائق وتعليم جيد ( وصلت نسبة الامية آنذاك الى 80في المائة) واهتمام بصحة الانسان، وكذلك حقه في التنظيم السياسي والنقابي، وحرية الفكر والمعتقد، الى غير ذلك من حقوق وضمانات. وهكذا لم يتناول النقد في الاغلب الاعم، شيئا عن الانتهاكات التي رافقت الحقبة الملكية، والتجاوزات التي طالت الحقوق

السياسية والمدنية، دعك عن الضمانات الاجتماعية، اذ لم نلحظ كلمة انصاف لضحايا ذلك العهد، الذي لم تخل ايامه من القتل والملاحقة والابعاد وسحب الجنسية واسقاطها ونفي المعارضين له، والامثلة على ذلك لا حصر لها. فجريمة شنق قادة الحزب الشيوعي العراقي على الاعمدة يوسف سلمان يوسف وزكي بسيم وحسين محمد الشبيبي، والحرب على قرى كردستان الآمنه جرت في تلك الحقبة، اما معاناة الناس، فيطيب لي اقتباس تعليق للشاعر حميد قاسم كتبه على منشور احد الاصدقاء اذ كتب (ان ماحدث جاء بعد عقود من معاناة الفقراء في المدن والأرياف ومصادرة حقوقهم وتجييرها لمصلحة حفنة من المرتزقة الطفيليين، وتكبيل العراق بمعاهدات جائرة فضلا عن رهن ثرواته للشركات البريطانية، يكفي ان غالبية العراقيين كانت تعيش فقرا مدقعا من زاخو الى الفاو، ومن الرطبة الى بدرة وجصان، العراقي القادم من اي ريف عراقي الى بغداد كان يزف بأهازيج هيه هيه معكل.. والنظام الملكي العفيف كان يمنع ابناء هذا الريفي من تبوؤ اي وظيفة عامة ناهيك عن قبولهم ضباطا في الجيش والشرطة. العراقيون من أصول أفريقية كانوا يعاملون عبيدا وفق نظام رقٍ مهين لا صلة له لا بالمدنية ولا الديمقراطية ولا شرعة حقوق الانسان، العراقيون الذين كانوا درجة أولى هم نخبة بقايا الترك وعملاء الاحتلال ودرجة ثانية هم الشروك والبدو والمعدان والأكراد والمسيحيين، ومنهم جدي فنجان وصديقه سباهي وجدك منهوب، فأسماؤهم بدلالتها العميقة مصدر سخرية وازدراء).

ابتدأت موجة نقد لثورة 14 تموز 1958،هذه السنة مبكرا وقبل موعدها، وتصاعدت حدتها بعد الذكرى بأيام، فيما ساد الصمت ازاء انقلاب 17 تموز 1968 وما انتج من حكم دكتاتوري دموي فاشي اشعل الحروب الداخلية والخارجية، وحكم العراق بالحديد والنار، واتبع سياسية الترهيب والترغيب.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here