القديم هو الجديد في مؤتمر “حزب الدعوة” العراقي

حميد الكفائي
وأخيراً عقد “حزب الدعوة الإسلامية” العراقي مؤتمره السابع عشر، أو (مؤتمر المراجعة) كما سمّاه قادته، بعد تأجيل داما ست سنوات بسبب الخلافات العميقة التي برزت بين قادته إثر سقوط الموصل ومدن أخرى في أيدي الجماعات الإرهابية، وفشل حكومة المالكي في إدارة البلد وتعريضها الوحدة الوطنية للتصدع والتسبب في اندلاع انتفاضة عارمة في المناطق العربية السنية، تلتها احتجاجات مناهضة للفساد والمحاصصة الطائفية في عموم العراق.

كان كثيرون من أعضاء الحزب ومؤيديه والعراقيين عامة، يعلقون آمالا عريضة على هذا المؤتمر، وكانوا يتوقعون أن الحزب سوف يجدد نفسه ويضع أفكاراً جديدة ويختط نهجاً جديداً للعمل يتلاءم مع المرحلة المقبلة، وأن قياداتٍ جديدةً سوف تبرز بعد أن تتنحى القيادات القديمة التي قادت الحزب بقدر من (الاستئثار) وفق قول المالكي في مقابلة تلفزيونية أخيرة! إلا أن كل تلك الآمال ذهبت أدراج الرياح، فلم تتغير القيادة ولم يتغير النهج ولم يجدد الحزب نفسه وانطبق عليه قول الشاعر محمد مهدي الجواهري: “وقائلةٍ أما لكَ من جديدٍ أقول لها القديمُ هو الجديدُ”.

البيان الختامي للمؤتمر أفاد بأن هناك “انسجاما تاماً” بين أعضاء الحزب حول جميع القضايا المطروحة للنقاش! إنه حقا لأمر مدهش ومقلق أن يكون هناك “انسجام تام” بين أي مجموعة سياسية، ناهيك عن أكبر حزب عراقي يقود الحكومة منذ العام 2005 حتى 2018، فالانسجام التام ليس من السياسة بشيء، بل هو دليل على الجمود وغياب الحرية والابداع والأفكار الخلاقة. هل من المعقول أن يتجنب الحزب مناقشة أداء قادته ووزرائه ووكلائه وسفرائه ومديريه العامين ومفتشيه وقياداته العسكرية والأمنية خلال ست سنوات؟ ألم يختلف الأعضاء ولو قليلاً على بعض السياسات السابقة الخاطئة ربما (حاشاهم الخطأ!)، أو الرؤى المستقبلية للحزب وكيف يمكنه وضع برنامج ناجح للحكومة؟

وهل من المعقول أو المقبول ألا يناقش الحزب الكوارث التي حلت بالعراق في ظل أربع حكومات قادها خلال 14 عاما؟ إن كان حقاً لم يناقش أيا من هذه الأمور، فمعنى ذلك أنه غير مؤهل للبقاء في عالم السياسة، وإن كانت كل هذه الأحداث الجسام لم تستحق منه أي نقاش أو جدل، وبقي أعضاؤه منسجمين متحابين كالجسد الواحد، فهناك من دون شك معضلة بالغة التعقيد!

في عام 2014، كان هناك شبه إجماع بين قيادة الحزب على تنحية المالكي عن رئاسة الوزراء، واستعان الحزب بالمرجع السيستاني لإقناعه بالتنحي، ولولا تدخل الأخير، لما تمكن الحزب من استبدال المالكي بحيدر العبادي. كان هناك استياء شديد بين أعضاء الحزب وقياداته من أداء المالكي، خصوصاً تزايد نفوذ ابنه في شؤون الدولة، وتقريبه أصهاره وأبناء أخوته وأقاربه الذين وصل خمسة منهم على الأقل إلى البرلمان إثر تمكينه إياهم من مقدرات الدولة.

لكن الأجواء على ما يبدو تغيرت الآن، والغضب من المالكي تحول بقدرة قادر إلى ولاء، إذ أعيد انتخابه لزعامة الحزب بنسبة 90 في المئة من الأصوات وفق مشاركين في المؤتمر، بل لم يكن هناك مرشح غيره. كما أن القيادات السابقة بقيت كلها في مجلس شورى الحزب باستثناء حسن شبر الذي يقترب من عامه التسعين. مالذي حصل؟ وما الذي جعل قادة الحزب يتراجعون؟ أين المراجعة؟ وأين “الدماء الجديدة” التي وعدوا بها؟ أي رسالة يوجهها الحزب إلى مؤيديه وأنصاره وعموم العراقيين؟ هل هي الجمود والثبات على الماضي وعدم الاعتراف بالأخطاء؟ ألم يتطور خلال فترة وجوده في الحكم؟ ألم يكتسب خبرة من عمله الحكومي؟ أليس هناك سياسات غير صالحة يمكن تغيرها؟

كيف يتوقع “حزب الدعوة” أن يقنع أعضاءه وأنصاره، ناهيك عن عموم العراقيين، بأنه حزب يصلح لقيادة بلد كبير ومتنوع وديموقراطي كالعراق إن كان ثابتا لا يتغير في زمن السرعة والتطور؟ وأي مستقبل ينتظر الحزب إن بقيت القيادات الفاشلة تقوده؟

ما نسمعه من بعض كوادر الحزب، أن المالكي هو السياسي الوحيد “الناجح” والمجرب وأنه أفضل الموجودين! يبدو أن رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي لم يستطع أن يكسب أحدا إلى جانبه، بل خسر حتى قاعدته الحزبية السابقة بسبب انشغاله في إدارة الدولة ومحاربة الإرهاب، كما إنه لم يقرب أعضاء الحزب ولم يمنحهم المناصب، على خلاف المالكي الذي خدم الحزب وأنفق عليه مما رزقه الله!

لم يتمكن الحزب من التخلص من إرث السرية التي يحيط بها نشاطاته وسياساته، بل وحتى أسماء أعضاء مجلس شوراه، والتي لم يعد لها أي مبرر. أعمال المؤتمر ومناقشاته وحواراته والأوراق التي قدمت فيه، لم تظهر لوسائل الإعلام، علماً أن المؤتمرات هي مناسبة ثمينة للأحزاب، خصوصا المعارِضة منها، لتناقش سياساتها وإخفاقاتها وكيفية معالجتها، وكذلك إبراز مهارات قياداتها بمختلف أجيالهم، حتى يظهروا للناس ويبينوا قدراتهم السياسية والإدارية من أجل إقناع الناخبين بأنهم أكفاء وأهل للقيادة. كما لم يتمكن الحزب من أن يقدم للشعب العراقي قادته للمستقبل، فكل القادة السابقين لم يتزحزحوا عن مواقعهم. وليس معلوماً إن كان لدى الحزب مدرسة لتأهيل القادة، فأعضاؤه متمرسون في الدين، لكن ثقافتهم السياسية والإدارية دون المستوى المطلوب.

زعيم الحزب (الأوحد) نوري المالكي قال في مقابلة أخيرة له إن “حزب الدعوة” حزب عالمي، وهو “حزب الأمة الإسلامية”، لكن العراق مهم لأنه “المنطلق” لتحقيق أهداف الحزب العالمية! هذه الفكرة مشابهة لفكرة “حزب البعث” الذي كان يعتبر العراق “منطلقاً إلى الأمة العربية”. مثل هذه الأفكار الطوباوية المُتعِبة للشعوب وغير المجدية، لم تعد مستساغة أو مقبولة لدى الشعوب. لذلك، فإن السعي في هذا الاتجاه هو سعي عبثي لا يخدم الشعب العراقي ولا يؤيده العراقيون، ولا حتى أعضاء “حزب الدعوة” الذين يجب أن يهتموا ببلدهم ويخدموا شعبهم العراقي إن أرادوا البقاء في الساحة السياسية. العراقيون تعبوا من تحويل بلدهم إلى “منطلق” لتحقيق طموحات غير عقلانية لسياسيين لم يخدموا في الحقيقة سوى أنفسهم وعائلاتهم. هل حقاً يريد أعضاء “حزب الدعوة” أن ينذروا أنفسهم ويسخروا قدرات العراق لخدمة بلدان وشعوب أخرى؟ بل هل هم قادرون على ذلك؟

كان يمكن الحزب أن يقتدي بتجربة “حزب النهضة” التونسي الذي تخلى عن نشاطاته الدينية كلياً وتفرغ للعمل السياسي. وفي لقاء مع زعيم الحزب راشد الغنوشي في “جامعة ويستمنستر” في لندن، أخبرني أنه عندما يذهب إلى المسجد للصلاة، يرفض الإجابة على الأسئلة ذات الطابع السياسي، وينصح السائلين بأن يزوروا مقر الحزب ويتقدموا بأسئلتهم السياسية هناك. لم يبدُ “حزب الدعوة” في مؤتمره الأخير حزباً ديناميكياً حيوياً متفائلاً عازماً على تطوير ذاته كما يتمنى أعضاؤه ومؤيدوه، إنما تحول إلى جماعة صوانية طيعة تقودها عائلة المالكي، تماماً كما هو وضع الجماعات السياسية العائلية العراقية الأخرى التي تتوارث الزعامة خدمة لأفرادها. لا أعتقد أن الوضع الذي آل إليه “حزب الدعوة” يُرضي أعضاءه الذين قدموا آلاف الشهداء في صراعهم مع الديكتاتورية من أجل الحرية والكرامة.

* كاتب وباحث عراقي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here