هل من عوامل تدفع باتجاه الحنين غير العقلاني للعهد الملكي في العراق؟الحلقة الرابعة

كاظم حبيب

تتمة أخفاقات العهد الملكي ونضوج مستلزمات إسقاطه
لم تكن الأحزاب والقوى السياسية العراقية، كلها دون استثناء، قد طرحت قبل انتفاضة 1952 شعار إسقاط الملكية، بل كانت كل المطالب، بما فيها مطالب قوى اليسار والحزب الشيوعي العراقي، قد اقتصرت وركزت على الإصلاح السياسي الداخلي، لاسيما حول قضايا الحريات الديمقراطية والحقوق الأساسية للمجتمع وتطوير الاقتصاد الوطني وضد البطالة والفقر …إلخ أولاً، وإيقاف محاولات جرّ العراق للأحلاف العسكرية الدولية ثانياً، خاصة وأن في هذه الفترة شهدت طرح مشروع الشرق الأوسط من جانب الولايات المتحدة الأمريكية في سعي جاد لربط العراق بالقوى العسكرية الغربية. ولأول مرة ارتفع في الشارع العراقي شعار إسقاط النظام الملكي باعتباره المسؤول عن الأوضاع الداخلية المتردية، وعن توريط العراق بالسياسات البريطانية والدولية والحرب الباردة، إضافة إلى التدخل الفظ في شؤونه الداخلية. كما إن هذه الانتفاضة كسبت إليها جميع القوى السياسية العراقية، بما فيها الأحزاب البرجوازية والقومية واليسارية والشخصيات المستقلة، بل وتجاوبت معها بعض القوى الدينية، مثل المرجع الديني الشيعي محمد حسين كاشف الغطاء حين رفض اللقاء والحوار مع السفير الأمريكي في بحمدون/لبنان، متفقاً مع مطلب إبعاد العراق عن الأحلاف العسكرية الأجنبية.
لا بد من الإشارة إلى أن الانقلابات العسكرية التي حصلت في العقد الرابع والخامس، ومن ثم احداث الوثبة والانتفاضات في الخمسينيات من القرن الفائت، قد أدت كلها إلى نشوء معسكرين متناقضين في المصالح والأهداف ومتصارعين في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية اليومية، وهما:
أولاً: معسكر البلاط الملكي والنخبة السياسية الحاكمة المرتبطة بالحزبين الحاكمين الحزب الدستوري برئاسة نوري السعيد، وحزب الأمة الاشتراكي برئاسة صالح جبر، ومعهم شيوخ العشائر وكبار الملاكين وكبار التجار الكومبرادور وكبار الموظفين والمؤسسات الدينية التي ازداد اعتمادها على بريطانيا وعلى القوات العسكرية في قاعدتي الحبانية (بغداد) والشعيبة (البصرة)، وازداد التلاحم بينها والدفاع عن مصالحها المشتركة.
ثانياً: معسكر القوى المناهضة لهذا اتحالف وبنيته التي تشكلت من البرجوازية الوطنية، لاسيما الصناعية، والبرجوازية الصغيرة بفئاتها العديدة كالمثقفين والطلبة والكسبة والحرفيين، وكذلك الطبقة العاملة وجمهرة واسعة من الفلاحين. ولم يكن قوام هؤلاء من العرب فحسب، بل ومن القوميات الأخرى، لاسيما الكرد، الذين لم يشعروا يوما بأنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات وأنهم مهمشون حقاً في المجالات كافة ويعانون من التمييز.
وقد كان تدخل الملك، أو الوصي على العرش، والحكومات المتعاقبة، وخلافاً لدستور 1925، له الأثر الأكبر في التأثير على قرارات وسياسات مجلس النواب وانتخاباته ودوره، وكذلك على القضاء والإعلام، وعلى غياب الاستقرار السياسي. فعلى سبيل المثال أشار الزميل فارس كريم فارس في رسالته لنيل شهادة الماجستير، بعنوان “مستقبل العراق وأثره على الاستقرار الإقليمي، جاء فيها: “فقد تعرض خمسة عشر مجلس نيابي للحل من مجموع ستة عشر منذ انتخاب اول مجلس نيابي عام 1925 الى نهاية حكم الملكية، كما تألفت 59 وزارة بواقع 233 يوم متوسط عمر الوزارة الواحدة وخضعت البلاد في اغلب الفترة المذكورة الى الاحكام العرفية.” (راجع: فارس كريم فارس، “مستقبل العراق وأثره على الاستقرار الإقليمي، معهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية في القاهرة عام 2015م). لقد لعبت النخبة الحاكمة دوراً سلبياً كبيراً في مصادرة الحريات العامة والتجاوز على الدستور وعلى حقوق الإنسان، والتي يفترض أن تُبَّرز لمن لم يعش، أو يقرأ عن هذه الفترة من حياة الشعب العراقي.
في عام 1951 ارتكبت الحكومة العراقية عملاً فظيعاً وفظاً، عملاً عدوانياً مخالفاً لنص الدستور العراقي في تحريمه لإسقاط الجنسية عن المواطنات والمواطنين، في حين أصدر النظام العراقي قانوناً يبيح إسقاط الجنسية عن يهود العراق إن تأخروا ثلاثة شهور خارج الوطن، أو من يريد إسقاطها!! فمارسوا شتى أساليب الاضطهاد والقهر السياسي والاجتماعي بين أعوام 1947-1953 وفيما بعد لكي يتخلصوا من 120 ألف يهودي عراقي. واستمرت هذه العملية إلى أن انتهى وجود أي يهودي في العراق عملياً. (راجع: د. كاظم حبيب، يهود العراق والمواطنة المنتزعة، دار المتوسط، إيطاليا، 2015). لقد كانت خسارة فادحة للعراق بمواطنيها، كما خسر اليهود وطنهم العراق باعتبارهم جزءاً من مواطني ومواطنات البلاد. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن مؤامرة تهجير اليهود كانت رباعية الأطراف ساهمت فيها حكومات الدول التالية: إسرائيل، وبريطانيا، والولايات المتحدة والعراق. وكان توفيق السويدي، رئيس الوزراء، الذي صدر في عهده قانون إسقاط الجنسية عن يهود العراق حينذاك، هو الواجهة، في حين كان نوري السعيد وأغلب النخبة الحاكمة مع هذا القرار والذي صادق على القانون غالبية أعضاء مجلس النواب العراقي وبروز اعتراضات قليلة أو تحفظ.
ومنذ عام 1948 بدأت السجون العراقية تمتلئ بالسياسيين المعارضين لسياسات الحكومات المتعاقبة وسقط لقوى المعارضة شهداء في المظاهرات، وشهدت سجون العراق شهداء سقطوا برصاص الشرطة أيضاً بسبب مطالبتهم الحصول على حقوق سجناء سياسيين وتحسين أوضاعهم. اليكم أمثلة بهذا الصدد:
** في 18 حزيران 1953 نفذت شرطة سجن بغداد مجزرة ضد السجناء العزل، بسبب رفضهم نقلهم من سجن بغداد إلى سجن نقرة السلمان الصحراوي، فأدى ذلك الهجوم الشرس إلى استشهاد سبعة سجناء وجرح 22 سجيناً ونقل البقية 120 سجيناً إلى سجن بعقوبة. (راجع، محمد علي الشبيبي، من أعماق السجون، موقع الحوار المتمدن، 2012).
** وفي 2/9/1953 وقعت مجزرة ثانية في سجن الكوت ضد السجناء العزل الذين كانوا يطالبون بتحسين أوضاعهم وتغذيتهم، إذ شنَّت شرطة السجن وشرطة القوة السيَّارة هجوماً شرساً باستخدام الرصاص الحي ضد السجناء مما أدى إلى استشهاد 8 سجناء وجرح 94 سجيناً ونجاة 19 سجيناً فقط. وأكدت التحقيقات التي أجريت في حينها، بأن إدارة السجون كانت مصممة على “تلقين السجناء والسياسيين عموماً” درساً لا ينسى!! (قارن: عبد المنعم تقي، حادثة سجن الكوت سنة 1953، ملاحق المدى، 28/07/2013).
** في سجن بعقوبة بإدارة مدير السجن علي زين العابدين كان التعذيب والإساءة للسجناء تحصل يومياً، وفي الغالب الأعم دون وجود سبب سوى كون مدير السجن والشرطة يمنحون مكافأة مالية إذا ما استطاعوا إجبار أحد السجناء على تقديم البراءة المذلة، وبسبب حقد وكراهية دفينين. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ركز هذا المجرم في حينها على تعذيب الشاعر والكاتب، الذي غيَّب فيما بعد، عبد الرزاق الشيخ علي، إذ كان يضرب على رقبته بحذائه، مما أدى إلى أصابته بمرض عصبي استمر يرافقه في فترة الإبعاد في بدرة إلى حين اختطافه في بغداد وتغييبه. (راجع: جاسم الحلوائي، حدث هذا قبل نصف قرن 4-4، الحوار المتمدن، عن حالة السجن بين 05/05/-09/07/2015).
في الفترة الواقعة بين 1947-1958 كلكلت السجون العراقية والمواقف على الآلاف من السجناء السياسيين من مختلف الاتجاهات السياسية، لاسيما قوى اليسار وفي مقدمتها أعضاء وأصدقاء ومؤازري الحزب الشيوعي العراقي، وقوى ديمقراطية أخرى ومن ثم بعض العناصر البعثية، وعانوا من مرارة التعذيب الوحشي في التحقيقات الجنائية وفي أغلب الشُعب الأمنية في الألوية بما فيها التعليق بالمروحة، وقلع الأظافر والكوي بالسجائر، والضرب بالصوندات والخيزران.
في عام 1954 جرت انتخابات المجلس النيابي وحصل 11 نائباً من قائمة الجبهة الوطنية على مقاعد نيابية من مجموع 135 نائباً. لم تستطع النخبة الحاكمة وعلى رأسها نوري السعيد تزوير صناديق هؤلاء المرشحين في مناطقهم، كما لم تستطع تحمل وجودهم في المجلس النيابي، فُحل المجلس بإرادة ملكية وبطلب ملح ومباشر من نوري السعيد. وفي هذا العام شكل نوري السعيد حكومة جديدة وأصدر المراسيم الاستبدادية الاستثنائية التالية:
1- مرسوم إسقاط الجنسية رقم 17 لسنة 1954 عن المتهمين والمدانين باعتناق الشيوعية من قبل المجالس العرفية.
2- مرسوم رقم 18 لسنة 1954 القاضي بغلق النقابات والجمعيات والنوادي.
3- مرسوم رقم 19 لسنة 1954 القاضي بحل الأحزاب السياسية.
4- مرسوم رقم 24 لسنة 1954 القاضي بإلغاء امتيازات الصحف.
5- مرسوم رقم 25 لسنة 1954 القاضي بمنع الاجتماعات العامة والتظاهرات.
(راجع: حامد الحمداني، ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاساتها واغتيالها، دار نشر فيشون ميديا-السويد، 2006، ص 60).
وفي هذه الأجواء الإرهابية التي مارسها الحكم أجرى نوري السعيد انتخابات المجلس النيابي وفاز بـ 123 مقعداً بالتزكية ودون منافس من مجموع 135 نائباً، ولم يسمح لأي معارض ديمقراطي أن يرشح نفسه للانتخابات أو يصبح عضواً في هذا المجلس. وبهذا توفرت لنوري السعيد الفرصة الكبرى لفرض السياستين الداخلية والخارجية اللتين جاء من أجلهما. فأقر المجلس النيابي دخول العراق في حلف بغداد (السنتو) عام 1955 بمشاركة كل من تركيا وإيران وباكستان والعراق وبريطانيا وبتأييد كامل من الولايات المتحدة الأمريكية، كما كان قبل ذاك قد وقع على اتفاقية مع الأردن، وميثاق مع تركيا في 23/02/1955 والذي تحول إلى حلف بغداد في تشرين الثاني 1955. وكان الشعب العراقي قد رفض هذا الحلف واحتج عليه وخرجت مظاهرات ضد زيارة عدنان مندريس، رئيس وزراء تركيا للفترة 1950-1960 إلى بغداد، كما كُتبَ الكثير ضد هذا الحلف من جانب قوى المعارضة السياسية. (راجع: ميثاق ثم حلف بغداد 1955، جريدة المدى، العدد 3015، بتاريخ 23/02/2014).
لم تصبر قوى المعارضة كثيراً على الضيم، فانطلقت في انتفاضتها ضد سياسة الحكومة العراقية إزاء تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي ضد مصر في عام 1956. وكانت مشاركة الشعب واسعة في جميع أنحاء العراق. وفي هذه الانتفاضة استخدم النظام الملكي كعادته الحديد والنار لإنهاء الانتفاضة، فسقط شهداء وأعدم آخرون، وأعلنت حالة الطوارئ وصدرت مجموعة كبيرة من الأحكام بحق المتظاهرين وزجوا بالسجون وعانوا الأمرين من التعذيب النفسي والجسدي.
يتبجح البعض بأن النظام الملكي قد عمل الكثير لصالح الشعب، وكأن ليس من واجبه ذلك. إذ لا شك في أن النظام الملكي قد أنجز العديد من المشاريع المهمة إضافة إلى ما أرت إليه في الحلقة الثانية، منها إقامة السدود والخزانات لمواجهة الفيضانات التي كانت تتعرض لها بغداد بشكل خاص، وساهم في دفع كبار الملاكين إلى شراء المضخات والمكائن الزراعية، كما قدم المصرف الزراعي القروض لهم وللمزارعين المتوسطين، مما ساهم في تحسين الإنتاج الزراعي، ولكنه لم يخفف من استغلال كبار الملاكين للفلاحين الفقراء، بل زاد من فقرهم ورغبتهم في هجرة الريف والانتقال إلى المدينة، والتي تفاقمت في العقد السادس من القرن الماضي وشكلت حزاماً حول بغداد والمدن الكبرة الأخرى. وحقق التعليم الابتدائي توسعاً في قبول التلاميذ والتلميذات ووصل التعليم إلى بعض مناطق الريف العراقي، وكذلك ازداد عدد طلبة المتوسطة والثانويات، وازداد عدد الكليات المتخصصة، لاسيما الفروع الإنسانية، إضافة إلى كليات الطب والصيلة والعلوم والهندسة والرياضيات. إلخ، كما اتسعت في فترة الحكم الملكي قاعدة الفئات المتعلمة والمثقفة من الرجال والنساء، واتسع تأثيرهم على المجتمع وعلى وعيهم الاجتماعي والسياسي. وساهمت مؤسسة كالوست كولبنكيان بإرسال عدد كبير من خريجي الإعدادية للدراسات الهندسية، ولاسيما النفط، إلى الولايات المتحدة على نحو خاص، وهو الذي منح 5% من إيرادات نفط العرق الخام المُصدر على وفق امتياز 1924.
لا بد من متابعة بعض المعلومات المدققة عن الاقتصاد العراقي وأوضاع الناس المعيشية والسياسية خلال فترة الخمسينيات من القرن الماضي، لكي نتبين واقع الحال حينذاك ولا نعتمد على الذاكرة التي يشوبها الكبر أحياناً والحنين أحياناً أخرى والكثير من الأمور الأخرى.
لقد عرف الريف خلال سنوات الحكم الملكي الكثير من الهبّات والانتفاضات الفلاحية المناهضة لهيمنة الإقطاعيين على الأرض والماء والحيوان والمكائن الزراعية والمضخات المائية والمحصول واقتطاع أكبر نسبة ممكنة من الدخل الزراعي لصالح مختلف فئات كبار ملاكي الأراضي الصالحة للزراعة والسراكيل، في حين كانت حصة الفلاحين النزر اليسير من الدخل الزراعي، مما دفع بنسبة مهمة منهم إلى الهجرة إلى المدن والعيش في أطرافها على هامش الحياة الاقتصادية فيها. وكانت لهذه الظاهرة عواقبها السلبية على الفلاحين المهاجرين أولاً، وعلى سكان المدن ثانياً. وهذا الواقع المرير دفع بالأحزاب السياسية المناهضة للملكية أن ترفع شعارات مناهضة للإقطاع وتدعو إلى إصدار وتنفيذ قانون للإصلاح الزراعي بما يسهم في مكافحة التخلف وإنهاء سيطرة كبار الملاكين على الأرض والريع المنتج من قبل الفلاحين واستخدامه البذخي الاستهلاكي في المدن. إذ هيمن كبار ملاك الأراضي، أو المستحوذون عليها بتعبير أدق، على نسبة عالية من خيرة الأراضي الزراعية في العراق والتي كانت تحقق لهم ريعاً تفاضلياً بسبب خصوبة الأرض وقربها من الأنهار ومن المدن، في حين كان الفلاحون وصغار المزارعين لا يملكون سوى مساحات صغيرة أو أنهم مجبرون على العمل لدى كبار الملاكين، وهم يشكلون الغالبية العظمى، ويمكن للجدول التالي أن يبين واقع توزيع الملكية الزراعية عشية ثورة تموز 1958:
توزيع الأراضي الصالحة للزراعة في ظل النظام الملكي في العراق في عام 1958
حدود حجم الملكي الزراعية /دونم عدد الملكيات الزراعية المساحة الكلية/ دونم التوزيع النسبي للمالكين % التوزيع النسبي لحدود الملكيات %
من 1 – 100 دونم 144802 2.446.952 86,1 10,5
من 101 – 1000 دونم 70126 5.024.736 11,9 21,5
من 1001 – 100.000 فأكثر 3418 15.855.621 2,0 68,0
المجموع 168346 33.477.309 100 100
قارن: صبري، أنور والخالدي، أسعد. تجربة الإصلاح الزراعي في العراق. ط 1. مطابع دار الثورة. بغداد. 1974. ص 46.
ومنه يتبين واقع غياب العدالة في الاستحواذ على أراضي الدولة من جانب كبار الملاكين، والتي كانت قبل ذاك تحت تصرف الفلاحين المنتجين. ولكن دعونا نتابع اللوحة الكاريكاتيرية التي رسمها نوري السعيد لحل المسألة الزراعية في العراق. ففي عام 1956 ألقى نوري السعيد خطاباً نادراً من إذاعة بغداد أطلق عليه فيما بعد بخطاب “دار السيد مأمونة”، ولم تكن الدار مأمونة، تحدث فيه عن عدد من المسائل منها كيف يعالج مشكلة الأرض، وجوهر رأيه:
يتزوج شيوخ العشائر وكبار الملاكين الكثير من النساء وتنجب زوجاتهم الكثير من الأبناء، وحين يموت هؤلاء الآباء تقسم أراضيهم على الأبناء، وبهذا تتقلص مساحات الأراضي التي بحوزة هذه العائلات!! هكذا تصور نوري السعيد حل مسألة الأرض الزراعية في العراق ومكافحة الإقطاع، على حد قول المثل “عيش يا كديش حتى يطلع الحشيش!”.
أما في القطاع الصناعي فقد تركزت جهود مجلس الإعمار (1950) ووزارة الإعمار (1953) على إقامة مجموعة من المشاريع الصناعية خلال الفترة الواقعة بين 1951-1958، تم إنجاز ثلاثة منها قبل وقوع ثورة تموز عام 1958 فقط، في حين استمر العمل بخمسة مشاريع أخرى أنجزت في أعقاب الثورة. وكانت المشاريع الثلاثة المنجزة هي مشروع إنتاج الإسمنت في سرچنار/السليمانية، ومشروع الغزل والنسيج/الموصل، ومشروع الإسفلت في القيارة/الموصل. أما المشاريع الصناعية التي أنجزت فيما بعد فكانت مشروع السكر/الموصل، ومشروع المنتجات القطنية/الهندية، ومشروع الإسمنت في حمام العليل/الموصل، ومشروع السجاير/السليمانية، ومشروعات إنتاج الطاقة في أبو دبس وبغداد والنجيبية، وتم إنجاز هذه المشاريع في أوائل الستينات من القرن الفائت. (راجع: د. كاظم حبيب/ لمحات من عراق القرن العشرين، المجلد الخامس، العراق بين نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط النظام الملكي، دار أراس، أربيل، 1913). كما ساهم المصرف الصناعي بإنشاء مشاريع صناعية مختلطة، ونشط القطاع الخاص بإقامة مشاريع صناعية عديدة برؤوس أموال محلية. ومن يتابع السياسة التجارية حينذاك سيجد إنها لم تساهم بأي حال في دعم قطاعي الصناعة والزراعة، بل كانت تُغرِق الأسواق بالسلع الأجنبية من منتجات بريطانيا، مما كان يعيق النمو الاقتصادي غير النفطي في البلاد ولم يقلص منافسة السلع الأجنبية للإنتاج المحلي.
ونتيجة ذلك، وبعد أن كان طابع الاقتصاد العراقي المهيمن زراعياً ريعياً وحيد الجانب، أصبح منذ أوائل الخمسينيات اقتصاداً ريعياً نفطياً وحيد الجانب، فتراجعت مشاركة القطاع الزراعي، ومعه قطاع الصناعة الضعيف أساساً، في تكوين الناتج المحلي الإجمالي وصافي الدخل القومي لصالح قطاع النفط الخام. وزادت تبعية العراق استيراداً وتصديراً لبريطانيا ومكشوفيته الكاملة عليها، والذي أدى بدوره إلى عدم قدرة الاقتصاد العراقي على استيعاب الزيادات السكانية المتأتية من بعض العوامل المهمة: ارتفاع معدلات النمو السكانية سنوياً التي تراوحت بين 3-3،2%، وتقلص معدلات الوفيات بين الأطفال لتحسن الحالة الصحية عموماً وتوفر الأدوية، وقد تجلى ذلك في ارتفاع متوسط عمر الفرد وتحسن الهرم السكاني.
من يتابع السياسة العراقية في فترة العهد الملكي يرى بأن هناك مجموعة محدودة من النخبة الحاكمة التي كانت تهيمن على السياسة العراقية وتشكيل الحكومات المتعاقبة لم يتجاوز عدده ألـ 166 شخصاً، وكانت الغالبية منهم من أصول عسكرية، إذ بلغت نسبتهم 60% من مجموع النخبة الحاكمة في العهد الملكي. (راجع: د. عقيل الناصري، الجيش والسلطة في العراق الملكي 1921-1958، دار الحصا، ط1، 2000، ص 135). فالسياسي العراقي المميز نوري السعيد، حليف وصديق بريطانيا والغرب الأول في العالم العربي، كان ضابطاً عسكرياً في الجيش العثماني، تولى رئاسة الوزراء 14 مرة بين 1930-1958، وشارك كوزير للدفاع أو للداخلية أو للخارجية أكثر من ذلك بكثير. وكان لكثرة العسكريين منذ بدء تشكيل الحكومة العراقية الأثر السلبي الكبير على اتجاهات تطور العراق. يشير إلى ذلك بوضوح كبير وصواب الدكتور نبيل ياسين حين كتب”
“أضف الى ذلك ان التركيبة التي وجدها العهد الملكي أمامه ، هي تركيبة تتكون من اكثر من ستمائة من ضباط الجيش العثماني من العراقيين الذين تمتعوا بميزتين ستلقيان بظلالهما الكئيبة على طبيعة السلطة وعلى تاريخ العراق . الاولى كانت النزعة العسكرية التي حكمت عقلية الحكم وسلوك عدد كبير من رؤساء الوزارات المتحدرين من الجيش العثماني مثل نوري السعيد وياسين الهاشمي وطه الهاشمي وجعفر العسكري وجميل المدفعي وعلي جودت الأيوبي ، ولذلك فان استخدام الجيش في حل الخلافات الناشئة بينهم او استخدام الجيش في الانقلابات العسكرية لم يكن بعيدا عن تفكيرهم السياسي الذي يعتمد على استخدام الجيش ، الاداة الوحيدة لحسم الصراع . والميزة الثانية لم تكن منفصلة عن الاولى. فالتركيبة العسكرية هذه لم تنشأ الا وفق اسس عشائرية وطائفية ومناطقية اقامتها السلطة العثمانية وطبقتها في حكم العراق. ولذلك فليس من الغريب او الاستثنائي ان يستمر هؤلاء في التمسك بهذه الاسس وتعميقها وجعلها المعايير الوطنية التي يقوم عليها نظام الحكم ، والتي ستستمر وتكون اساسا لازمة الحكم المستمرة في العراق. ” (المصدر: نبيل ياسين، التاريخ المحّرم، قراءة تحليلية وقائعية للفكر السياسي العربي – العراق نموذجا، الطبعة الأولى 1998).

هذه المقالة والمقالة التي قبلها تقدم ملخصاً مكثفاً عن معاناة الشعب العراقي، لاسيما قواه السياسية المعارضة، من سياسات الحكم الملكي الداخلية، ومن الدور الفظ والكبير لبريطانيا في التدخل في شؤون العراق الداخلية والخارجية، والتي أهمل حكام العراق ذلك، بل ساروا على وفق ما أمر به ممثلو بريطانيا في العراق، المندوب السامي والسفارة البريطانية والتي قال عنها عزيز علي في مونولوج صلي عالنبي:
“صَل عَا لنَّبِي صَل عَا لنَّبِي…واصِل أياغَه هَالصِبِي
مالِح وطَيِّب لَبْلَبِي…خوْش زْلِمَه هَا لجَلَبِي
(مُختار ذاك الصوْب) هَمْ…ممنون مِنَّه والنَّبِي
الّلهُمَّ صَلّي عَا لنَّبِي”.
و”مختار ذاك الصوب” كنية يطلقها ابناء بغداد على المندوب السامي البريطاني، وفيما بعد على السفير البريطاني في منطقة صوب الكرخ ببغداد.” (قارن: منتدى سماعي الطرب (موقع الكتروني). كم أتمنى على من يمدح العهد الملكي أن يستمع بوعي ومسؤولية إلى مونولوجات عزيز علي الكثيرة والمحللة لواقع العراق السياسي والاجتماعي حينذاك. وبهذا المعنى كتب نوري السعيد نفسه وقبل قتله الشنيع والمرفوض كلية، مقالة نشرتها مجلة لايف الامريكية بعد مصرعه شاكياً من دور الغرب في التأثير عليه وعلى سياسات العراق حينذاك ما يلي: “انني كعربي وبرغم صداقتي للعالم الحر ، أقول جهرا : ان طاقتي في التحمل بلغت نهايتها ، فلقد طفح الكيل كثيرا جراء سياسات الغرب معنا . ويشاركني في مشاعري كل المسؤولين العرب في العالم . لقد سبق ان نبهناكم ونصحناكم مرارا بضرورة انصافنا وحل قضيتنا قبل ان يستفحل الامر ، ولكنكم تجاهلتمونا ، فحّلت في المنطقة عدة مشاكل وخطوب .. والان انني ارى كوارث مقبلة في الافق البعيد ، فهي ان حلت عن طريق اليأس .. فلا بد ان يتجدد سعيرها الملتهب على ايدي شيوعيين او ارهابيين في المستقبل القريب ، ويقيني ان اخمادها حين ذاك لن يكون هينا بأي حال من الأحوال.” (راجع: أ. د. سيّار الجميل، العراق 1958 في الوثائق البريطانية الحلقة الثانية: نوري باشا السعيد، موقع الدكتور سيّار الجميل).
من هنا يمكن القول بوضوح شديد بأن المعارضة العراقية كانت على حق كبير حين كانت تدين التدخل الغربي في الشؤون العراقية وتدين حكام العراق الذين كانوا لا يأخذون برأي الشعب العراقي والمعارضة العراقية، بل كانوا خاضعين لسياسات الغرب، ساكتين عنها، ومنفذين لها، وفي مقدمتهم نوري السعيد نفسه.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here