عن مستقبل الحشد الشعبي في العراق

رافد جبوري
28 يوليو 2019
الجدل مستمر، وتتعدد التأويلات بخصوص الأمر الذي أصدره رئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، بخصوص الحشد الشعبي. ولا حاجة للتأكيد على أن القضية في غاية التعقيد، وأن أي أمر حتى لو جاء من رئيس الوزراء بصيغة الأمر الديواني، أي المرسوم المكتوب والذي يصدر وفقا لصلاحياته، لن يحل القضية بسرعة وسهولة. فور صدور الأمر، انتبه الجميع إلى أن أمرا آخر مشابها كان قد صدر عن رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي، لم ينفذ، أو أنه لم ينفذ بالطريقة التي كانت أوساط منتقدة للحشد الشعبي تريد له أن ينفذ.
ينص مضمون أمر عبد المهدي، في جوهره، على الاندماج الكامل لمجموعات الحشد الشعبي، المستقلة فعليا، والتي تتمتع بدعم وعلاقات وثيقة مع الحرس الثوري الإيراني. والاندماج هنا معناه الذوبان الكامل لكل مجموعة، وتحولها إلى وحدة عسكرية تقليدية. يحاول الأمر أن يستوحي قانون الحشد الشعبي نفسه الذي أصدره البرلمان العراقي قبل ثلاث سنوات تقريبا، ولكن فصائل الحشد الشعبي ترى في ذلك نهاية لوجودها فعليا. ولأن عادل عبد المهدي أقرب إلى التوجهات الاستراتيجية للحشد الشعبي، ولأنه لا يوصم بما وصم به سلفه العبادي من قرب للجانب الأميركي، فإن تفسيرا سريعا ظهر للأمر، وتم ترويجه، أن أوامر عادل عبد المهدي هذه محاولة لحماية مجموعات الحشد الشعبي من استهداف أميركي قد يكون وشيكا في إطار المواجهة مع إيران. ربما يكون هذا التفسير قريبا من الصحة، ولكن النقطة الجوهرية أن الحشد الشعبي بات يتمتع بقوة وحضور ميداني وسياسي لا يمكن تغييره، إلا إذا تغيرت المعادلة الدولية الإقليمية، وذلك مستبعد، خصوصا أن التوتر بين إيران وأميركا يتصاعد من غير رغبة حقيقية للطرفين في الصدام العسكري الواسع. كما أن فتوى المرجع الشيعي الأعلى، آية الله السيستاني، التي دعمت تأسيس الحشد الشعبي، وكثر الحديث عنها وعن معانيها بعد ذلك، ما زالت موجودة. وما زال قادة الحشد يستندون إليها علنا في تبرير وجود الحشد، وتعزيزه واستمراره، من غير اعتراض مؤثر من أحد.
وقد مثل ظهور الحشد الشعبي عام 2014 تأشيرا إلى لحظة تاريخية مفصلية، فشلت فيها
“حتى لو تم تطبيق قرار عبد المهدي فعلاً، لن يُنهي أبداً مجاميع الحشد الشعبي” الدولة العراقية، حينما عجزت فيها المؤسسات العسكرية والأمنية التي كانت الأحزاب الشيعية تسيطر على قيادتها عن طريق منصب رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة عن القيام بواجباتها في حماية البلد، وانهارت وحدات كبيرة منها في مواجهة مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). قبل ذلك، كان هناك وجود ظاهر ومعروف للجماعات الشيعية المسلحة، ولكن بدرجة محسوبة ومقيدة للظهور الإعلامي لتلك الفصائل نفسها ولقادتها على حد سواء. منذ ذلك الحين، ترى جماهير عراقية شيعية كثيرة أن الحشد هو الحامي لها وليس الدولة، على الرغم من استمرار السيطرة الشيعية على الحكم. ومنذ ذلك الحين، تصدّر الحشد الشعبي مشهد المواجهة مع تنظيم داعش، وسيطر على الفضاء العام في مختلف أنحاء العراق، وتمتع قادته بظهور إعلامي واضح لم يكن مسبوقا.
كانت هناك أيضا نقطة خيار استراتيجي مهمة في تلك الفترة، تمثلت في خيار دخول الحشد الشعبي إلى المناطق ذات الغالبية السنية، أو تأسيس حرس وطني من أبناء تلك المناطق، ليقاتل فيها. انتهى الأمر بأن يتقدّم الحشد الشعبي ويقاتل، ثم ينتشر في تلك المناطق حتى اليوم، حيث يواجه اتهامات بالفساد وانتهاكات حقوق الإنسان. وبدلا من تأسيس حرس وطني في تلك المناطق، فقد أسس الحشد الشعبي مجموعات مسلحة مرتبطة به من أهل تلك المناطق من السنة.
ولكن العلاقة بين الحشد الشعبي والجماهير الشيعية شهدت أيضا اضطرابا مع توجه المجاميع الرئيسية للحشد إلى العمل السياسي، إذ صنفها متظاهرون غاضبون العام الماضي مع القوى السياسية التقليدية المتهمة بالفساد، وهاجموا مقرّاتها العام الماضي في البصرة، في أحداث
“ترى جماهير عراقية شيعية كثيرة أن الحشد هو الحامي لها وليس الدولة” شهيرة ومعروفة. فيما تستمر الانتقادات للأفعال والممارسات التي تقوم بها مجاميع الحشد الشعبي في المناطق التي تسيطر عليها، خصوصا المناطق التي تمت استعادتها من تنظيم داعش. لا يهتم الحشد الشعبي كثيرا بالانتقادات التي تأتي من خارج الوسط الشيعي، فهي لا تؤثر على وجوده، بل هي تؤدي أحيانا إلى زيادة تأييد أنصاره له. الانتقادات القادمة من الوسط الشيعي هي التي تؤثر عليه، ولكن ذلك التأثير لم يصل بعد إلى درجة التهديد، على الرغم من الأمر الديواني لعادل عبد المهدي.
لا يخلو الأمر طبعا من ضغط أميركي على رئيس الوزراء، أدى إلى التطور الأخير. ولكن من المهم ملاحظة القدرة الفائقة للجماعات الشيعية المسلحة على العودة إلى التشكل والعمل بفاعلية، وهناك أكثر من مثال في هذا الصدد، أهمها فيلق بدر الذي أعلن تحوله إلى منظمة مدنية عام 2003، لكنه عاد بسرعة عام 2014، أي بعد أكثر من عشر سنوات، ليبرز كأكبر مجموعة مسلحة في الحشد الشعبي. كما عاد جيش المهدي، التابع لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، بصيغ وأسماء متعدّدة بعد قرارات تجميد معروفة. لذلك، حتى لو تم تطبيق قرار عبد المهدي فعلا، لن يُنهي أبدا مجاميع الحشد الشعبي، بل ستكون على الأرجح جزءا من القوات المسلحة العراقية، مع استمرار تمتعها بقوة واستقلالية عالية، كما ستحافظ، في الوقت نفسه، على وجودها المستقل، بوصفها جماعات منفصلة، لها قيادات مستقلة جاهزة للعمل بشكل منفرد أو مشترك.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here