الانبطاح طواعية للاعداء وحرق الارض ارضاءا لاسياده,ولم ولن يستلم الا كومة قش لحرقه بها

د.كرار حيدر الموسوي

التعاون مع العدو خيانة… ويبدو أن لا تاريخ محدد لها، فهي قديمة كالدعارة كأقدم مهنة في التاريخ. ولتكتمل الحلقة … هناك مخلصون يفتتدون أوطانهم يقدمون على الموت بسرور، وهناك ساكتون عن الحق وهم كشيطان أخرس، ولكنهم يخرجون من جحورهم ويحتفلون مع المنتصر.. وهناك سفلة وساقطون في قاع المجتمع، وعبر التاريخ يحاولون إيجاد تبريرا لخيانتهم، فمنهم من يقول أرغمت، ومن يقول غرر بي فخدعت، وهناك من يقول الخوف دفعني، وهناك أيضا ربما من يفلسف هزيمته وسقوطه فيقول أنا أردت إنقاذ ما تبقى… وأي كان ادعاء المتعاون فسوف يلصق به ما لا يمكن مسحه أو غسله بكل مياه بحار العالم … الخيانة العظمى …

المتعاون مع العدو هو من يرتكب كبرى الجرائم التي يطلق عليها في القانون ” الخيانة العظمى “. والخيانة العظمى هي الفقرة الأكثر سواداً، يوجه فيها الادعاء العام أقصى العقوبات، ويلحق العار بمرتكب هذه الجريمة، وللأسف بالأبرياء من عائلته، ممن يحملون لقب العائلة. وفي أوربا يستبدل أقارب وذوي معظم من يدانون بهذه الجريمة الشنعاء، يستبدلون أسمائهم(يجيز لهم القانون ذلك)، تهرباً من نظرات الإدانة، أو ربما الخزي والعار، وربما حتى ممن يشفق على أولئك الأبرياء الذين لا ذنب ولا جريرة فيما أرتكب أبائهم أو أقربائهم.

المتعاون مع العدو خائن ولكن ليس كأي خيانة، ففي اللغات اللاتينية (الإنكليزية والفرنسية والألمانية وغيرها) تطلق كلمة ومصطلح خاص (Kollaboration) ، فيما نطلق باللغة العربية كلمة خائن بصفة عامة على خائن الأمانة، أو خائن العهود والخائن بصفة عامة، وحتى في الخيانة الزوجية. فيما نجد أن اللفظة اللاتينية هي أدق وأكثر تحديداً، بالمتعاون (Kollaboreter) لفظة تطلق على حصراً على الخائن المتعاون مع العدو.

ربما يقع أي إنسان في الخطأ، وقد يكون هذا الخطأ جريمة، وقد يقتل خطأ، وتسمى الجريمة ” القتل الخطأ ” لا يقصد فيها الفاعل ارتكاب جريمة، ولكن الأمر حدث خارج عن إرادته، كأن يطلق النار على سبيل المزاح أو أبتهاجاً بحدث ما، فيقتل صديقه أو حتى أحد أفراد أسرته. أو أن فاعلاً يجهل أن ما يفعله يمثل جريمة يعاقب عليها القانون، ولكن القانون يقاضيه، وفق قاعدة ” لا يجوز الدفع بجهل القانون ” . وفي جرائم مثل هذا النوع تحتمل أن يرأف القاضي بالمتهم بسبب توفر دواع تستدعي الرأفة.

ولكن جرائم التعاون مع العدو، والعدو هو الطرف الذي أشهر العداء للوطن، والبلاد معها في حالة حرب فعلية معلنة، وتدور عمليات حربية، أو أحتل العدو البلاد أو جزءاً منها، وحتى في حالة وجود هدنة لا تلغي حالة العداء. والمتعاون قد أبدى أي نوع من أنواع التعامل من خلال تعاون متعدد الصنوف تؤدي لمصلحة العدو، لقاء فائدة مادية أو معنوية يتلقاها المتعاون، أو أي نوع من أنواع التعاون يفضي إلى إلحاق الأضرار المادية والمعنوية بالبلاد.

والتعاون مع العدو، عمل لا يحتمل أي نوع من أنواع التبرير، بوصفه ألحق الضرر بكافة مفردات وتفاصيل ورموز المجتمع المادية والمعنوية. وترمي القوانين الوضعية والسماوية التعاون مع العدو وتصفه بالخيانة، ولا ينفع الدفاع عن فعل التعاون مع العدو أي نوع من إبداء التراجع والأسف، فحتى رجال السياسة وكبار القادة، الذين قد تقبل منهم أخطاء كبيرة ارتكبوها بحسن نية، كالطبيب الذي يخطأ أثناء قيامه بعملية جراحية، ولكن في جرائم التعاون مع العدو لا ينفع معها تراجع أو اعتذار.

أثناء الحرب العالمية الثانية جرت الكثير من الأحداث، وقع بعضها تحت عنوان ” التعاون مع العدو “، وبرغم أن النظام الهتلري النازي كان معادياً لشرائح وفئات اجتماعية ودينية وعرقية عديدة، ثم خاض حرباً عالمية ضروس واسعة النطاق، إلا أن المشرع والقانون الألماني يعتبره نظاماً شرعياً وطنياً، ولذلك….. عندما أتحدت الألمانيتان (1990) كان هناك العشرات، وربما المئات ممن التجأوا إلى الاتحاد السوفيتي، أو إلى البلدان الغربية (بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية)، وبعض من التجأ، قام بفعاليات إعلامية أو عسكرية ضد ألمانيا، وكوفئوا بعد سقوط النظام الهتلري النازي على يد الأنظمة السياسية المؤيدة للاتحاد السوفيتي أو للغرب.

ولكن لكي تستقيم الأمور، ويأخذ القانون مجراه، قام المدعي العام الألماني بإحالة كل هؤلاء إلى القضاء، ونزع منهم أوسمتهم، وألقابهم التشريفية، رغم أن الكثير منهم كانوا قد توفوا، وآخرين خارج إطار المساءلة القانونية، ولكن القانون لابد أن يستقيم. المدعي العام أشار أنه يدرك أن بعض هؤلاء فعل ما فعله ليخفف ألام الشعب الألماني ويسرع في نهاية نظام يحتضر، لكن القانون لا يتعامل مع توصيفات فنية وأدبية وسياسية. فالمسؤول الحكومي الذي فر إلى جهة معادية (وفق القانون) كان الأجدر به أن يقوم بخدمة مواطنيه وتوفير الخدمات الأساسية لهم، لا أن يشتغل بالسياسة ويجتهد بالتعاون مع هذا الطرف أو ذاك، وهو أمر غير مكلف به قانوناً.

الماريشال بيتان، الذي أطلق عليه لقب ” منقذ الأمة الفرنسية ” في الحرب العالمية الأولى، بعد أن أحتل الألمان العاصمة الفرنسية باريس في الحرب العالمية الثانية وسقطت الدولة، تقدم من تقاعده، وتصدى لإعادة الدولة في المناطق التي لم يحتلها الألمان وهي نحو ثلث أرض الوطن عدا المستعمرات الفرنسية الواسعة الأرجاء، ومن بينها الجزائر التي تفصلها عن فرنسا البحر المتوسط. ولكن هذا لم يشفع له فعلته، فقدم إلى المحاكمة بتهمة الخيانة العظمى والتعاون مع العدو، لم ينبس ببنت شفة خلالها، وحكم عليه بالإعدام، ولكن تم تخفيض الحكم وتوفي في السجن بعد أعوام قليلة وكان قد تجاوز التسعين من العمر.

العبرة من هذا العمل المساهمة بتكوين وعي وطني / سياسي ــ قانوني، وأن نبين للقراء كافة، أن التعاون مع الأجنبي الطامع بالبلاد ليست عملاً سياسياً حتى لو ارتدى هذا اللبوس، بل هي خيانة عظمى، وبصرف النظر عن عقوبتها الجزائية، فإن جزائها الوطني والاجتماعي، عقوبة مميتة ولطخة عار أبدية لا تزول.

ليس هناك تصريف قانوني / جزائي لهذا الفعل (التعاون مع العدو) سوى الخيانة العظمى لا محالة.

الوطن ليس لعبة تنتقل من يد لأخرى …. والوطنية ليست وجهة نظر …..!

المحتل المستعمر لا يصغي لصوت الحكمة عندما يلوح الفشل أمامه، بل يكثف من جهود هي في نهاية المطاف فاشلة، ويجازف بإعادة المحاولة، عله يكتشف وسيلة جديدة تمكنه من البقاء أو تطوير بقاءه. ومن جملة ما يحاوله المستعمر، هو الدخول إلى جملة المعادلات الاجتماعية / الثقافية ويحاول أن يدخل تعديلات فيها من أجل الدخول إلى قلب المعادلة السياسية، فيغيرها لصالحه، وهو يدرك أن مفتاح الشعوب هو تقاليدها الاجتماعية والثقافية (الدينية / الإيمانية / العقائدية).

هكذا يفعل المستعمرون والقوى الشبه استعمارية التي تهدف إلى التوسع، قديماً وحديثاً. بدرجات متفاوتة من النجاح، ولكن هذه السياسة التي تذر الرماد في العيون لإخفاء وتضليل الهدف الحقيقي للمستعمر، وهو الاستيلاء على البلاد.

الحقيقة أنه أمر لا يكاد يصدق، لماذا يقدم رجل أو إمرأة على خيانة الوطن ..! من دراستي خلال إعداد هذا المؤلف، قرأت لملفات الكثير من الأبطال والخونة، أن المقاوم هو عاشق للوطن، هو ذو نخوة وغيرة وكرامة، وأن الخيانة بالمقابل هي توليفة، فيها شيئ الميل للإيذاء، وشراهة نحو شيئ وفره له العدو بسخاء ليخون وطنه ( مال، ميول وأهواء، احترام مفقود) إضافة إلى انحدار خلقي جبل عليه ربما من طفولته، لعيب خلقي في بدنه، أو حفرة عميقة في نفسيته بسبب الغيرة والحسد، أو بعض من أمراض نفسية تدفع المرء إلى الانحطاط. وهناك في علم النفس وعلم الإجرام وعلم النفس الجنائي بحوث عميقة الغور، من سوء الحظ أن يسقط فيها أحدهم أو إحداهن، فيتحول إلى خائن…في إحدى قصص التجسس، أحدهم يخون الجهة التي ائتمنته، لقاء المال، وكانت له فيها شراهة، وبعد مدة طويلة من التعامل، كان الجاسوس يختزن فيها المال القذر الذي يناله نظير خيانته، وبعد مدة أكتشف أن النقود التي كان يستلمها هي مزورة، لا تساوي الورق المطبوع عليها.

المجرمون يحرقون الارض ، والطيبون يحيونها-موقفان ، بعيدان جداً عن بعضهما ، ومراميهما ، شكّلا عندي منعطفاً عميق المعنى ، لا زال يرنُ في وجداني ، منذ أن اطلعتُ على تفاصيلهما في الأمس .. تُرى ما الذي يجمع نقيضين على سطحٍ واحد ؟ ، احدهما حالك السواد ، بعيد عن الإنسانية ، والآخر ناصع البياض ، قريبٌ من الله .. وهذان الموقفان هما ، حملات الإبادة التي قام بها المجرمون لأقدس المحاصيل الزراعية ( الحنطة والشعير ) غذاء الإنسانية من خلال حرق آلاف الدونمات من الأراضي المزروعة بهذين المحصولين الاستراتيجيين ، وهي محاصيل تشكل عماد المعيشة لمئات بل آلاف المزارعين وعوائلهم ، ما ادى الى زيادة مساحة الأرضي السبخة ، التي اصبحت غير صالحة للزراعة لسنوات قادمة واتساع مساحة التصحر في بلدنا.. والموقف الآخر على النقيض تماماً ، هو حملة البنك المركزي العراقي بالتعاون مع وزارة الزراعة ، لزراعة شتلات متنوعة بواقع 200 الف شتلة ، وهي حملة ممولة من صندوق ” تمكين ” الذي يشرفُ عليه البنك المركزي العراقي ورابطة المصارف العراقية الخاصة ، وشركات الصرافة…ان خطوة البنك المركزي العراقي ، في مبادرة ” تمكين ” تؤكد ان العراق الحقيقي ، هو اليد البيضاء التي تمتد لتزرع الخير ، وتوزع الشتلات الخضراء التي تنعش الأرض والهواء ، فيما الأيادي السوداء ، هي التي تسعى الى فرش الظلام ، لكن إرادة العراقيين اقوى ، واكثر صلابة ، واجدُ ان كل شتلة جديدة تُزرع في ارض العراق في مبادرة ” تمكين ” هي عصا غليظة بوجه أدوات الرذيلة التي قامت بالعمل المشين الذي ادى الى موت هكتارات من الاراضي المزروعة بخير المزروعات ، واقدسها .

ان الـوطن كلمة صغيرة ، من خمسة أحرف لكنها تختصر معاني الدنيا كلها ، فهو التاريخ والأمان والحضن ، هو الذي يسكننا ، وكلما ابتعدنا عنه ازداد احساسنا به وزاد ارتباطنا به.. وجريمة الحرائق التي عمت اجزاء عديدة من الاراضي ، ينبغي ان تكون حافزا لجميع الوزارات والدوائر للقيام بحملات شبيهة بمبادرة البنك المركزي العراقي ورابطة المصارف الخاصة ، حتى نعطي صورة صلدة للأعداء بان في العراق ركائز ودعائم ، تقف متحدية الصعاب وصناع الموت ، حيث يحذر المعنيون بالتربة والزراعة ، من مغبة الفعل الاجرامي المتمثل بحرائق محاصيل الحنطة والشعير ، كونها تؤدي إلى اتساع مساحة التصحر وتدمير التربة الصالحة للزراعة ، وهي من أخطر التهديدات البيئية ما يعرض الأمن الغذائي العراقي للخطر ، وربما نتائجها سلبية وكارثية من ناحية فقدان الأراضي القابلة للزراعة وتحرك الكثبان الرملية باتجاه المدن والمناطق الزراعية .

الكثيرين الآن (وبتخصصات مختلفة) وصلوا إلى ما وصلوا إليه من مراكز ومناصب بالتزوير والكلاوات والمحاصصة المقيتة، وذلك باستثمار علاقاتهم، السياسية (منح الولاء السياسي وهي غير القناعات المبدئية ..!) أو قدراتهم المالية، أو علاقاتهم الأسرية والعشائرية، أو قابليتهم في التملق والتسلق والتحليق للمراتب العليا، بلا كفاءة ولا استحقاق وبما نسميها في العراق (باللواكة)، وفي بلاد الشام تسمى (مسح الجوخ) ولربما أكثر والله أعلم ..! وقد أصبح في أيامنا الكالحة هذه بحد ذاته مدرسة فنية طويلة عريضة. وليس من الغريب في هذه الحالة أن يتقدم هؤلاء المتسلقون الصفوف، ويقدمون خدمات تنطوي على التملق والاستخذاء …

بتقدير الكثير من العلماء والمختصين، فإن واحدة من أشد نكبات البلدان النامية (العالم الثالث)، هو حلول شخصيات سياسية أو تكنيكية في مواقع لا تستحقها، بمعنى أنها غير مؤهلة وبالتالي قادرة : على أولاًــ إيفاء موقعها حق قدره، كفاءة وعطاء، وثانياً ــ تطوير الموقع نفسه، وهذه مستحيلة، وغالباً ما يتم ذلك على حساب إقصاء العناصر القديرة والكفوءة، وهذا يتم تحت شتى المبررات. ويجري هذا في داخل البلد وخارجه، ففي داخل البلاد، الكثير جداً ممن يتبؤون مناصب كبيرة لا يحملون تأهيلاً حتى بسيطاً، وبالتالي من المؤكد أنهم لا قدرة لهم على إدارة مستحقات الوظيفة ولو بالحد الأدنى من الكفاءة. وقد تدور هذه العملية بتخطيط متعمد، والهدف هو واحد : هو تسليم البلاد لمن لا يستحقه. ولكن العملية تدار أحياناً بشعارات وعناوين أخرى لتصبح مهضومة، وقد شاع هذا الطراز من القيادات الوظيفية وجرى تطبيعه بحكم القانون والاستمرارية، وعبثية الاعتراض والاحتجاج حتى أصبح ” طبيعياً “، واليوم أصبح هذا الضرب من الوصول والتوصل مفهوماً عاماً وقد سأم حتى الرأي العام عن الحديث به …. بل أصبح من النادر أن نصادف خلال حياتنا العملية موظفاً كفوءاً يقوم بواجبه بصورة صحيحة. ويجري هذا في كافة مرافق الحياة دون استثناء والمحصلة واضحة، كارثة على جميع المستويات.

وفي العمل الخارجي، طالما شاهدنا شخصيات أوفدت للخارج للعمل كسفراء، وهم في الواقع مبعدون عن الحياة السياسية، أو شخصيات يراد لها أن تستمتع بمزايا الخدمة الخارجية ولكن دون استحقاق ولو بدرجاته الدنيا، فتجد سفراء لا يعلم معنى الدبلوماسية، ولا حتى ألف باء العمل الدبلوماسي، وملحقون عسكريون لا يعرف أبسط المفاهيم العسكرية، وملحقون اقتصاديون لا يعرفون حجم التبادل التجاري بين بلادهم التي أوفدتهم، والبلد الذي يعمل فيه ..! فقد أرسل ليتولى هذا المنصب فقط لأنه شقيق زوجة المسؤول الفلاني، أو قريبه بدرجة ما. أو من عشيرته، أو من بلدته، أو من الحزب السياسي الذي ينتمي له. ولهذا تعاني المؤسسات من عجز لا يمكن تصوره، والنتائج بطبيعة الحال لا تسر القارئ. وأمثال هؤلاء الموفدون لا يجهدون أنفسهم حتى بتعلم المهنة، لأنه نالها دون استحقاق وسيتمتع بها طالما هو يتمتع بالصلة (س) الذي أهلته لهذا المنصب المهم الذي يدفع الشعب راتبه وتمتعه من عرق جبين الكادحين.

ذات يوم قلت لشخصية حكومية، وكنت صادقاً ومخلصاً فيما قلت: ” ليت شعري ماذا يفكر السيد (س) وهو يتناول فطوره ثم يضع رباط العنق ويرتدي سترة فخمة، ذاهب للعمل … وأي عمل ..! رئيساً للوزراء …!، ترى ماذا سيجيب وزير المالية إذا سأله بضرورة عمل مناقلة، أو تدابير العجز في الميزان التجاري، أو معالجة التضخم، وهناك تقليعة جديدة أن يكون حتى المستشارون أشباه أميين، أو وزيراً لا يعرف عن شؤون وزارته حتى الخطوط العريضة .. ونسمع يومياً تبوء فلان وهو بالكاد يفك الخط خريج ابتدائية. فأجابتني تلك الشخصية ” لا توجد مشكلة فوزير المالية نفسه لا يعرف ما تعني المناقلة ” مالعمل … لا شيئ سوى انتظار أن تتوقف الطاحونة ذات يوم عن الجرش والهرش ..

والكارثة الأكبر هي عندما يصل البعض للزعامات القيادة في الأحزاب الثورية بأساليب ما أنزل الله بها من سلطان فهذا هو عجب العجاب والعجائب. وفي تقاليد الحركات الثورية، هناك شروط صارمة لتولي المناصب القيادية وهي قائمة على ثلاثة شروط رئيسية وسوى ذلك صعود غريب سيحين يوم سقوطه الغريب :
1. القدرة التنظيمية: وهذا يتطلب أن تكون له خبرة وإمكانية جيدة عمل في مختلف القيادات السياسية.
2. القدرة الثقافية / الفكرية: وهذا يتطلب أن يكون القائد السياسي على درجة رفيعة من الثقافة.
3. التاريخ والتجربة النضالية: وهذا يعني أن يكون القائد قد خاض عمار معارك نضالية صعبة اجتازها بنجاح.
وقد هبط اليوم مستوى التقاليد الثورية بدرجة بحيث شاع بدرجة ما توريث الزعامة السياسية للأبناء بعد وفاة الآباء، ويجري ذلك على صعيد توريث الحكم والزعامة الحزبية من ضمنها .. والغريب أن بعض الكوادر القديمة لا تمانع هذه العملية المسلوقة (وأحياناً المشبوهة)علناً، لأنها فقدت القدرة على النطق العلني، فيدور كل شيئ في الخفاء، لذلك تشيع التكتلات الحزبية لأن لا أحد يستطيع الإدلاء برأيه علناً ولا يغامر برأسه، والتكتلات آفة العمل السياسي / الحزبي، وشيوع وأتساع ظاهرة الأستزلام في الأحزاب الثورية، حتى بلغ الأمر أن يمارس الاستزلام والتكتل في القيادات الصغيرة، وهكذا يتسلل العطب للتنظيمات الثورية أيضاً .. فهذه الظواهر متلازمة الواحدة تسحب الأخرى، وتعدد الأقطاب يقود أيضاً إلى سهولة عمليات الاختراق، وهي آفة الآفات، وهكذا يفقد الحزب الثوري خصائصه الثورية ويتحول إلى تجمع لا علاقة له بالتغير الذي تعلق الجماهير آمالها عليه…. !

ومن المؤسف أن يصبح حتى التعليم ملعباً للغش والتزوير، ففي إطار هبوط عام يصيب البلاد والمجتمع، وإذا كان الخوف من القانون قد ذهب مع الريح، فعلى الأقل ينبغي أن يكون هناك حياء يتمتع به الإنسان السوي، وأن لا يهبط لمستوى الجدل (أدعاء العلم). وبلغ الحد بالناس (للأسف) أنهم صاروا يتقبلون ويألفون (بحكم الاستمرارية والعادة) فكرة الشهادة الدراسية والعلمية المزورة، وبعضهم يتفهم ويجد العذر لمن يزور الشهادة العلمية مع أنها تعتبر جريمة في القانون يعاقب عليها بالسجن. وآخر يبلغ الإسفاف به درجة أن يقول ” يعني الدكتوراه مشكلة ؟ ” فأجيب بالطبع ليست مشكلة، ولكن الأمر يحتاج لأن يربط الإنسان نفسه على مقعد الدراسة لنحو 10 سنوات (كلية / ماجستير / دكتوراه) يكد فيها بمعدل بين 7 / 10 ساعات يومياً. والشهادة الجامعية تعني أنه مؤهل للبحث في تخصص معين ولا تعني مطلقاً أنه مثقف، وبعض من هؤلاء يتجرأ ويطرح نفسه كمفكر حتى ….

وفي بلداننا فإن الأمر قد تحول لمشكلة حقيقية، فهناك كم غير معروف، ولكنه حتماً بالألوف من شهادات الثانوية والكليات، وللأسف شهادات الماجستير والدكتوراه، إما مزورة بشكل كامل، أو أنه أشتراها من مؤسسة علمية / تجارية، أو من جامعة غير معترف بها، وشخصياً واجهت الكثير من هؤلاء، ينتحلون شهادات وألقاب علمية (في الطب والقانون، والاقتصاد، والسياسة والتاريخ …الخ). وفي البلدان التي يحترم فيها القانون، يتعرض من يحمل شهادة مزورة أو صادرة من جهة غير معترف بها علمياً للمساءلة القانونية، كمن يحصل على شهادة طبيب من سمكري أو نجار، شهادة لا تساوي حتى الورق الذي كتبت عليه، ولكن صاحبها يضعها في إطار فخم وتعلق في صدر الصالون كتحفة، وحاملها يضع ( د. …) قبل أسمه الكريم، الذي قد يكون أسماً وشخصاً كريما حقاً، وقد يكون شخصية لطيفة بدون هذا اللقب، ولكن الناس وما يهوون مذاهب ..

لاحظ عزيزي القارئ … أن هذه الظاهرة بأتساعها تمثل مشكلة خطيرة، وهي تنمو طولاً وعرضاً، كما ونوعاً, وهناك أشخاص كنا نعتبرهم من الشخصيات المحترمة، فإذا بها تجازف بسمعتها الطيبة وتقامر مقابل مكاسب تافهة لا قيمة جوهرية لها، وهذا يعبر بدوه عن تغير في قيمة اعتبارات النزاهة والكرامة وتجنب السقوط في مزالق معيبة، للأسف هذه ظواهر بقدر ما هي مؤسفة، هي مزعجة أيضاً أن يفقد الناس القدرة على الخجل …. كل ذلك مؤسف … مؤسف بدرجة كبيرة، ولهذا السبب وغيره انحدرت مستويات القيم السياسية والاجتماعية والثقافية لهذه الدرجة المؤلمة، فهؤلاء الذين نعنيهم هم المسئولون بدرجة أساسية عن حالة الانحطاط، وبعدها الإمبريالية والصهيونية والأعداء الخارجيين عليهم اللعنة أجمعين ..

صناعة المجتمع المجرم-تتحول بعض المجتمعات الى مايشبه المنظمة الإجرامية التي تحترف القتل والسرقة والنصب والإحتيال والترهيب والسيطرة على الإقتصاد,,,يكاد العراق يتحول الى هذا الشكل من المنظمات مع إزدياد عدد السكان، وإنهيار منظومة التربية المجتمعية والتعليم، والبطالة، والفساد، وتشكيل مافيات حكم وسلطة تعتني بمصالحها، وتهمل القيم التربوية والأخلاقية، مع إنزياح الشباب نحو شكلين من الضياع

الأول: يتجه الى التدين الأعمى والساذج، ودون تبصر ومعرفة وفهم ماأربك ساحة المجتمع، وقاد الى التخبط، وفقدان المشروع الإنساني الذي يركز على العقل والخلق القويم، وأحدث تشابكا وعنفا وتخلفا فكريا لايمكن الوثوق به مطلقا.

الثاني: يتجه الى التحلل من القيم الأخلاقية والدينية والإلحاد، وممارسة طقوس وعادات غريبة، والبحث عن الملذات دون إهتمام بالقوانين، مع تزايد حالات الإنتحار والقتل والسرقة والفساد الأخلاقي، وظهور جيل من الشبان المنحرفين الذين لايهتمون للقيم التربوية والدينية.

العراق بلد الدكتاتورية والطغيان، بلد الحصارات والموت والجوع والمرض،بلد الحروب التي لاتنتهي واحدة منها إلا وأعقبتها ثانية، بلد الفساد ومافيات الخراب والضياع والولاءات الحزبية والطائفية الباحثة عن المناصب والأموال والسلطة التي تتقدم على ماعداها من قيم الأخلاق والدين والمعرفة.

هل نتحول الى أعضاء في هذا المجتمع المجرم، والمتجه الى هاوية التخلف الفكري والحضاري، والمتحمس للخزعبلات والخرافات والتعصب القومي والمذهبي والمناطقي الذي يحول الإنسان الى آلة تعمل بنظام التوجيه المباشر دون تفكير ودراسة وفهم للوقائع والأحداث؟في مقابل ذلك فإن إرثا حضاريا عظيما يمتلكه العراق، وقيما مقدرة وقوى ناضجة وواعية يمكن أن تعيد الأمور الى نصابها، أو تؤسس لمجتمع متحرر ومتنور وباحث عن فرص حياة أفضل يمكن أن يتفاعل مع التطورات والنهضة الحضارية العالمية الكبرى، وليس مجرد لاعب ثانوي ومستهلك لمايصنعه الآخرون.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here