تموز 1958 وتباين الرؤى

على الرغم من مضي قرابة قرن من الزمن على تأسيس الدولة العراقية الحديثة، الاّ انها فشلت في بناء دولة المواطن وفي كل تجلياتها وتعبيراتها السياسية وأشكال حكمها، وهذا اﻷمر أو الإستنتاج ينطبق ويشمل وعلى حد سواء كل اﻷنظمة التي حكمت العراق وتربعت على عرش السلطة، إبتداءا من النظام الملكي وإنتهاءا بالنظم الجمهورية الستة. وإذا ما أردنا الغوص والخوض في اﻷسباب التي وقفت ولا زالت وراء ذلك وعلى نحو سريع، فيمكننا إختصارها بالقول، أن الولاءات والإنتماءات الطائفية والدينية والمذهبية والقومية، كانت هي المحرك اﻷساسي في تشكيل وسيرورة هذه الدولة والهيمنة عليها، واﻷخطر من ذلك هو عدم فصل الدين عن الدولة، مما أدى الى نشوء وتنامي حالة من الإغتراب والبعاد بين هذا الذي سنسميه مجازا بالمواطن من جهة، وبين مَنْ يتربع على دست الحكم واﻷجهزة والمؤسسات التابعة لها من جهة أخرى، وأظنها ستبقى كذلك إن لم تحدث ثورة حقيقية في الدساتير والقوانين والمفاهيم، والتي ينبغي لها أن تصل وبالضرورة وكما يُفترض الى خلق معادلة جديدة، تجمع طرفي المعادلة، ولنسميهم هنا بالشعب أو المجتمع من جهة، ومَنْ يدير دفة البلاد من جهة أخرى. وهنا ينبغي أن تكون القاعدة اﻷساسية للحكم ونقطة إرتكازها: في أن تنظر الدولة الى مواطنيها بسواسية وعين واحدة، من دون تمييز في العرق أو الدين أو اللون وما شابه ذلك، وتحت سقف واحد مصون ومحمي بالقوانين الوضعية وبالشرائع السماوية ذات الصلة. آخذين بنظر الإعتبار التطورات الحاصلة في محيطنا والعالم وما بلغته من تقدم وعلى كافة المستويات، لتنعم وتتمتع كل مكونات المجتمع دون إستثناء بكامل الحقوق وعلى قدر من المساوات، متطلعين الى غد أفضل، يليق بهذا الشعب، وليس في ذلك منة من أحد .

ــ 1ــ

في البدأ، إن كان هناك من قول فأرى في هذه الكلمات مفتتحا: الرحمة والراحة اﻷبدية للمغفور لهما جلالة ملك البلاد، فيصل الثاني، والى مَنْ أتى من بعده عبدالكريم قاسم. وانسجاما ومعتقديهما وتصالحهما مع ما يؤمنان به، فهما المحتسبان والمقيما الليل ومقعدانه وإن بدرجات مختلفة. لم يأخذا من الدنيا حين حتفهما غير الوراعة والزهد، ولعلي في هذاسأتقاطع مع الكثيرين وأختلف، وعذري في ذلك العودة الى التأريخ ووجوب قرائته والتمعن فيه بعين من السماحة والحيادية والمسؤولية، مغلبين ومنحازين الى سلطة اﻷرض التي نعيشها والمسماة وطنا وما ستمليه علينا هذه العلاقة من التزامات ووقفات.

فاﻷول (مليك البلاد)كان له أن يستخدم سلطاته المطلقة بإعتباره رأس السلطة والواقف على هرمها ليرد الطعنات ويسددها ضد مناوئيه، غير انه لم يفعل بل إختار وعائلته رفع المصاحف لتكون شفيعهم، الاّ أن آلتي الحقد والكراهية كان لهما السبق والقول الفصل. والثاني (زعيم البلاد)سار على نَهجِ خُلقهِ وما تربّى عليه وجُبِلَ، فعفا عن غادريه ليأتيه السلخ فيما بعد من جهات متعددة، ولعل أشدها مضاضة ما جاءته من اﻷقربين، ليدفع الثمن باهضا، ومن بعدهما راحت الدولة والشعب الى منزلقات خطرة حتى هوََتْ الى اللاّ قرار، غير انهاستعود قوية معافاة، إن إتعضَ وحفظ الدرس بناتها القادمون.

ــ 2 ــ

يخطأ من يظن أنَّ العراق ما بعد منتصف تموز عام 1958 مال في سياسته وولائه نحو الغرب ، هذا ما قاله فريد هاليداي، الكاتب الإيرلندي الشهير والمتابع عن كثب لتطورات اﻷحداث في منطقة الشرق اﻷوسط، المضطربة والدائمة السخونة. وربما موقف الكاتب هذا ودفاعه عن تلك المجموعة التي أطلقت على نفسها ما سمي آنذاك بتنظيم الضباط اﻷحرار، والتي كان هدفها اﻷساس والرئيسي، العمل على الإطاحة بالنظام الملكي وتحقق لها ما أرادت، يعود الى يساريته وماركسيته قبل تحوله ليكون ليبرالي الهوى. رأي الكاتب آنف الذكر، جاء أيضا ليشكل ردة فعل مباشرة على تقولات البعض وما صاحبها من تسريبات، أرادت يومئذ النيل من سمعة ما قامت به هذه المجموعة أو بعض من أفرادها، وذلك حينما ألصقت بها تهمة الإتصال بالسفارة البريطانية في بغداد، وفي توقيت تزامن وعملية الشروع الفعلي لإحداث التغيير، ليبدو

اﻷمر وكأن هناك إتفاقا سريا مشبوها، كان قد جرى الإعداد والتهيئة له، عشية القيام بتلك الحركة.

ــ 3 ــ

حالة التشكيك وكما سَلَفَ القول في نزاهة ما قامت به مجموعة الضباط اﻷحرار، لم تقتصر حين ذاك على بعض اﻷوساط ومن داخل العراق وحسب. وﻷن أعدائها كثر فقد طالت مستويات أخرى ومن خارج الحدود، إن كان على مستوى دول وحكومات، أو على شركات ومنظمات. ومن بين أولئك ممَّنْ يستحضرني ذكره الآن كمثال قريب، لا زال على قيد الحياة، الشخصية اﻷكاديمية الكويتية، عبدالله النفيسي. ففي لقاء متلفز أجري معه وقبل فترة ليست بالبعيدة، فقد تحدث عن وجود صلة ما تربط عبدالكريم قاسم ببعض من موظفي السفارة البريطانية في بغداد. وقد يكون بل أكاد أجزم بأن ما ذهب اليه النفيسي لهو على صلة مباشرة بتلك الدعوات التي كان يطلقها عبدالكريم قاسم بين فترة وأخرى، والمتعلقة بعائدية قضاء الكويت السليب على حد تعبيره الى الوطن اﻷم، وأن لا مساومة أو تفريط في ذلك، علما ان تلك الدعوات كانت قد وجدت لهاصدى وترحيبا واسعين من قبل مختلف اﻷوساط العراقية.

ــ 4 ــ

وإذا عدنا مرة أخرى ﻷحداث تموز 1958 وخلفياتها، ومما زاد في منسوب الإلتباس وأعطى المشككين ذريعة للطعن بها، هو ما ساد من إعتقاد وروِّجَ له ما يفيد: بأن الهدف الرئيسي وراء قيام تلك الحركة، هو الوقوف بوجه عجلة التقدم والتطور، الذي كانت البلاد قد شهدته أبان فترة الحكم الملكي وعلى مختلف الصعد، رغم الإمكانيات الإقتصادية المتواضعة وضعف ميزانية الدولة، إذا ما جرت مقارنتها بالعهود التي تلتها. وعن تلك الإنجازات، إذا جاز لنا تسميتها مع التحفظ، فقد صدرت العديد من الكتب، أشارت بجلّها الى ذلك وعززته بالكثير من اﻷدلة والبراهين، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الكتاب الموسوم سلالة الطين للراحل والشخصية القانونية المعروفة، العضو المناوب لمجلس الحكم الذي شكله بريمر، عطا عبدالوهاب، والذي كان يتشرف على حد تعبيره وفي منتصف الخمسينات بصفة المستشار الشخصي لجلالة الملك فيصل الثاني. فعن ذلك، أشار الكاتب وفي أكثر من مكان ومناسبة الى طبيعة الخطط والبرامج

التي وُضعت من أجل إرساء دعائم دولة حديثة، تواكب لغة العصر. ولعل العراقيون( يضيف الكاتب) يتذكرون وينظرون بحسرة وفخر الى تجربة مجلس الإعمار على سبيل المثال، والذي تم تأسيسه في ذلك الوقت، وقام بتنفيذ العديد من المشاريع البعيدة المدى والمهمة، والتي ظلَّت مثار حديث حتى يومنا هذا. بل أن ما قام به المجلس المشار اليه، لا زال ولحد اﻵن، يُعدُ أساساصالحا للتمثل به ولإقتفاء خطاه وإتخاذه نموذجا ناجحا ونبراسا للمشاريع الإستراتيجية الكبرى. ثم راح الكاتب وفي ذات المصدر قائلا: لو أن النظام أو اﻷقدار كانت قد أمهلت النظام الملكي وأعطته الفرصة ليستمر في قيادة البلاد ولخمسة سنين فقط لأنتقلت الى مصاف الدول المتقدمة.

ــ 5 ــ

تعقيبا على وجهات النظر اﻵنفة والمشككة بأحداث تموز، فلنا في ذلك قول آخر. فعلى الرغم من بعض النجاحات التي حققها النظام الملكي والهدوء المجتمعي النسبي الذي كان يعم البلاد وترفل به على حد وصف البعض، خاصة تلك اﻷوسحاتم جعفر

مالمو ــ السويداط التي عاصرت تلك المرحلة، الاّ أني أجد صعوبة بالغة في تبني موقف أو رأي كهذا وبشكله المطلق وعلى عواهنه، وبالتالي لا يمكن الركون اليه دون العودة الى تشريح وقراءة طبيعة النظام الحاكم آنذاك والتوقف بحيادية على عثراته وشطحاته، فضلا عن الجرائم التي ارتكبها وعلى ندرتها كالنفي وحالات الإعدام، وهذا موضوع آخر، والغوص فيه يستدعي منّا التوقف طويلا. فعلى ما أظن وأكاد أجزم وبعجالة، فإنَّ اﻷحداث وقرائتها، وبالتالي كيفية صياغة رأي واتخاذ موقف منها، كل ذلك سيبقى مرتبطا ومرتهنا بلحظته التأريخية. وإذا أردنا التفصيل والتوضيح أكثر فلا بد من النظر الى جملة من العوامل والظروف، التي كانت قد فرضت نفسها آنذاك ودفعت بإتجاه القيام بتلك الحركة أو إن شئتم تسميتها بالثورة، على وفق التسمية التي تفضل أن تطلق عليها بعض اﻷحزاب المؤيدة والمساندة لها في أدبياتها السياسية، والتي وقفت معها ومنذ إندلاع شرارتها اﻷولى ومن دون تباطؤ أو تراخي. وقبل مغادرة هذه الفقرة، فما يمكن ملاحظته والتوقف عنده، هو بروز إحدى المظاهر الملفتة، وبنبرة عالية وواضحة، والمتمثلة بالحنين الى الماضي، وليس الى أي ماضي بل ذلك المرتبط تحديدا بالحقبة

الملكية، وعزائهم في ذلك وعلى أكثر الظن هو ما لاقته اﻷجيال اللاحقة ولا زالت من حيف وظلم، على يد بعض قادة الجمهوريات الست التي حكمت البلاد فيما بعد.

ــ 6 ــ

لنعود ثانية الى ما جرى في ذلك الصيف الساخن من عام 1958 وما لحق به من تطورات، يُمكننا وصفها بالدراماتيكية. إذ لم تكد تمضي سنة واحدة فقط على نجاح حركة الضباط اﻷحرار فيما أقدموا عليه واستقر لهم اﻷمر وبسطواسيطرتهم على كامل البلاد، حتى تعرض زعيمهم الى محاولة إغتيال فاشلة قامت بها مجموعة من البعثيين وفي شارع الرشيد الذي يعتبر العصب الرئيسي للعاصمة، مما أدى الى إضطراب اﻷوضاع. وعلى أثر ذلك ولكي لا تصل اﻷمور الى ما هو أسوأ على وفق حساباتهم، فقد حذَّر السوفييت سلام عادل، اﻷمين العام للحزب الشيوعي العراقي من مغبة الإستيلاء على الحكم في زمن قاسم. ومع التقادم الزمني وبعد عقود على ذلك الحدث، فقد جرى التثبت والتأكد من صحة هذه المعلومة ومن أكثر من مصدر، سواء كان من قبل تلك الجهات التي آزرت التغيير ودعمته، أو من قبل تلك الجهات التي وقفت ضده.

ــ 7 ــ

وعن طبيعة العلاقة التي تربط السوفييت بعبدالكريم قاسم، فقد كانوا لا يخفون مدى رضاهم عنه وتبنيهم له، رغم قيامه ببعض الإجراءات والتحركات التي تشي بمدى تفرده بالحكم وبشكل خاص أثناء المنعطفات المهمة والتأريخية. فمن بين ذلك على سبيل الذكر ما أحدثه من إنقسام داخل الحزب الشيوعي العراقي، حين تبنى ودعم جناح داود الصايغ وعلى حساب الكتلة اﻷكبر، والتي تُعد وحتى ذلك الوقت المعبر الوحيد والوريث الشرعي لتأريخ الحزب وتراثه النضالي. وكي لا نغفل هذه النقطة أو نمر عليها مرور الكرام، فربما كان للتوازنات الدولية وبعض المعاهدات المنعقدة بين كبار اللاعبين في الساحة السياسية العراقية، الصوت اﻷعلى والقول الفصل في صياغة شكل وطبيعة الحكم، والذي سيلبي ويستجيب لرغبة ومصالح تلك الدول، رغم عدم الكشف عن ذلك. أو ربما كانت تصلنا منه نحن الصغار بعض ظلال، غير انّا لم تكن لدينا من القوة والحَولْ ما يؤهلنا لقلب الطاولة على رؤوس صناع الصفقات الكبرى،

إذن هي هكذا لعبة اﻷمم والتي بتنا ندرك بعض من خيوطها ولكن بعد فوات اﻷوان. حاتم جعفر

مالمو ــ السويد

ــ 8 ــ

وبالعودة مرة أخرى الى محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم، وفي العديد من المناسبات، فقد أعلن الشخصية العسكرية الشيوعية المعروفة غضبان السعد والذي كان متبوءاً وظيفة الملحق العسكري لدى السفارة العراقية في موسكو، عن وجود نية لدى بعض القيادات العسكرية العراقية والمحسوبة على اليسار، بضرورة إستثمار وتوظيف تلك المحاولة، والقيام بترحيل رئيس الدولة الى الإتحاد السوفييتي بعد إصابته بجروح نصف بليغة، معززا، مكرما، والشروع بعد ذلك بترتيب البيت العراقي، من خلال جملة إجراءات كإناطة شؤون الدولة الى المؤسسة العسكرية مؤقتا ولفترة إنتقالية، لا سيما وان اﻷوضاع والمد الشعبي الذي يتمتع به الحزب الشيوعي وكثافة تواجده بين صفوف المؤسسة العسكرية بشكل خاص، ستمكنه من تحقيق ذلك، بيسر وسهولة، خاصة وان سلاح الجو، الذي يعد له الدور الرئيسي في حسم مثل هكذا حالة، يدار من قبل القائد العسكري الحاتم جعفر

مالمو ــ السويدشيوعي المعروف، جلال الدين اﻷوقاتي. غير ان هذا الإقتراح، أي فكرة ترحيل قاسم، إصطدم بالرفض الروسي الشديد والقاطع، ليأكدوا مرة ثانية عن مدى تشبثهم به والمراهنة عليه، بإعتباره زعيما وطنيا، قادرا على إدارة دفة الحكم وإيصالها الى بر اﻷمان، حسب رؤيتهم. ولعل الوثائق التي نُشرت والسرية منها بشكل خاص والتي أميط عنها اللثام، وما صدر من عديد مذكرات، جلّها إن لم تكن كلها دعمت وذهبت بإتجاه تأكيد المعلومات التي تشير الى الدعم السوفيتي اللامحدود للزعيم، ولزام عدم التفريط به وبأي شكل من اﻷشكال، بل وصلوا وكما سبق الذكر، الى حد الدفاع عن حكمه وبقوة، رغم ماشاب علاقته بقوى اليسار وخاصة الشيوعيين منهم، والذين يُعدّون الحلفاء الطبيعيون لموسكو، بعض الإخفاقات واﻷخطاء التأريخية التي قد تصل الى مستوى الخطايا.

حاتم جعفر

مالمو ــ السويد

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here