خيانة المنتج المحلي

منذ عقود والمنتجين المحليين يطالبون بحماية المنتج المحلي ، وهذه الدعوات لم توجه بالشكل الصحيح لذلك تحولت إلى شعارات والشعارات ليس بالضرورة ان ترى التطبيق ، ولتبسيط الفكرة فان المنتجين المحليين الذين يتضررون من سياسات الاستيراد لم يوجهوا دعوتهم المباشرة إلى المسؤول عن منح تسهيلات الاستيراد ، فالتجار يستوردون لان هنا ك صلاحيات وتعليمات تجيز لهم الاستيراد ، ففي ظل النظام البائد وبسبب الحروب والحصار ضعفت قوة الدولة في الاستيراد لان الدولارات التي تدخل لموازنة الدولة موجهة إلى القطاعات العسكرية والمخابراتية والدبلوماسية والإعلامية وغيرها التي تطبل وتزمر للبقاء في السلطة ، فأصدرت الدولة تعليمات تجيز للتجار ولكل من هب ودب للاستيراد من الخارج من دون تحويل خارجي إي إن الدولة لا تعوض قيمة والاستيرادات بالدولار ، وبعد عام 2003 رفعت جميع القيود عن الاستيراد بما في ذلك الضرائب والرسوم وأصبحت السلع المستوردة معفاة والبعض القليل منها يخضع إلى نسب قليلة كرسوم لا تتجاوز 5% ، وهي قليلة الاستيفاء لان البديل هو دفع الرشاوى للعاملين في المنافذ الحدودية ، كما فتحت الدولة نافذة بيع العملات الأجنبية ( الدولار ) من خلال البنك المركزي العراقي الذي باع مليارات الدولارات بحجة تغطية والاستيرادات ، مما دفع الهواة والمحترفون لاستخدام هذه النافذة في غسيل الأموال وإغراق الأسواق بمختلف السلع وتحقيق الإرباح على حساب المنتج المحلي ، وما نتج عن ذلك هو اختلال ميزان المدفوعات ( النقد الأجنبي الذاهب الخارج أكثر من الداخل ) وتحول اقتصادنا الى اقتصاد ريعي أحادي الجانب من خلال اعتماده على والاستيرادات أكثر من صادرات المنتج المحلي وبلوغ الصادرات النفطية 98% والصادرات الأخرى لا تتجاوز 2% ، ما نتج عن ذلك أتباع سياسة الدولرة بمعنى ا ن اي سعر للسلع والخدمات مرتبط بأسعار صرف الدولار وهبوط أسعار صرف الدينار العراقي .

وفي البديهيات اقتصادية فان الاستيراد لا يشكل خللا مفاهيمي لان أية دولة لا تستطيع تحقيق الاكتفاء الذاتي بشكل مطلق لذا فإنها تحتاج إلى إن تستورد ما لا تنتجه ، خاصة عندما تكون أسعار الاستيراد اقل من تكاليف الإنتاج المحلي وهذه النظرة ليست مطلقة لان هناك اعتبارات خاصة بالآمن الغذائي وتشجيع قطاعات الإنتاج ، ومن وجهة نظر بعض التجار فإنهم حققوا فوائد لبلدنا من خلال توفير ما تحتاجه أسواقنا المحلية في ظل عجز القطاعات المنتجة محليا في توفير احتياجات الجمهور التي يعجز القطاع المحلي من انفتاحها ، ، وهذه النظرة غير صحيحة لان الأجهزة المعنية أدارت ظهرها للمنتج المحلي ودعمت الاستيراد نظر لفروقات الأسعار ، وهي نظرة غير صحيحة لان الأجهزة المعنية لم تدعم القطاعات المنتجة ودخلت في وهم الاستيراد بأسعار منخفضة وهذه الأسعار غير حقيقية في كل الحالات لأنها مدعومة من الدول التي تصدر للعراق بهدف الحصول على الدولار ، فحين نستورد الطماطة من بلد ما بسعر 50 دينار للكيلوغرام مطروح تحت مسوغ إن كلفة إنتاج الكيلو في العراق بحدود 250 دينار فان الجزء المخفي إننا نستورد الطماطة من الخارج دون تحميل قيمة الدعم المقدم للمنتج المستورد الذي لو احتسب لكانت كلفة الكيلو أكثر من 400 دينار وتلك الدول تخلت عن الدعم لتكسب الدولار ولو حصل العكس لتغير الحال ، أي إن الدولة لو قدمت التسهيلات والدعم للمنتج المحلي بقدر ما قدمه المصدر لأمكنه من منافسة الأجنبي وبذلك يتحسن الناتج المحلي وينخفض العجز في ميزان المدفوعات وتتحقق منافع كثيرة للبلد منها امتصاص البطالة وإدخال تقنيات الإنتاج وتوفير سبل التنافس مع المنتج المستورد دون إن نغفل حقيقة إن بعض الدول تتقصد بالتصدير للعراق بأسعار متدنية لأكثر من الأسباب الاقتصادية لان الهدف هو إبقاء بلدنا مستهلكا بامتياز .

وما ذكرناه ليس تبسيطا للموضوع وإنما واقع الحال الذي نعيشه منذ عقود الأمر الذي جعل اقتصادنا اعتماديا ويدمن على الاستيراد ، وحسب مصادر رسمية إننا نستورد بقرابة 100 مليار دولار سنويا لسد الاحتياجات ، ولو خصصت اجزاءا من هذه المبالغ لإنشاء قواعد زراعية وصناعية وخدمية وغيرها لانخفضت والاستيرادات إلى حد كبير ، وقد وصل الأمر بالاستيراد بان يشمل منتجات محلية فراحت تنافس منتجاتنا وتقضي عليها كلحوم الدجاج والبيض وبعض المنتجات الزراعية التي توقف إنتاج بعضها لأنه ينافس المنتج المحلي بالأسعار ، لذا تعالت الأصوات إلى ضرورة وضع حماية للمنتج المحلي والترويج لشعار ( صنع في العراق ) وتضمين قوانين الموازنات الاتحادية نصوصا ملزمة بالاستعانة بالمنتج المحلي في المشتريات الحكومية ، ولكن تلك ( الهبة ) لم ترى النور كما هو مطلوب منها ، فقد تحول صنع في العراق إلى ( قتل او حرق في العراق ) من خلال تسميم الأسماك وحرق حقول الدواجن وحرق الأسواق والمخازن ومزارع الحنطة وغيرها من الحوادث التي لم نصدر تحليلات مقنعة حول أسباب حدوثها وهوية مرتكبيها رغم تسببها بخسارات مادية فادحة وأكبرها عزوف المستثمرين عن ولوج قطاعات الإنتاج خشية تعرضهم لحوادث مماثلة ، وقد حاولت الحكومة أن تقلل من ( التهويل ) الذي رافق تلك الحوادث من خلال توجيه الأجهزة الأمنية لمضاعفة جهود الحماية وتقديم بعض التعويضات للمتضررين ، وأعلنت الحكومة ومن خلال رئاسة مجلس الوزراء إنها ماضية بتنويع مصادر الدخل وتقديم الحماية للمنتج المحلي من خلال إصدار أوامر للجهات القطاعية بتقليل الاستيراد بما يتناسب مع حجم المنتج المحلي كمحاولة لإرضاء الجهات الدولية في ان بلدنا ماض بتقليل تعاظم الإنفاقات غير الاستثمارية .

وقد أكد النائب عن تحالف سائرون رياض محمد ( السبت) أن البنك الدولي ابلغ الحكومة العراقية بتجاوز الخط الأحمر لمستوى الاستهلاك ضمن موازناتها اتحادية ، وقال في تصريح لـوكالة ( المعلومة ) إن تقارير البنك الدولي أشارت إلى إن نسبة الاستهلاك تجاوزت الـ25% وهذا يعد مؤشرا خطيرا على الوضع المالي للبلاد ، وأضاف أن رفع نسبة الاستهلاك في الموازنة يشكل مخاطر كبيرة من حيث عدم إمكانية الحكومة على التوظيف وتنفيذ المشاريع ، مبينا أن خفض تلك النسبة بحاجة إلى تفعيل القطاع المختلط و الخاص وتحويل الموازنات من استهلاكية إلى استثمارية ، وحذرت لجنة الاستثمار والاقتصاد النيابية في وقت سابق من جعل العراق سوقا لتصريف البضائع الاستهلاكية بعد الانفتاح الاقتصادي الأخير لعدد من الدولة العربية والأجنبية ، فيما بينت أن قانون الاستثمار بحاجة إلى تعديلات لتحقيق جلب المستثمرين للبلاد ، وتصريحات النائب تؤكد المنهج المتبع لحماية المنتج المحلي الذي يؤيده البرلمان ، ولكن هذه الحماية باتت تستغل من قبل البعض للإثراء على حساب المواطنين ، فليس من المعقول أن تطبق هذه السياسة كمسوغ لرفع الأسعار وتغييب بعض السلع المحلية عن الأسواق ، فقد تزامن مع تطبيق هذه السياسات ارتفاع سعر طبقة بيض المائدة من 3,5 ألف دينار للطبقة الواحدة إلى 5,5 ألف دينار بعد توفير الحماية كما ارتفعت أسعار كيلوغرام لحم الدجاج بنسبة 40% بعد تمتعه بحماية المنتج ، وما نخشاه أن تكون تلك الارتفاعات في أسعار السلع المشمولة بالحماية مقصودة من جهات معينة وهدفها إضفاء شعور لدى الرأي العام بان الاعتماد على الاستيراد يحمي الفقراء ، او إن هناك غايات أخرى غير واضحة للعيان ومن واجب الأجهزة المعنية تدقيقها واعل نتائجها للجمهور ، لان هدف الدولة النبيل في ( حماية المنتج المحلي ) لا يجوز استغلاله لخيانة المنتج المحلي من خلال رفع الأسعار ، وبما يجعل البعض يميل للقبول بالأمر الواقع من خلال الاستمرار بالاستيراد ، فالاستيراد المفرط يدمر اقتصاد البلاد ويضعف الهمم والقدرات ويجعل البلد خارج حدود الأمان عند انخفاض استعار النفط او انخفاض كميات الصادرات ، ويجب التعامل مع كل حالة مقصودة ومشبوها في ارتباطاتها تخص التلاعب بالمنتج المحلي على إنها خيانة عظمى لأنها تتعلق بأمن واستقرار واقتصاد ومستقبل البلاد .

باسل عباس خضير

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here