كيمياء العنف –

د. بهجت عباس

يمكن أنْ يـُعرَّف العنف بأنه الاعتداء على الآخرين، سواء كان ماديّـاً (جسديّـا) أو معنـويّـاً ( كلاميـاً )، وهو موجود في البشر منذ أن فتك قابيل بأخيه هابيل. ولكنَّ شعوب العالم تتباين فيه من حيث النسبة والشدة والنوع. فبعض الناس يتصرف كحمامة سلام والبعض قد يكون وحشاً مفترساً. وإذا كان الناس مختلفين في هذا الأمر، فما سبب هذا الاختلاف؟ أهو ظروفُ البيئة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً أم هو التركيبُ البيولوجي؟ أم مزيج من الإثنين اللّذيـْن لا ينفصلان ؟ لماذا يهتاج بعضُ الناس مثلا لقراءة موضوع ضدَّ عقيدته فيسهر الليالي مضحياً بصحته ووقته جاهداً لدحضه وقد يكون الرد عليه عنفاً في الخطاب؟ بينما لا يبالي الآخرون به، بل يعتبرونه حريةَ رأي أو إحداثَ بلبلة أو مجـرَّد َهُراء ؟ فما دمنا مختلفين في النظرة إلى الأشياء، في تقبلـِّها أو تَحملـِّها، ألسنا إذاً مختلفين في داخلنا ؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما سبـُبه؟ إذا عرفنا أنَّ الدماغ يسيطر على العاطفة والتفكير والكلام، وأنَّ هذه السيطرة تـتمّ بواسطة موادَّ كيميائيةٍ تفرزها خلاياه العصبيةُ وتؤدّي فعلَها، يتبين الدورُ التي تقوم به هذه الخلايا أو الجينات التي تفرز هذه الموادَّ إستجابةً لظروف البيئة أو نتيجةَ تعاملها معها. ولما كانت هذه الموادّ التي تـُسمّى النواقل العصبية neurotransmitters، متخصصةً ويُـقـدّر عددها بخمسمئة ناقلٍ، يكون ثمة 500 مجموعةٍ من الخلايا العصبية موجودةٍ في الدماغ. وتنتقل هذه النواقل من خلية إلى أخرى بواسطة فجوات خلوية synapses. ومنها، والذي هو صلب المقال، أدرينالين (إبينفرين)، نورأدرينالين، دوبامين وسيروتونين، هذه النواقل الكيميائية تلعب دوراً هاماً في ضغط الدم والسيطرة على العاطفة. ولكنَّ ثمة خميرةً ( بروتين ) في الدماغ تنظـِّم عملَ هذه النواقل، وتسمـّى مونوأمين أوكسيديس monoamine oxidase، وهذه تحطِّم الأدرينالين ونورأدرينالين وسيروتونين وتحولها إلى مواد َّ غيرِ فعالةٍ. وقد و ُجـد حديثاً أنَّ هذه الخميرةَ تلعب دوراً كبيراً في تصرف الإنسان، وخصوصاً العنف، حسب كميتها الموجودة في الدماغ. فقد وجد الدكتور هانز برونر ( هولندا ) في السبعينات من القرن الماضي عائلة تَمَـيّـزَ رجالُـها الثمانيةُ بالعنف، فقد اغتصب واحد منهم أ ُختَـه وطعن حارسَ السَّجن، وآخـرُ استعمل سيارته لدهس رئيسه الذي وبـّخه لكسله، واثنان آخران قاما بحرق بعض المباني. أمّـا الإناث من هذه العائلة فلم تقم أيّ ٌ منهن بأيِّ عنف. فدرس الأساسَ الجيني، وبعد ثلاثين عاماً من أبحاثه وبالتعاون مع زاندرا بريكفيلد (مساشوسيت)، وجد أنها تنطبق على جين يقع على الذراع الطويل للكرموسوم X في الذكـر، وأنّ كلا ّمن الرجال الثمانية يملك نسخة من هذا الجين بحالة متغيـِّرة (مـُشـوَّهة) mutated، أيْ غير فعالة، وبمعنى آخر، إنّ هذا الجين لا ينتج الخميرة مـونوأمين أوكسيديس. ولما كان التركيب الجيني الجنسي للرجل هو XY ، لذا يوجد هذا الجين بنسخة واحدة، ويُورث من الأم فقط. أما الأنثى، فهي تملك نسختين لتركيبها الجيني XX ، فإذا كان أحدُ الجينين متغيراً (عاطلاً)، فالجين الثاني يعوِّض في الإنتاج.

وفي حالات نادرة أنْ ترثَ الأنثى نسختين عاطلتين من هذا الجين، فإن ورَثتْ، فالعنفُ يكون ديدنَها. وقد تبيّـن من دراسات قام بها باحثون أخرون مثل أفشالوم كاسبي من معهد لندن للأمراض النفسية سنة 2002 أنَّ بعض الأولاد الذين يُساء إليهم في طفولتهم ينشأون طبيعيا،ً إذا كانوا يحملون الجينَ غيرَ المشوَّه، وبعضهم يكون عنيفاً في تصرفاته، إذا كان الجين الذي يحمله مشوهاً. وهذا يعني أن ثمة اختلافاً ( جينيّـاً )، فالأشخاص الذين لديهم كمية كبيرة من البروتين مونوأمين أوكسيديس يكونون ( مـُحصَّـنين ) من العنف، والذين هم بفعالية واطئة من هذا البروتين، إذا أُسيء إليهم في طفولتهم، يكونون أقـلَّ امتزاجاً بالمجتمع وأربعَ مراتٍ أكثرَ عنفاً ومسؤوليةً عن حوادث الاغتصاب والسرقة والاعتداءات، وبمعنى آخرَ، إنّ الإساءةَ إلى الطفل ليست كافيةً، فيجب أن يكون ثمة جين واطئُ الفعالية، كما أنَّ هذا الأخيرَ ليس كافياً وحده للعنف، بل يجب أن تكون إساءة مصاحِـبة له. وهذا يعني أنَّ كمية البروتين مونوأمين أوكسيديس تلعب دوراً في العنف، سواء أ ُسِيءَ إلى الشخص في طفولته أم لم يُـسَـأْ إليه.

وليست هذه الخميرة وحدها مسبِّبة للعنف، إذ أنَّ أوكسيد النتريك NO الذي اكتشفه دكتور سنايدر وزملاؤه ( جامعة جونز هوبكنز ) سنة 1993 يلعب دوراً في السيطرة على العنف في الفأر والشمبانزي، ولربما في الإنسان لتشابه الجين الذي ينتجه. ففقدانه سبّب عنفاً وهياجاً في الفأر. وأما الناقلان العصبيان دوبامين وسيروتونين المسؤولان عن المرح والانبساط في الإنسان، فقلة وجودهما في الدماغ يسبّب الكآبةَ التي قد تؤدي في بعض الأحوال إلى الانتحار.

ويمكن القول إنَّ بعض الأشخاص أكثـرُ عنفـاً من الآخرين. هذه حقيقة. ويمكن لظاهرة العنف هذه أن يسيطر عليها جين واحد فقط يتفاعل مع ظروف البيئة، وهذا يعني أن ( كلَّـنا يحمل ” جين العنف ” – ولكنّ الباحثين شخّصوا تغيراً جينياً بسيطاً يؤدي إلى الانفجار)، كما يقول د. جيمس واتسون مكتشف التركيب الجزيئي لـ دي. أن. أي.، على أنَّ هذا الانفجارَ لا يحدث إلاّ إذا كان ثمة دوافعُ أو حوافـزُ. ورغم هذا، فللانفجار أسباب أخرى، سياسية واقتصادية واجتماعية لست بصدد الخوض في أغوارها.

————————————————-

من كتابي ( الجينات والعنف والأمراض – فيشون ميديا – السويد 2007)

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here