مأٌزِق الطبيب والطبابة في العراق والعداء له والاعتداء عليه:وما وراء ذلك

د. عبدالحميد العباسي

في كُلِّ جريمة والاعتداء جريمة, للضحية دور تتفاوت فاعليته, في وقوعها, كترك النوافذ مُشرعة ليلا فتقع السرقة او تنتقد طاغية فيختفي, على اثرِها أثرُك.

قصلرى القول أن للأطباء دوراً فيما يَحِلُّ بهم. كما سنرى.

لقد واكبتُ حُقَبا كان الطبيب في القمة من السُلَّم الاجتماعي, حتى تدحرج وما زال, صوب وادٍ سحيق. وقد مارست مهنة الطب في مَيادين واماكنَ مختلفة في العراق وخارجه ولاكثرَ مِن 60 سنة وفي هذا قد يكون لي عذر ان أدلوا بدلوي في المسألة المعنونة في اعلاه وها هي نتفاقم. يبدوا ان الناس, في العراق مُصِّرون على الصورة التي رسيموها للطبيب العراقي الذي عرفوه والذي يريدوه, غير مكترثين أو واعين لتغيرات جذرية نالت موقع الطبيب وطبيعة الممارسة الطبية, منها داخلية تخص الطبيب العراقي وسلوكياته وظروف عمله ومنها خارجية, هي ايضا غيَّرت مفهوم المهنة واسلوب ممارستها وحتمية تاثير ذلك على ما نحن بصدده خاصة واننا اعتدنا, في الطبابة السير على منوال العالم الخارجي, الغربي بالذات. ان عدم اسيعاب المواطن العراقي او نكرانه لتلك التغيرات, ربما كان وراء الخيبة والامتعاض والرفض ثم الانفصام بين المواطن وطبيبه, ثم الاصطدام.

قلت ان المجتمع العراقي وضع الطبيب اعلى السلم الاجتماعي وحباه بالاحترام والاعجاب. اخبرني المرحوم الاستاذ الدكتور

خالد ناجي, *ان شرطي المرور كان يوقف السير في ساحة باب المعظم حالما يرى سيارته متجهة من او الى المستشفى الجمهوري*. لم يكن ذلك هِبَة ولا بدون ثمن. كان الطبيب يحبوا على مرضاه, يهمه ويسعده شفاءهم وفي عياداته الخاصة كثيرا ما كان الطبيب يتساهل في أجر الفحص, كله او بعضه, لا صدقة بل استجابة لنداء المواطنة ومراعاة للظروف المعيشية الصعبة لغالبية المواطنين وتحسسا بمعاناتهم حتى لتكاد تصُحُّ في بعض الاطباء مقولة, *يغادر المريض غرفة الطبيب وقد اقتطع وصلة مِن حياة الطبيب*

اشارة الى معايشة الطبيب لآلام مريضه وهواجسه. ذُكر قريبا, ان طبيبا امريكيا كانت تنتابه آلام كالتي يشكوا منها مريضه وهو يستمع الى

شكوى المريض. طيبعي كان هناك شواذ وكانوا قِلَّة. أذكر زميلا قال لي ان كل مريض يتساهل في الاجر معه, يُنزِلُ مِقدار ما تساهل به, مما عليه هو (الطبيب) تأديته من فريضة الزكاة, (يَحسَب أنه يذلك يُرضي اللهَ والمريض معا. من يدري فقد يكون ذاك الطبيب نذير, أن عهدَ المنافقين آتٍ).

لم يدم ربيع

العلاقة بين الطبيب ومجتمعه

إ ذ تلبدت السماء بغيوم الجشع والتنافس على الحضوة لدى السلطة التي اثمرت, في البعض اساليبها في الترهيب والترغيب وراح البعض (وأصر على كلمة البعض ومنهم اكادميون) يتسكعون على اعتاب القصر الجمهوري او في ركب اصحاب السلطة, يلهثون وراء المَكرُمات, دورية كانت ام بالمناسبات العديدة أوطمعاً في اراضٍ زراعية, حتى لم يَعُد غريبا ان تسمع طبيبا يتكلم عن مزرعته ومنهم من راح يُكيد لزملائه ويخذل مرضاه, يقطع الايدي ويبتر الآذان ويجري تجارب طبية غير سَوية على المرضى بإشراف دَعيٍّ متعلم غير طبيب, فنالوا المكرمات و حكاية عقاري (بكرين وصدامين) ليست ببعيدة عنا. وسكتت نقابتهم عن قروي, دعي يجري تجارب على الاطفال في مدينة الطب.

لم يحاسب احد, فشكرا للحاج جورج بوش, اذ رأى ان مَن اساءوا الى شعب العراق لا يتجاوز عددُهم عن حوالي

ال 60 فرداً وان ما مضى قد مضى. الذي يهمنا الا ينعكس ذلك على معظم اطباء اليوم, الذين لم يكونوا في الساحة آنذاك, *ولا تزر وازرة وزر أخرى*.

قلنا اننا في العراق نتأثر (ننقاد) بما يجري في الغرب وفي الغرب حصلت تغيرات جذرية في موفع الطبيب واسلوب الممارسة الطبية وقد دهشت ان بعض الاخوة من الاطباء مازال ينظر الى مشكلة الطبيب العراقي والطبابة وما يريد لها, ينظر بمنظار تراثي مثالي, صار صعب المَنال. فحقوق الزمالة والالتزام بالاعراف الطبية فقدت صرامتها (وكان المشهد العراقي سباقاً في هذا). التحولات الجذرية التي

طرأت على الطبابة في الغرب جعلتها تخضع الى قوانين السوق والبيع والشراء والربح والخسارة فالمريض صار يُسمى * الزبون Client* والطبيب والمشتشفى او المعهد الصحي يسمى *المُمَوِل

Provider وتقديم الخدمات الصحسة لمن يطلبها, هي عملية بيع وشراء, تغطي الدولة النفقات مما تفرضه من ضرائب على المواطنين في دول وتغطيها شركات التأمين الصحي, تجنيها من المشتركين, في دول أُخر. وقد تقوم مؤسسات خيرية في تغطية علاج المعوزين.

تساهم المستشفيات بشيء من النفقات مما تقيمه على ارضها من مطاعم ومقاهي وحوانيت ومرآب لسيارات المراجعين. فكأنك في سوق كبير فيه مؤسسة صحية ايضا إإ. الطبيب كان وما زال كاسب (كادح) بمعنى أنه يعتاش على راتبه و- أو عدد ما يعاينهم من المرضى (الزبائن), لا مكان للصفقات كما هي الحال مع التاجر او ساسة بعض البلدان. لم تَعُد للطببيب تلك الأبهة التي كانت له والتي, ربما هي من مخلفات الازمنة الغابرة التي كان فيها الكاهن او رجل الدين يمارس التطبيب ايضا. اذكر, ايام طفولتي ان الطبيب كان يسمى *حكيم* واذكر ان واحدا من المعلمين, عندما كنا في الابتدائية, كان يرافق التلاميذ المرضى (عادة زكام اوحُمّى), مشيا الى *الحكيم* الذي كان في مستوصف (لا اعتقد ان احد كان يقدر ان يلفظ كلمة *مستوصف*, في ذلك الزمان الا بشِق الانفس.

كان *الحكيم* يقع بقرب حسينية عبد الرسول علي في الكرادة, اليوم. وفي السويد, مثلا. يُسمون الطبيب *لاكير* وليس دكتور, ما لم يُجَز بهذه الدرجة. الواقع ان الحكمة مطلوبة فيمن يمارس الطب.

كان الطبيب هو كل شيء في العملية العلاجية والكل ادواته في العمل أما الان فهو يرأس الفريق العلاجي كونه يتحمل المسئولية الاكبر. فَقَدَ تلك الابهة وان دور اعضاء الفريق لا يقل اثرا عن دوره هو. الواقع ان نتيجة جهد الطبيب رهن بما يقدمه اعضاء الفريق من نتائج الفحوص والتحريات الموكلة اليهم وهذا صار يعرفة العامة, فمثلا الممرضة التي كانت تنتظر مجيء الطبيب لتسير خلفه تتلقى الارشادات فيما عليها فعله ولا يُسمح لها اي تداخل, اكثر من الزرق بالعضلة وحتى ليس الزرق بالوريد, صارت اليوم يوكل اليها فحوصات وتداخلات معقدة واسعافات اساسية وبمبادرات ذاتية ناجعة وتدير وبجدارة شُعَب العناية المركزة وامور أُخر. كل ما ذكرته اعلاه صار ممارسة يومية ولا مَفَرَّ لنا الا ان نتأثر به. الطبيب صار صاحب حرفة كغيره من اصحاب الحِرَف

الأُخر. اذكر زميلا كان يقول عن عمله في عيادنه, *انا ابيع طب وذاك يبيع كذا اشارة الى ان المِهنة صارت حِرفة. ستقولون

ولكن عمل الطبيب يتعلق بحياة انسان, نعم هو كذلك ولكن عمل المتعهد الذي يغش في بناء عمارة فتسقط على ساكنيها وذاك الذي يستورد اغذية فاسدة او ادوية منتهية الصلاحية اليس في ذلك علاقة بالانسان؟ وماذا عن تلوث البيئة وما تجلبه من اخطار صحية مرعبة. يقول خبراء, ان نهاية البشرية قد تكون بسبب تلوث البيئة او شحة الاغذية, خاصة وان استعمال القنبلة الذرية غير محتمل, فماذا تقولون عن الساكتين عن هذا الخطر الداهم او المساهمين فيه ومن له دور في تعاظمه. ثم ماذا عن وسائل الاعلام المأجورة والتي تجعل الناس, باكاذيبها يتأرجحون بين القلق المدمر والاكتئاب المَرير. وماذا عن موجات التسمم والتسميم التي اجتاحت العراق واماتت الالوف في الستينيات والسبعينيات, هل جلب السموم ووزعها على الناس وباسلوب يرقى الى القتل عمدا, هل كان هولاء اطباء؟ وقتل الالوف من الناس بسبب الصراعات بين الكتل, و.و.و, الم يكن, ما ذكرته اعلاه, له علاقة بالانسان, ام ان الاطباء أُختيروا كهدفٍ هشٍ ليس لهم كتلة تحميهم, ام ان هذه الضجَّة التي تثار حول الاطباء هي, الى حد ما حَجْبُ الانظار عما يُرتكب بحق هذا الشعب من جرائم؟. وهناك من يقول ان الهدف هو تهجير الاطباء (ومن طرف خجول يشير الى ايادٍ خارجية تجتذبهم). لا اعتقد ان هناك حاجة الى جذب فكل طبيب, خسب قناعتي سيشد الرحال اذا توفر له العمل وسمحت ظروفُه الخاصة. ورقة الكفاءات المهاجرة (المهجرة) احترقت. استعملها الساسة ردحا من الزمن هم ومن يشغل موقعا لا يجوز له, يضعون العراقيل في طريق عودتهم. نقل عن سياسي قوله ما لنا وذوي الكفاءات

الزمن كفيل بحل المشكلة (يلفهم النسيان وتطويهم اللحود)وهذا الذي حَصلَ ويحصل. هجرة العلماء ظاهرة عالمية

وقد اوصى بها الله والرسول, اما التهجير فشيىء أخر: *وقاتلوا الذين اخرجوكم من دياركم..*. مسألة المهاجرين المهجرين والاجيال من بعدهم فمسألة ذات شجون لها فصلها الطويل.

ها وقد استعرضنا جوانبَ من المشكلة, ما العمل؟ اصلاح الطبابة (والطبيب) بمنأى عن مرافق الدولة الاخرى سيكون كنُموِ عضوٍ (او جزءٍ مِن عضو ج جَسَد, لوحده

فيكون ذاك *كالوَرَم*. ومع اعترافي بصواب مقولة *ما لا يُدركُ كُلُّه لا يُترك جُلُّه* اقول ان الاصل في النمو ان يكون متكاملاً. فاصلاحٌ مَرافقِ الدولةِ جميعِها, لا مَفرَّ مِنه. التعويل على نقابة الاطباء لتنظيم المهنة,

ثبت عدم جدواه بل فشسله, فمهمة النقابة (اي نقابة) هي الدفاع (حماية) عن اعضائها وليس محاسبتهم, فانت لا يمكن ان تكونَ محاميا وقاضيا في آن واحد, فهذه قضية أخرى, لها فُسحة اخرى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here