قراءة في رواية ( زنقة بن بركة ) الكاتب محمود سعيد

روائي عراقي متمكن في اسلوب القصة والرواية . منذ الستينات القرن الماضي ظهر في الكتابة القصة , في سن مبكرة , بدأ ينشر في الصحف والمجلات . بذلك يملك تجربة غنية وهامة , في الابداع واسلوب كتابة القصة والرواية , في اسلوبيته الواقعية الواضحة في المتن السردي . بالتناول بالسعة الشفافة والمبسطة , في لغته الجميلة . بالتركيز المكثف , الصافي من حواشي الزائدة . وهذه الرواية صدرت في عام 1970 . نتلمس من خلال الصياغة واسلوبية العرض والطرح , بأنها تشق الطريق نحو التناول الحديث في تقنيات براعة النص , يتجاوز ماهو مطروح آنذاك من الاسلوب التقليدي والكلاسيكي السائد أنذاك , ونستطيع ان نقول بثقة بأن هذه الرواية , نقلة نوعية في تطور اسلوب الرواية العراقية آنذاك , بطريقة ابداعية متمكنة , في الاسلوبية والصياغة , والتناول والطرح , بالرؤية الابداعية العميقة . في تناول قضايا الحياة والواقع , بالاسلوب الواقعي والموضوعي . في تناول الحياة الشرقية في بلدان الشرق , ومنها العراق . التي تتزاحم عيوبها وعثراتها على الانسان الشرقي , التي تضعه في دائرة مغلقة من الهموم والمعاناة . نتيجة العسف والاضطهاد . بأن تجعل الانسان يتحمل صبر ايوب . في العلاقة غير المتكافئة , بين السلطة والمواطن . وهي علاقة السيد بالخادم , في زحمة الارهاب المسلط عليه . لذا يجد الانسان نفسه منهزم ومحبط في الانتكاسات والازمات داخل هذه الدائرة المغلقة . وتجد الانسان يبحث عن منافذ للخروج من هذه الدائرة بأية وسيلة كانت , اي الرحيل خارج البلد , مثلما فعل هذا الشاب العراقي , الذي يمارس مهنة التدريس , ان يجد فرصته المواتية في العمل في المغرب . ان يجرب حظه في مهنة التدريس هناك . ويسمى في المغرب ( سي الشرقي ) . والحدث السردي يقوم في مهمة الرصد والملاحقة , في عيشه وسكنه وطريقته عيشه في الحياة , بالتفاصيل الدقيقة , في غربته الجديدة . بهذا العمق والاتساع في المتن السردي , في معايشة ازماته الجديدة , في الرصد العميق , وبضمير المتكلم السارد . ماهو إلا شخصية الكاتب نفسه . بهذا التدفق الوجداني , في الارهاصات والخوالج والهواجس . كانت غربته في سبيل تعويض خسارات التي تجرعها في بلاده . والسعي الحثيث في امتلاك الحرية المفقودة . التي يجسد قوامها في شخصية المرأة ( رقية ) وهي الشخصية الدالة في رمزيتها التعبيرية , بالحب والحرية من رؤية واقعية . هذه الفتاة المغربية ذات عشرين ربيعاً , في زيها الشعبي المحافظ . في افعالها وتحركاتها وعلاقاتها المتشعبة والمتشابكة . ربما بعضها يدور في دائرة الابهام والغموض . وهي جزء من العلاقات العامة , بين التحرر والمحافظة . ولكنها تظل تحمل دلالة رمزية عميقة , هي رمزية الحب والحرية . وامتلاكها صعب المنال , تتداخل فيه صعوبات ومعوقات وحواجز شتى . اي انها تحمل تناقضات المتشابكة في روحية الشرق عموماً . ولكن ( سي الشرقي ) يصاب من اول وهلة , في مشاعر مشتعلة بالتشوق والانجذاب . نحو هذه الفتاة ذات البشرة السمراء والشعر الكثيف , منذ اللقاء الاول تصرعه نظراتها , وتأخذه مجرات المشاعر في التحليق البعيد ( إلا اني لم اجد دوافع كافية تحملني , رغم نفسي الى ذرى الموجة , كما يحدث لي في الماضي , شيء ما مهم من مشاعري ) ص29 . وكانت مشاعره تحرث في امتلاك , والوصول الى قلبها , لينالها بالحب . لتكون كافية لتغيير مسار حياته . من الاحباط الوجودي الذي يعصف في وجدانه وان تأخذه الى مسارات معاكسة , لكي يسكن ويهدأ فورة التوتر والقلق التي تصاحبه كظله , لينطلق الى فضاء الحرية المفقودة في بلاده , ووجدها في شخصية ( رقية ) , التي تمثل رمزية الحب والحرية . وهو يبحث عن هذه الاشياء المفقودة في بلاده . بهذا التشخيص يرسم الكاتب شخصية ( رقية ) في ابعادها الوجودية والحياتية ( جلست على الكرسي فأنتثر شعرها , كنت أمر بسعادة لا توصف , كسارق حصل على غنيمة العمر , فبات يخشى على نفسه من فرط سعادته – قالت . وأنت ؟
– اعجابي يصل الى حد العبادة .
ضحكت : أنا متأكدة من ذلك ) ص76 . هذا الانبهار الروحي , هو مرادف للانبهار في الحب والحرية , المتلألأةً في عيونها , يجد ماضيه وحاضره , في خيره وشره ( كانت عيناها تملأن الوجود عليَّ . ماضيه وحاضره , خيره وشره , واخذت أتلمسها نصباً زجاجياً شفافاً مغرزاً في ذاتي , وملكتني رغبة أحرقت دمائي , لكني أحتقرت نفسي حيث لا أستطيع ان أفعل غير تقبيل يدها , لا أجرؤ ان اتمادى ) ص76 . وهو يريد ان يلتهم جسدها وروحها في الاحترق الرومانسي ( كنت ألتهما . جسدها . روحها . ضحكتها . يالهي , أنني أحترق ولا شك ان روحها هي التي تحرقني . جسدها عملاق من الحسن والوجد والنار , يسد عليَّ المتافذ ) ص76 . بهذه الغزارة في الشوق الرومانسي , يسعى في الحصول على الشيء الضائع داخل نفسه . بهذه الصورة الابداعية في تصوير , الشخصية الشرقية , التي تتنازعها الصراعات المتأزمة والمقموعة ,بالاحباط والمحاصرة , في شرنقة الصراعات المتعددة الجوانب . من القوى المضادة , التي تعمل على الحرمان والانكسار , انها صفة عامة في بلدان الشرق المتوسط . ان تتحول الحرية الى شيء غير موجود , او انها شبح ودخان وسراب .
احداث المتن الروائي :
شاب عراقي يمارس مهنة التعليم كمدرس , يستغل الفرصة السانحة للعمل في مجال التعليم كمدرس في المغرب , وينزل في منطقة شعبية , في عمارة الصيني المطلة على شارع وزقاق يفصل المدينة الى قسمين . زقاق ( زنقة بن بركة ), الذي تدور فيه معظم احداث النص الروائي في هذه الحارة الشعبية , التي تعيش الفقر والحرمان ,في سكنه الجديد يتعرف على الناس في الحارة , رجالاً ونساءاً , ويرتبط بعلاقات حميمية ووثيقة معهم . وينادونه بأسم ( سي الشرقي ) , ويتعرف عن حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية المحيطة بهم . يحاول ان يبني علاقة حب مع الفتاة ( رقية ) لكنه يجد صعوبة ومعوقات في ذلك . مما تزيد من احباطاته النفسية الى التأزم , وينزلق الى الحياة العبثية , في الجنس والنساء والخمر , ولعب الورق والقمار . يفقد التوازن الحياتي في سلوكه . وفي النهاية تحوم حوله الشبهات المريبة , في ارتكاب جريمة قتل , هو لم يفعلها , ليجد مصير الاسود من الاحباط والانكسار والانهزام . ويجد نفسه في حالة يرثى له , يعني انه فشل في امتلاك الحب والحرية .
شخوص الرواية المحورية :
لاشك ازدحمت الرواية بالشخوص الاساسية والثانوية , رجالاً ونساءاً . ولكن من اهمهم , ثلاثة شخصيات : هي رقية , موجود في كل شخوص الرواية , في تحركاتها ونشاطها وعلاقاتها المتشابكة والمتشعبة . ولكنها مضطربة في التوازن في الحب , واخيراً بعد فوات الاوان , عرفت , بأن ( سي الشرقي ) يحبها فعلاً وذلك تشعر بالخسارة من هذا الحب الضائع . وكذلك شخصية . سي الحبيب . وسي أدريس .
1 – شخصية ورمزية . سي الحبيب . مناضل قديم ساهم في النضال في سبيل استقلال المغرب , وتحمل الكثير من السجن والتعذيب والحياة الشاقة , شخصية محبوبة ولها ثقل في الاوساط الشعبية . ولكن بعد الاحداث العاصفة في منتصف الستينات القرن الماضي , وضع تحت المراقبة والاقامة الجبرية , وابعد الى هذه المنطقة الفقيرة , بدلاً من ان يصدر حكم الاعدام بحقه . وتقول عنه ( رقية ) موجهة كلامها الى سي الشرقي ( كل الرجال يحبوني , ويخضعون لي , لكن لم اجد الحب العظيم الذي يجعلني أجثوا على ركبتي , في سبيل بقائه والاحتفاظ به , هنا قد وجدته في شخص سي الحبيب
– لكنه لم يحبك ِ.
– ربما , لكنه أذا احب فسيحب بكل ما يملك , سيضحي حتى بروحه لاجل الحب , ألا تراه قد ضحى بصحته ومستقبله وكاد يعدم لاجل قضيته ؟
– وطن
– وطن , إمرة الشي ذاته , انه قادر على التضحية , والتضحية تخلق الحب العظيم . القضية العظيمة . الامل العظيم ) ص79 . وكان يحث ( سي الشرقي ) على نيل حب ( رقية ) وان يصونها من التشتت . بأنها جديرة بالحب .
2 – شخصية ورمزية سي أدريس : الذي طفر من الفقر المدقع الى الغنى الفاحش , واصبح من اثرياء المغرب . يملك مزرعة كبيرة , ويستغل ببشاعة عمال مزرعته , يعاملهم كالعبيد لدية . وهو صورة طبق الاصل , للطبقة الاقطاعية ورجال الاعمال والنفوذ , في جشعهم واستغلالهم الفاحش للفقراء والعمال . يعيش البذخ والليالي الحمراء ولعب القمار والنساء . ويعتبر المال يشتري كل شيء ويمزق شرف والعفة ببساطة لاية إمرأة كانت , ويعتبر النساء او المرأة , بأنهنَّ حشرات حقيرة . يستطيع بماله ان يشتري اية إمرأة مهما كانت مكانتها , وانه دائماً يكسب الرهان في شراء الفتيات , وحين يحتج غضباً ( سي الشرقي ) على هذا الوصف والاهانه للمرأة , بأنها حشرة حقيرة , فيجيب ( لانه لا توجد فتاة نظيفة , كلهنَّ حقيرات تعميهنَّ المادة )ص105 . لذلك ورد على لسانه بالسؤال عن ( رقية ) استفز غاضباً ومزمجراً وهدده بالقتل , اذا ورد على لسانه أسمها ( سأقتلك اذا ذكرت أسمها ثانية في هذا المكان ) ص111 . ولكن بعد ذلك يتهم ( سي الشرقي ) بجريمة قتل ( سي أدريس ) وهو بريء ولم يفعلها , لكن كل شبهات الجريمة تحوم حوله , حتى ( رقية ) تعتقد بأنه قتله من اجلها لانه يحبها صدقاً , لذلك تقول له وهي تجهش في البكاء المر ( – قتلته لاجلي ,لانك تحبني .
– أنتِ واهمة , أنا لم أقتله , وأن كنت اتمنى أن افعل ذلك )
وتنفجر في البكاء , وهي تفجر الحقيقة الصاعقة
( أنت تظلمني , ألم تعرف حقيقته ؟
مططت شفتي مقلداً اياها بسخرية مريرة : وما الحقيقية ؟
– أنه عنين . غير طبيعي . ليس كالرجال
– عنين ؟ ) ص137 .
ولكن سبق السيف العذل . هكذا كان يطارد الحب والحرية المفقودة . ليجد نفسه في وضع ميؤس لا فكاك ولا مخرج منه .
جمعة عبدالله

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here