مسلسل صدّام ( الحلقة 2)..الطّفل الفـارس..

لم يعش صدام حسين طفولة مريحة أو سهلة . لقد تنقل في السنوات العشر الأولى من حياته مابين البيت الذي ولد فيه بيت خاله وبيت عمه الحاج إبراهيم الذي تزوج من أمه بعد وفاة أبيه. كما تجري الأعراف عادة في مثل هذه الظروف هناك في تلك المناطق. وكان عليه من البداية منذ طفولته الباكرة أن يواجه قدره بنفسه. ولقد كان على مشاعر اليتيم الدفينة في نفسه، إما أن تدفعه إلى الانطواء النفسي والانكفاء الحزين على الذات أو تدفعه إلى الاندفاع نحو الآخرين ليجد في اتحاده معهم عزاء وتعويضا عن وحدته الذاتية. ولحسن الحظ – ولا شك أن  عوامل البيئة الاجتماعية والجغرافية قد ساعدت في ذلك – فصدام حسين رفض الانغلاق والتقوقع الفردي وواجه الحياة الشاقة العسيرة. وهو في سنواته الغضة، كرجل مناضل بالفطرة. ولقد علمته صعوبات الحياة في بيئته الأولى التي أحاطت به -حيث كانت أرض الفلاحين الفقراء تطرح مرة ثمارها ومرات تضن بها- معاني أساسية سوف تلازمه طيلة حياته ونضاله.  لقد علمته تلك البيئة القاسية معاني الصبر والجلد على تحمل الصعاب وشدة المراس والاعتماد على النفس والشجاعة والقدرة على اقتحام المخاطر والصرامة القاسية والدقة في الحساب النفسي للمشاعر والانضباط في السلوك الأخلاقي وقبل ذلك وبعده حب الفقراء والالتصاق ببسطاء الناس.

إن مجموعة السمات النفسية التي يمكن استخلاصها من متابعة طفولته الأولى هي الإنصات إلى أحاديث الذين كانوا محيطين به في تلك المرحلة من حياته. وتدلنا على أنه كان يملك في ذلك الوقت المبكر الخصال الأساسية بمعناها النفسي والأخلاقي – لصورة الفارس العربي – الذي يعد نفسه أو تعده الأقدار كي يركب دورا قياديا في وطنه. وهو نفسه قد قال ذات مرة (إن النهج السياسي اللاحق للإنسان لا يستقل عن تاريخه السابق عن ولادته وحياته وصعوبات حياته). إذ يذكر أخاه الأكبر «أدهم» وهو في الواقع إبن عمّه إبراهيم الحسن (زوج أم صدام) وكانت علاقته بصدام  علاقة الأخ الشقيق لأنهما عاشا الطفولة في بيت واحد، أنّ الطفل صدام  كان دائما محاطا بكوكبة من الأطفال يقودهم ويرتبط بهم ويرتبطون به على الدوام حتى أن جيرانهم ، حينما كانوا يسمعون صياح الأطفال وضجيجهم كانوا يقولون على الفور: ها قد جاءكم صدام. ويذكر رفيق دربه أنّ صدام، لم يكن فظا ولا شرسا مع قاعدته الجماهيرية الأولى وأهل المنطقة يروون أنه كان على العكس رقيقا مهذبا في سلوكه. يؤثرهم في أحيان كثيرة على نفسه، بالرّغم من حالة الفقر والخصاصة التي كان يعيشها مثله في ذلك مثل بقيّة أطفال قرية العوجة، وحتى أطفال تكريت والعراق عامة في ذلك الوقت. فعندما كان يرى واحدا من رفاقه يرتدي سترة بالية أو ممزقة كان يخلع سترته ويعطيها له ويعود إلى بيته بدون سترة وحينما يسأله أهله أين سترتك يا صدام؟ يقول ببساطة وكأنه أدّى واجبا ضروريا كان مطلوبا منه : أعطيتها لصديقي لأن سترته كانت غير لائقة. ولا يأبه بعد ذلك بكلمات تأنيب تنهال عليه، من كلّ أفراد أسرته. فمن علمه في تلك اللحظة الباكرة من طفولته قول المسيح : «من كان لديه ثوبان فليعط أحدهما لمن ليس له؟»

ولكن الطفل الصغير الذي كان ينطوي في نفسه على أخلاق الفروسية كان فارسا بحق. لاشيء كان يسعده ويثير التوهج في عواطفه سوى اعتلائه صهوة فرسه.  وقد كانت فرسه من أشد الكائنات الحية قربا من نفسه. ففي الحقول المجاورة كان يمتطيها ويركض بها ويدللها. وهي أيضا كانت تحنو عليه. إن العلاقة بين الإنسان والحيوان يمكن أن تبلغ في بعض الأحيان ما لا تبلغه العلاقة بين الإنسان والإنسان من الحب والمودة والألفة والحميمية والعطاء المجاني. ومع ذلك كان على الطفل الغض أن يتلقى صدمة قاسية من أولى الصدمات في حياته. إن فرسه قد ماتت وقد بلغه خبر موتها وهو في السنة الخامسة ابتدائي وكان يومها في تكريت حيث يتلقى الدراسة في بيت خاله. وكانت فرسه في قرية العوجه بانتظار عودته أيام الجمعة والعطلتين الربيعية والصيفية. ولأول مرة لا يستطيع السيطرة على انفعالاته. إن المرء يقف عاجزا دائما أمام الموت. إنها لحظة عميقة من الشعور بالوحدة والفقدان والغياب الشامل. لقد شلت يده على الفور وبقي على هذه الحال أكثر من عشرة أيام. وظلّ أهله يعالجونه بالوصفات الطبية الشعبية حتى عادت الدماء إلى السريان في ذراعه من جديد. ويومها كانت سحابة داكنة من الحزن الغائر في النفس تطل من عينيه اللامعتين ببريق الدمع.
(يتبع)

إعداد: كمال بالهادي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here