السفر عبر الزمــــــــــان

جميل حسين الســــــــاعدي

كان الوقت منتصف الليل، وقدْ خيّمَ السكونُ على القرية وأخذت الأنوار المنبعثة من كوى البيوت تنطفئ تدريجيا، إشارة إلى بـدء وقــــت النوم إلا كوّة واحدة ظلّت ساهرة، يتسرّب عبرها ضيـــــاء ضعيف مــن مصباح نفطي ليلتقي بالضياء المنبعث من نجوم لا حصر لها، كانــــــت تتألق

إلــى شعاع المصبــاح الصغير. أمّا أفكاره فقد كانت تطوف في عوالم في تلك الســاعة على صفحــة السماء الصــافية.

لمْ يشعــرْ الشاعر بحاجة إلى النوم، فقد كانت عيناه تتطلّعـان بعيدة بُعْد َ تلك النجـــــوم، التي توشك أن لا تدركها الأبصار لبعدها السحيــــق، وأحسّ على حين غفلة بصفاء جميل يغمر كيانه، وانبعث في أعماقه شعور قويّ بأنّـهُ قد تحرّرّ نهائيا ً من الجسد، وبأنّ روحه اتخذت شكل طائر غريب له القدرة على اختراق المسافات والأزمنة بسرعة فائقــــة كلمح بالبصر.

وانطلقت روحه كالبرق تعبر بوّابات الأزمنــــة واحدا واحدا حتّى حلّقت أخيرا فــــي سمــاء الزمان الأول. وعلى حين غرَة انبعثت فيها الأشواق البدائية الصافية في مراحل الخلق الأولى وغابت فــــــي جمال الإطلالة ألأولى للأشياء. فالأرض ما تزال في فرحها الطفولي تعيش بهجة الخلق الجديد، والكائنات الحيّة قد اتخذت مواقعها، التي أعدّها لها الخالق فــــي خارطة الخلق: الطيور في الفضاء، الحيتان والأسماك في البحـــــــــار، والوحوش الكاسرة في الغابات وهكذا دواليك.

حلّق الشاعر فوق السهول والوديــان والميــــاه. كان كلّ شئ يجري مثلما أراد له الخالق، واستمرّ في التحليق بموازاة الأرض حتّـى أبصــــر على مسافة غير بعيدة شبحين ضخمين، توقّف عن التحليق وهبط إلــــى الأرض ليستقرّ علــى ربوةٍ صغيرة وأخــذ يراقــب الشبحين، وفــي هذه الأثناء سمـــــع تغريداً جميلاً ينبعث من فوقه، رفع رأسه فلمح طائريـن جميلين. كان الطائران يحركان أجنحتهما فــــي إيقاع جميــــــل ويطلقان أصواتا ً جميلة احتفاء ً بإطلالة اليوم الجديـــــــد. امتلأ قلبه بفرح ٍ صاف ٍ وأخذت بلبّهِ روعةُ المشهد، حتّـــــى أنّهُ نسي كلّ شئ مـن حولـه ِ وانتقلَ بأحاسيســهِ إلــى دنيـــــــا من الالوانِ والأضـــــــواءِ تنبعث مــن أعماقها نغمــاتٌ تحملُ دفءَ وانسيابيّة الحياة البدائية وغاب في سحـــــر تلك الدنيا واستغرقَ في متعها الجمالية، لكنّهُ سرعانَ

مــا انتزعهُ صراخٌ مروّعٌ من تلك الدنيا، وعـــاد ليجد نفسه فــوق الربوة، وصوّب بصــره في اتجاه مصدر الصراخ، فلمحَ أحــــــد الشبحين ممدّدا ً علـــى الأرض يلفظُ أنفاســه الاخيــرة. أمّا الشبح الثاني فقـــد وقف عنـــد رأس ضحيتـه يتأملها حتّى سكــــــــــنَ فيها الحراكُ نهائيا. بعدها استدار ناحيــــــــــة الشرقِ وانصرف.

اقترب الشاعرمن القتيل، تفرّس فــــي وجههِ وفي أعضاءِ جسمـه، فعرف فيه ذلك الإنســـــان، الذي تحدّثتْ عنه الكتب القديمة: هابيـــل الذي قتله أخوهُ قابيل حسدا ً.

في تلك اللحظة انطفأ سحر الوجود فـــي نفسه وتحوّل العالم فــــــي مخيّلته إلى خرائب تعصف فيها رياح سوداء مجنونـة. ، فقرر أن يغادر عالم الزمان الأول وعالم الجريمة الأولى، وهكـــذا عبر بوّابة الزمن الأول إلى الزمن الثاني. كان العالم في الزمان الثانــــي ما يزال جميلا لم يفقد من جدّته الكثير. تنقّل الشاعر من مكان إلى آخـــر يمتّع نظره بجمال الطبيعة الخلاّب، حتّى وجد نفســـــــه أخيرا على سفح جبل، تلفّت حوله فأبصر عددا ً من الرجال، يحملون فــي أيديهم رماحــا، يطاردون رجلا وامرأة. كان الرجل وزوجته يلتقطان الحجارة الصغيـرة ويقذفان بها الرجال المهاجمين، وهكذا تمكّنا من مشاغلتهم بعض الوقت، حتّى خارت قواهما وهما علــى مقربة مـن كهفهما، فاضطرّا للإستسلام.

أمّا الرجل فقد ربطت يداه ورجلاه بحبال الجنّب بعد أن طرح ارضا . ثمّ أنهال عليه الرجال بالرماح طعنا وهو يصرخ ويستغيث إلى ان خمدت أنفاسه. أمّا زوجته فقد كانت تحاول أنْ تخلّص نفسها من أيدي الرجـــــال، الذين امسكوا بها بقوّة. لكن من أين لها أن تنقذ نفسها مـن أيدي الكثرة المسلّحة وهي المرأة الضعيفة العزلاء من السلاح. وبسرعة فائقة تمّ الفصـــــــــل الاول من الجريمة، ليبتدأ الفصل الثاني منها. كانت المرأة قـــــد طرحت أرضا في الحال وهي تطلق صرخات حادّة، رددتها جنبات الجبــل. كان الرجال يهمّون باغتصابها. إلا أنّها كانــــت تدفعهم عنها بيديها ورجليها، حتّى خانتها قواها فلم تعد قادرة على المقاومة. وهكـــــذا اغتصب شرف الإنسان بعدما اغتصبت حياته. ذهل الشاعر لفظاعة ما رآه وقال في نفسه:

إنّ الزمن الثاني أسوأ بكثير من الزمن الأول. وجاءه الصوت من داخله:ـ

لم ترَ بعد أيّ شئ. ما زلت في الأزمنة السعيدة. انّ هناك ما هـــو أسوأ بكثير.

وانطلقت روح الشاعر تعبر بوّابـات الأزمنة علـــى غير اتّفاق، حتّـــــى وجدت نفسها في زمان لا يبعد كثيرا عن الزمن الحالــــي، تلفتت حولها، كان العالم قد

تغيّر كثيرا. فقد خرج الناس من الكهوف وانطلقوا جماعات في مشارق الأرض ومغاربها، نقلوا الحجارة مـــن الجبال، كسروهــــــا وشيّدوا منها القصور والقلاع الضخمة، فنشأت بذلك المدن وحكوماتهــا.

طاف الشاعر بمدن عديدة، فاسترعى انتباهه التفاوت الكبيــر القائم بينها. فمن مدنٍ غنيّـة حدّ الفحش إلى أخرى فقيــــــرة حدّ الإقداع، ومـــن مدن أسكرها الجبروت إلى أخرى أذلّها الضعف.

وقال الشاعر في نفســه:

نفس التقسيم الأزلي للعالم، نفس المعاناة ما زالت قائمة. وحلّقت روحــه بعيدا، حتّى حطّت في آخــــر المطاف على أحد الأسوار المهدّمة، نظرت أمامها فانتابها الرعب من هول ما رأت: اجساد بشريّة تركت في العـراء طعما لوحوش البرّ والطيور الجارحة، بيوت هجرها أهلها وسكن فيـــــها الصمت، وحدّث الشاعر نفسه مرّة أخرى:

ـ يا لها مـن مدينة بائسة، لم يترك فيها الجبروت أثـرا للحياة. إنّها صورة عن حقيقة عالم المدن، الذي يسكنه هوس الحرب، فلأترك هذا العالـــــم الى عالم القرى، ربما يكون الأمر مختلفا تماما هناك.

وفي غمضة عين وجد نفسه في سهل فسيح، ورمى ببصره محدّقا فــــي المدى البعيد، فلاحت له على البعد مجموعة أشباح، لم يستطعْ أن يتبيّنها، فرأى أن يختفي في مكان غير بعيــــد عن طريق مرورها، ليتسنى لــــــه مراقبتها عن كثب. اقتربت الخطوات حتّى اصبحت على مسافة جدّ قريبة منه. رفع رأسه يختلس النظر فوقع بصره على أربعة رجال.. ثلاثة منهم يمتازون بمتانة البنية، أمّا الرابع فقد كـــــان بيّن الهزال، فقرّر أن يتابعهم ليعرف ما هي قصتهم، وظلّ يقتفي آثارهم ساعات طوالا، وهم يجرون من مكان الى آخر ابتغاء صيد يظفرون به، إلّا أنّ كلّ محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح. وفي طريق عودتهم قرّر الثلاثة الأقوياء أن يقتلوا رفيقهم الرابــع الضعيف ويتقاسموا لحمه فيما بينهم. أحاط الثلاثة بصاحبهم من كلّ جانب وسدّوا عليه منافذ الهرب، ثمّ جرّوه بشدّة إلى شجرة ضخمة، وربطوه إلى جذعها. كان المسكين يتوسل إليهم ان يتركــــــوه، إلا أن مسامعهم كانت مغلقة في تلك اللحظة، التي استيقظت فيها الوحوش النائمة فــي أعماقهم مدفوعة بحمّى الإفتراس، فغرسوا حرابهم فــــــي جسده النحيل، واحسّ الشاعر وكأنّ تلك الحراب كانت تنغرس في جسده هو.

في هذه الأثناء مزّق السكون صراخ مروّع، انطلق من أحد البيوت فـــي القريّة، والذي حمله النسيم مـن بيت إلى آخر، حتّى أوصله اخيرا إلـــــى بيت الشاعر،

الذي كان غارقا في تأملاته البعيدة. انتبه مذعـــــــوراً لدى سماعه الصراخ وقال في نفســه:

ــ ماذا من جديد؟ أيتها السمــــــــــاء

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here