احوال العراق زمن الاحتلال العثماني ح 16 *

د. رضا العطار

لقد كان في تحويل جماعات العشائر من حالة الترحال الى حياة الزراعة قد عطل النظام العشائرى واوجد ازمات اجتماعية حادة اجبرتهم على اعادة النظر فى بناء هويتهم وتحديد موقعهم من الخارطة البيئية الجديدة . ومما كان يثير دهشة رجال الدين , ان معظم افراد العشائر قد احجمواعلى قبول فكرة التشيع فى بادى الأمر , ولم يقبلوا عليه الا بعد عقود من الزمن , كماان سعة التشيع تفاوتت من منطقة الى اخرى طبقا لطبيعة الجغرافيا , فهناك مناطق الأهوار ومنطقة دجلة وحوض نهر الفرات , كما كانت تتفاوت كذلك في درجة احتكاك افراد العشائر بسكان المدن علما ان معظم العشائر كانت معتزة بأعرفها وتقاليدها القبلية التى نشؤا عليها منذ نعومة اظافرهم والتى كانت عبارة عن حزم من الفضائل الأخلاقية يتحلى بها البدوى القادم من الصحراء –

لا يخفى ان الهجرات العربية التى بدأها الأكديون فى الماضى السحيق قد استمرت عبر دهور متواصلة من الزمن , و قد اخذت بعد ظهور الأسلام طابع الهجرات الجماعية الى ان انتهت فى اواخر القرن العشرين , بعد ان كونت البنية التحتية الحقيقية لسكان العراق الحديث وان الأدعاء بحداثة شعب العراق وكونه منحدر من اصول فارسية ادعاء باطل تدحضه الثوابت التاريخيه.

. انه من الطرافة بمكان ان نعلم ان افراد العشائر العربية التى هاجرت الى العراق كانت ترفض في البداية زيارة العتبات المقدسة ولم تكن راغبة فيها اصلا , لا وحتى لم تعلق عليها اهمية تذكر – 14 – فصفات عالم الدين من عبادات وزهد و تقوى , لا تهمه من قريب ولا من بعيد ولا تحرك اوداجه , بل تهزه تقاليده وقيمه البدوية التى نشأ عليها فى الباديه كالفروسيه والشجاعه والنخوه ونكران الذات , لذا كانوا يعظمون العباس اخو الأمام الحسين بصفة خاصه لأنه كان يتحلى بصفاهم وكانوأ ينعتونه ( بأبو راس الحار ) .

وفى هذا السياق استذكر ايام العهد الملكى فى اربعينيات القرن الماضى عندما كانت شرطة المحكمة الجنائية في كربلاء , تجلب المتهمين بجرائم القتل الى صحن العباس بغية اجبارهم على القسم بعدما كانوا في البداية قد انكروا جريمة القتل وقت اداء القسم القانوني بالمصحف الشريف. فكانوا ينهارون حال وصولهم الى الصحن قبل رفع ايديهم لأداء القسم بالعباس ويعترفون بما اقترفت ايديهم .

كان الهيكل التشكيلى للمجتمع العشائرى في العراق يضم فئة دينية خاصة تدعى (المؤامنة) كانوا يرسلون عادة من قبل الحوزه العلميه فى النجف الأشرف . كانوا من خريجى المعاهد الفقهيه مفوضين فى تسوية امور الزواج والطلاق والميراث واقامة المراسيم الدينيه وقيادة المواكب الحسينيه وهم متهمون في ادخال زواج المتعه واتاحة الفرصه لشيوخ العشائر بالأقتران بعدد من الزيجات .

كان من الملاحظ انه بحلول القرن العشرين كانت العشائر المستقره ما زالت منقسمه على اسس طائفيه , فعشائر المنتفك قد تشيعت بينما عشائر الشحيم استثنت , اما عشائر الفراعنه والزوبع وتميم فقد تفرقت بين شيعيه وسنيه , اما عشائر الجبور فى حوض الفرات فقد تشيعت بينما عشائر جبور دجله احتفظت بمذهبها السابق .
لقد فسر المراقبون دوافع اقبال بعض الأفراد على اعتناق المذهب الجعفرى طوعا هى تهربهم من تبعات قانون التجنيد العثمانى الذى كان يعرف بالسفربر الذى كان المكلف حينذاك اذا سُحب فى حملة عسكرية نادر جدا ما يعود الى اهله , وتخلصا من تداعياته لجأ اعداد كبيره من العراقين الى القنصليات الأيرانيه ليكسبوا جنسيتها . هؤلاء عرفوا بعد اجيال بالتبعية – 18 –

لم تكن فكرة قبول التشيع لدى افراد العشائر العراقية عقائديا بالضرورة , بقدرما كانت سياسيا , فالنزعة الفطريه عند الانسان فى التمرد ضد المحتل لآرضه تجعله ميالا الى اعتناق المذهب المغاير لمذهب الدخيل , فكان طبيعيا ان يتجاوب ابناء العشائر مع الأسلام الشيعى طالما وجدوا فيه ما يجذبهم الى الطرف المعادى لسيطرة القوه الأجنبيه.

* مقتبس من كتاب تاريخ الشيعة في العراق ومن لمحات من تاريخ العراق الحديث للدكتور علي الوردي.

الى الحلقة القادمة

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here