اليقظة الثقافية أبان النهضة الاوربية في اعقاب الثورة اللوثرية

* د. رضا العطار

شهدت هذه الفترة ثورة ثقافية هائلة، خاصة بعداختراع الطباعة على يد الالماني جوهان جوتنبرج عام 1438 ، فاحدث هذا الحدث المثير ثورة عارمة في الثقافة الانسانية والحضارة البشرية على حد سواء، حيث طبعت الملايين الكثيرة من الكتب في مختلف العلوم والاداب والفنون، في حين ان شيخ الاسلام في عاصمة الامبراطورية العثمانية، التي كانت الشعوب العربية ترضخ تحت حكمها البغيض، لم يوافق على طباعة الكتب الا بعد 200 سنة من هذا التاريخ ! ! .

كانت هذه الفترة من الفترات القلائل في التاريخ الانساني التي استقبلت فيها الثقافة في اوربا افكار القرن الخامس عشر عن وحدة الدين مع الفلسفة اللذين بقيا متنافرين متخاصمين حينا من الدهر. فجاء الفيلسوف الايطالي فنشينو بنظريته القائلة : انه لم يعد في الحياة ما هو خاف او مستحيل او مستعص على الكشف والمعرفة – – فاصبح الغامض هو الشئ الذي لم تصل اليه معرفتنا بعد. هذا ما ورد في كتابه :
(منزلة الانسان).وقد اعتبرت هذه النظرية بمثابة الافلاطونية الجديدة.

وكان المثال التطبيقي على تحقيق جانب من وحدة الدين مع الفلسفة في هذه الفترة وبزوغ نجم مارتن لوثر، رائد حركة الاصلاح الديني، فقد كان لوثر في وجه من وجوهه بمثابة فيلسوف الكنيسة – والفلسفة في هذه الفترة كانت تعني المفاهيم الجديدة.
وخلال كل ذلك راح المؤرخون يصفون القرن السادس عشر في اوربا بانه كان العصر الذهبي الذي ازدهرت فيه النهضة الاوربية، كما وصفه الاخرون بانه عصر المغامرة، ذلك ان اوربا في هذا القرن بدأت كلها تقريبا تزحف نحو نور المعرفة والفن والادب بعيدا عن التكايا والزوايا وما يتعلق بها من عالم الخرافة والغيبيات السخيفة، كما وصفت ايطاليا بالبلد السحري، من جراء زخم مظاهر الحضارة الجديدة.

ولا شك ان ما ساعد النهضة على هذا التقدم السريع وهذا الازدهار المبهر، هو النشاط الاقتصادي الكبير الذي شهدته اوربا في هذا القرن نتيجة الاقتصاد الجديد الذي جاءت به حركة الاصلاح الديني.
فشجع المذهب البروتستانتي الجديد الذي قاده لوثر على فتح البنوك والتوسع في منح القروض بفوائدها البنكية التي كانت الكنيسة الكاثوليكية تحرمها وتقف ضدها.
وفي الوقت الذي كان فيه الاقتصاد الاوربي ضعيفا في ظل الكنيسة الكاثوليكية نتيجة تقديسها للفقر والجهل ومعارضتها للثراء وزيادتها لعدد ايام العطل للعمال التي بلغت 115 يوما في السنة، معظمها عطلات القديسيين تتعلق بولادتهم وموتهم – = – فجاءت البروتستانتية والغت هذه العطلات واعتبرت الفائدة البنكية مالا حلالا مشروعا. وامتدحت الغنى والرأسمالية التي اعتبرت بمثابة التعبير الاقتصادي عن عصر العقل. مما جعل رجال الاعمال الاوربيين يرحبون بهذه السلوكيات والاخلاق الاقتصادية الجديدة، فدعموا البروتستانتية ماديا ومعنويا- – وهكذا التحم المذهب الجديد مع الرأسمالية التحام المصالح والمنافع المتبادلة.

فزادت الثروة الاوربية واتسعت التجارة وازدهرت الاعمال. وكان نتيجة ذلك ان ارتفعت الحياة الاجتماعية اليومية، فصار الناس يأكلون اطعمة افضل ويعيشون في بيوت اكثر نظافة وترتيبا مما مضى، فحصل تغيير في أثاث البيوت وظهرت ادواتها الجديد لاول مرة ممثلا بالاسرة والكراسي والمناضد والاطباق ووسائل الطبخ المعدنية والفضية التي حلت محل الادوات الخشبية – – ثم حل البيت محل الكنيسة كمركز للعبادة وحل الوالد بتربيته القويمة لابنائه محل الكاهن. واخذت الام دورها في تدريس العقيدة الدينية بتفتح بعيدا عن التعصب. وانتشرت الالعاب الرياضية ككرة القدم وغيرها – – وبدا الناس يرقصون كل انواع الرقص التي وصفها الشاعر الفرنسي رابليه بالكرنفال. وانتشرت الحدائق في كل مكان وعرفت اوربا عن طريق هولندا زهورا جديدة كزهرة التولب عام 1550 وبدت الحياة في اوربا بهيجة وبهية بهاء معرفيا واقتصاديا وروحيا، وزاد عدد مواليد اوربا في هذا القرن نتيجة لرغد العيش هذا.

ونتيجة لما حصل في هذا العصر من ثورة في الافكار ومن ثروات كثيرة ورفاه في العيش وطيب في الحياة العامة، ان ازدهرت الفنون والاداب والموسيقى والعمارة تبعا لذلك، ومما ساعد على مزيد من الازدهار والتقدم في الفنون والاداب تبنى الامراء والنبلاء ورجال الاعمال جزءا مهما من هذه الفنون والاغداق عليها وانعاشها – فهؤلاء هم الذين بنوا القصور وفتحوا ابوابهم للفن والفنانين والادب والادباء فشهدت بلاد كل واحد منهم ميلاد اديب لامع او فنان عظيم؟

* مقتبس من كتاب التكايا والرعايا للكاتب العربي د. شاكر النابلسي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here