حال العراق زمن الاحتلال العثماني ح 17

* د. رضا العطار

كان معظم اهالي المحافظات الجنوبية في العراق قد انحدروا اصلا من بلاد نجد واليمن والحجاز في الجزيرة العربية، منذ القرن الرابع عشر الميلادي، فهم عرب اقحاح، سيماهم في وجوهنهم، فاصولهم ضاربة في عمق التاريخ، وقد اكتسب بعضهم الجنسية الايرانية اضطرارا، خلال فترة الاستعمار العثماني للعراق، بغية التخلص من عقبات قانون التجنيد (سفر برلك)، المعروف يومذاك ب (الاجباري)، فاذا كان الشاب العراقي الخاضع للخدمة العسكرية قد سُحب وارسل الى جبهات الحرب، يكون امر احتمال رجوعه الى اهله في حكم العدم. والحقيقة التاريخية التالية تثبت صحة ما اقول.

جاء في كتاب (صفحات من تاريخ العراق المعاصر) 1914- 1958 ، مذكرات الفريق اول ركن صائب صالح الجبوري، رئيس اركان الجيش العراقي، يصف فيه جانبا من حياته العسكرية عندما كان ضابطا في الجيش العثماني عام 1915 برتبة آمر فصيل، وقد أرسلت وحدته الى جبهة القوقاز، للقتال ضد جيش روسيا القيصرية. فهو يصف في مذكراته الشخصية، كيف كان حال موقعه في قرية (قوب) فيقول :

كان الفصلُ شتاء، و البرد قارسا، و العواصف الثلجية تكاد لا تنقطع، وقد وجدت موقعي العسكري مطمورا في اعماق الجليد، فأصدرت امري للجنود ان يحفروا داخل الثلج الصالد، تجمًد على اثرها عدد غير قليل منهم. وعندما انقطع عنا الامداد في المؤون والذخيرة بسبب انقطاع طرق المواصلات، اضطر الجنود الى اكل الحيوانات الميتة . . علما ان الجيش العثماني الذي كان متواجدا في هذه المنطقة كان يضم اكثر من الف جندي عراقي، هلك معظمهم.
وبعدما تسربت اخبار الجبهة الروسية المفجعة في ارجاء ولايتي بغداد والبصرة اللتان تضمان محافظات الوسط والجنوب، هرع الالوف من المواطنين الى القنصليات الايرانية واكتسبوا الجنسية الايرانية، تنقذ ابنائهم من شر بلاء الأجباري.

لم تكن فكرة قبول التشيع لدى افراد العشائر العراقية عقائديا بالضرورة بقدر ما كانت سياسيا. فالنزعة الفطرية عند الانسان تدفعه بأتجاه التمرد ضد المحتل لأرضه تجعله ميالا الى اعتناق المذهب المغاير لمذهب المتجاوز الدخيل، فكان طبيعيا ان يتجاوب ابناء العشائر العراقية مع الاسلام الشيعي طالما وجدوا فيه ما يجذبهم الى الصف المعادي لسيطرة القوة الاجنبية.

كانت مدن العراق الحدودية مثل كربلاء والنجف مراكز اقتصادية واسواق موسمية صحراوية في بيع التمور والحبوب والاقمشة. فكان البدو يأتون من اعماق البادية ومن الجزيرة حيث يقيمون مضاربهم في ربوع المناخة قرب النجف الاشرف ومناطق حوض الفرات الاوسط، خاصة مدن طويريج والكوفة والكفل والشامية وكانت مدينة النجف بالذات مركز تجميع الصوف وجلود الماشية، فكانت المنطقة تجتذب تجار السلع من بادية الشام بالاخص حيث كانت تجرى فيها المعاملات التجارية.

كانت الرحلات الموسمية تدور حول فصلين في السنة، ففي موسم الامطار كانت العشائر تتجه نحو الصحراء التي تبدأ في ابريل الى اكتوبر وهذا النشاط الاقتصادي كان يتزامن مع موسم حصاد القمح والشعير في جنوب العراق خلال شهر ابريل ونيسان. كما غدت مدينة الحلة هي الاخرى اسواقا عشائريا واسعة لتبادل وبيع السلع التجارية فكانت مناسبات مؤاتية للحديث في قضايا سياسية واجتماعية وادبية تذكرهم بسوق عكاظ قبل الاسلام.

تشير السجلات الرسمية ان نسبة الاستقرار للعشائر الرحل في الريف العراقي عام 1867 كانت 47% لكنها ارتفعت عام 1905 ووصلت الى 72% اي بزيادة 33% خلال اربعين سنة. فكانت نتيجة هذه الزيادة في الكثافة السكانية ظهور اكثر من عشرين مدينة جديدة في وسط وجنوب العراق، كانت مدينتي الناصرية والعمارة اسرعها نموا.

وهكذا طرأ تغيير جوهري على النسيج الاجتماعي للمجتمع العشائري، فقد كانت حياة البدوفي ماضي الزمان متسمة بالتنقل والترحال الدائم، اصبح الان مرتبطا بالارض، وبحكم القانون لا يسمح له تغيير مكان سكناه، وقد اثار هذه الظرف الجديد نزعات حادة بين رجال العشائر خاصة تلك التي تتعلق بشأن توزيع المياه ومقدار حصتهم منها ومدى موقعهم من النهر او بعدهم عن المنبع. لقد ادى ممارسة العشائر المتوطنة لحرفة الزراعة الى تنوع الاقتصاد الوطني وتطور افرادها ثقافيا بعدما اصبح من الميسور لعوائل العشائر من ادخال ابنائهم الى مدارس الريف.

لقد اصبح لزاما على شيخ العشيرة ان يأخذ على عاتقه مسؤوليات رسمية بعدما صار حاملا لصك ملكية الارض، فكان عليه ان يجبي الضرائب ويحافظ على الامن في منطقته ويمارس التحكيم في النزاعات القبلية وينظم اعمال السخرة ويشرف على توزيع الماء بصورة مرضية وبالتالي يمثل عشيرته امام الحكومة المركزية في بغداد.
لقد ادى تطوير النظام العشائري الى تقليص سلطة الشيوخ وظهور السراكيل الذين كان دورهم كمراقبين عمل، وكذلك كانوا وسطاء بين مالك الارض والفلاحين وكانت وظيفتهم بالدرجة الاولى تنحصر في ابقاء الارض مزروعة ليتسنى تحصيل الفوائد للملاك.

الى جانب هؤلاء كانت هناك فئة اخرى متميزة، يطلق عليها اسم ( السادة ) يتنشرون في المناطق العشائرية لهم منزلة دينية مرموقة كون ان نسبهم يرجع الى اسرة الرسول عليه السلام حسب ادعائهم. وقد تعزز موقعهم عندما عملوا كأولياء. كان بعضهم يدعي امتلاكهم قوى خارقة لعلاج الامراض وكان لدعائهم وزن معنوي عند سكان الاهوار وكانوا يحضون بقدسية بين رجال العشائر الذين كانوا يقسمون الايمان بأسمائهم وكانت منزلتهم العليا تتجلى في حقيقة ان دية السيد القتيل هي ضعف دية الشخص العادي . وكان السادة يمنحون مواقفهم في الاعراس وحفلات الختان ومراسيم الجنائز. وكان هؤلاء هم الوحيدون الذين يقرأون ويكتبون. فكانوا بمثابة همزة وصل مع العالم الخارجي.

• مقتبس من كتاب تاريخ الشيعة في العراق لعبد الله النفيسي ومن لمحات لتاريخ العراق الحديث للدكتور علي الوردي.

الى الحلقة القادمة

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here