كيف نستقبل ذكرى الهجرة النبوية، ولماذا حدثت؟

يشرق في هذا اليوم السبت، اليوم الأول من العام الهجري الجديد 1441.. الموافق 31 آب 2019 .

كيف يا ترى نستقبله؟

هل بإرسال رسائل التمنيات.. والأمنيات بالحياة الرغيدة.. والصحة والعافية!!

أم بإقامة الحفلات الغثائية.. الفنية.. الاستعراضية!!

أم بالاستمتاع بالأغاني.. والموشحات الدينية.. والمدائح النبوية.. والتمايل ذات اليمين والشمال طربا.. ونشوة.. وانتعاشا بالأصوات الغنائية العذبة!!!

أم بقراءة سيرة الهجرة المكرورة، من كتب السيرة القديمة.. ذات الأوراق الصفراء البالية.. الممزقة .. وكيفية حدوثها.. والمعجزات التي رافقتها!!!

يا حسرة على العباد!!!

أهكذا حدث عظيم.. جلل.. لم يحدث في تاريخ البشرية له مثيل!!!

أهكذا ذكرى موكب نبوي.. مهيب.. عظيم.. لأكرم رجل، عرفته البشرية في حياتها كلها.. يمشي الهوينا، وصاحبه الصديق، في صحراء الحجاز.. وتطارده عصابات المشركين.. لتقتله حنقا وحسدا واستكبارا!!!

يستقبله خلف المسلمين.. وذراريهم الغثائيين، بهذه الصورة الباردة.. الجامدة.. وبهذه العقلية البليدة.. والاحتفالات السوقية.. المهينة؟؟؟!!!

أليس هذا نكران لجميل الرسول صلى الله عليه وسلم.. الذي كان يردد دائما وأبدا: أمتي.. أمتي..

واستهانة.. واستخفاف بتضحياته.. وجهاده.. ومعاناته.. لإيصال هذا الدين العظيم.. الفريد من نوعه.. إلى البشرية جميعا؟؟؟!!!

أهذه هي قيمة النبي صلى الله عليه وسلم عند أتباعه.. يتغنون فقط بمدحه.. ويطربون.. ويتضاحكون.. ويصلون عليه.. ثم ينفضون.. لا يلوون علي شيء!!!

وينسون.. بل ويهملون.. ويتغافلون عن العبرة.. والعظة من هذه الحادثة الفريدة.. في تاريخ البشرية..

وعن سببها!!!

إن من يزعم أنه يحب النبي صلى الله عليه وسلم..

ويقول: كذبا وزوراً، أنه يفديه بأبيه وأمه وروحه..

عليه أن يعرف.. لماذا هاجر؟!

وما هي الدوافع.. والأسباب الحقيقية.. التي جعلته وأصحابه.. يتركون أموالهم.. وديارهم.. وأملاكهم..

بل وحتى أهليهم وأقرباءهم.. مع أن المشركين.. ما كانوا يقصفونهم بالطائرات.. ولا البراميل المتفجرة.. ولا القنابل الحارقة.. ولا يهدمون بيوتهم فوق رؤوسهم؟!.

ومع ذلك هاجروا..

فلماذا هاجروا؟!

للإجابة عن هذا السؤال الكبير.. عليه قبل كل شيء.. أن يعرف، ما هي طبيعة هذا الدين؟..

فهو ليس دين وصايا.. ونصائح.. ومواعظ.. وترغيب.. وترهيب.. وأحاديث عن الموت.. وعذاب القبر.. وعلاقات أسرية.. واجتماعية.. وحسن جوار.. ومعاملات حسنة، فحسب.. وإن كانت هذه موجودة فيه..

ولكنه أعظم من هذه بكثير..

إنه منهج.. ونظام حياة كامل.. لكل شؤون الحياة..

إنه نظام دولة.. متكامل.. شامل.. للسياسة، والحكم، والقضاء.. وغيره..

فلو كان الدين بالصورة الأولى.. مواعظ وأخواتها.. وكما يعمل الصوفيون البسطاء.. على ترسيخها في عقول أتباعم.. أنه هذا هو الدين فقط ..

لو كان الدين كذلك.. لما اعترض المشركون.. على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.. ولما حاربوه.. واضطهدوه.. ورفضوا دعوته.. وعذبوه، وعذبوا أصحابه!!!

إن الدعوة إلى الخلق الحسن.. والمعاملة الحسنة.. والآداب..

دعوة سهلة وبسيطة.. وطبيعة العرب تؤمن بهذا.. وتمارسه.. فلا اعتراض على هكذا دين!!!

بل هم عرضوا عليه أكثر من ذلك:

إنهم عرضوا عليه.. أن يكون سيدا عليهم، يطيعونه.. ويعطونه ما يشاء من الأموال.. ويزوجونه أجمل وأشرف النساء.. لقاء، أن يكف عن دعوته..

ولكنه رفض.. وبإباء شديد.. وقال لعمه الذي نقل له هذا العرض:

” يَا عَمِّ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ ” ، ثُمَّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ ، فَلَمَّا وَلَّى نَادَاهُ أَبُو طَالِبٍ ، فَقَالَ : أَقْبِلْ يَا ابْنَ أَخِي . فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ : اذْهَبْ فَقُلْ مَا أَحْبَبْتَ فَوَاللَّهِ لَا أُسْلِمُكَ أَبَدًا .

مع أن دعوته لهم، كانت فقط.. قولوا: لا إله إلا الله.. تفلحوا..

فما كانوا يقبلون قولها..

كما يقولها خلف المسلمين اليوم، ويرددونها بكرة وعشيا.. عشرات المرات!!! وهم في الوقت نفسه.. يحكمون بقانون العبيد.. ويتعاونون مع الكفار على قتل المسلمين.. ويوقعون اتفاقيات على ضربهم بالطائرات.. بذريعة أنهم إرهابيون.. وتهجيرهم من بيوتهم!!!

إنهم كانوا يفهمون من هذه الشهادة.. أنها زلزال هادر.. وانقلاب ساحق.. وماحق.. على الزعامات البشرية.. وسيادتها.. وتحكمها.. وسيطرتها.. وقانونها..

كانوا يفهمون.. أنه بمجرد النطق ب( لا إله إلا الله ).. هو انسلاخ.. وتحرر من العبودية للعبيد.. وتحطيم.. لعروش الزعامات القبلية.. والعشيرية.. والقومية.. وإلغاء لسلطانها.. وسيطرتها على الناس.. والانقياد الكامل.. والدينونة التامة.. للملك الواحد الأحد.. الله رب العالمين..

والذين نطقوا ب ( لا إله إلا الله ).. حققوا هذا الانسلاخ من الجاهلية.. وعرفوا أن عليها تبعات كثيرة.. ومسؤوليات جليلة وعظيمة.. وأن طريقها صعب وشاق..

عرفوا أنه:

طريق صاعد في الجبل.. نحو القمة السامقة..

وليس طريقا في السهول.. والحقول.. والبساتين!!!

ولا معبدا، محفوفا بالورود.. والرياحين..

بل هو مملوء بالصخور.. والأشواك.. والثعابين!!!

ومحفوف بالمخاطر.. والعثرات.. والالتواءات!!!

التي تؤدي إلى الانزلاق.. والسقوط.. ونزف الدماء.. وكسر العظام.. وجرح الأقدام!!!

وعرفوا أنه طريق العظماء.. والكبار.. والأصفياء..

ولذلك حينما تعرض المسلمون الأولون.. المستضعفون.. أمثال ياسر وأسرته.. وبلال.. وصهيب.. للعذاب صبروا.. وتحملوا.. ورفضوا التراجع عن هذا الدين العظيم.. بعد أن ذاقوا حلاوة الحرية.. ولو مع العذاب..

لأنهم علموا من معلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أن الابتلاء.. هو السمة الأساسية.. في هذا الدين..

سارعليه كل الأنبياء والمؤمنين..

لا مفر منه.. ولا مهرب.. لمن يريد أن يُثبت أنه مؤمنا..

( لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ ).

( وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَنَبۡلُوَاْ أَخۡبَارَكُمۡ ).

( وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ ).

وقد طمأن الله تعالى.. رسوله صلى الله عليه وسلم.. بأن تكذيبه من قبل قومه وإيذائه..

ليس بدعا.. ولا خاصا به فقط..

بل هو طريق الأنبياء كلهم..

( وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدۡ كُذِّبَتۡ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِكَۚ ).

( وَلَقَدۡ كُذِّبَتۡ رُسُلٞ مِّن قَبۡلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰٓ أَتَىٰهُمۡ نَصۡرُنَاۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِۚ ).

ويقول لموسى عليه السلام:

( وَفَتَنَّٰكَ فُتُونٗاۚ ).

ويخاطب المؤمنين:

( أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ﴿٢﴾ وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ﴿٣﴾.

هذا الذي يجب أن يتذكره.. من يستقبل هذه الذكرى العطرة..

يستقبلها بعقل متفتح.. وقلب خاشع.. ونية قوية.. وعزيمة أكيدة.. على صعود هذا الطريق إلى القمة السامقة.. مهما اعترضته من مصاعب.. وأهوال..

لأن البضاعة التي سيحصل عليها.. ستكون عظيمة.. جنة عرضها السماوات والأرض.. ليس لمائة أو ألف سنة.. بل للأبد..

وبهذا يكون من العظماء.. الأماجد.. الأكارم..

وليس كالذي يحتفل بها.. لساعات معدودة.. ثم ينتهي.. ولا يلوي بعدها على شيء!!!

فالذي همه الاحتفال فقط.. والاستمتاع بالأغاني.. والطرب..

مثله كمثل الأطفال.. الذين يحتفلون بالعيد.. بلبس الجديد.. وأكل الحلوى!!!

أما لماذا هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم؟

فقد كان لأجل إقامة دولة.. خاصة بالمسلمين.. يحكمها نظام.. ومنهج.. وقانون الله تعالى..

والخروج على سلطة طغاة المشركين..

ومن ثم الإنطلاق إلى نشر الدعوة.. إلى توحيد الله.. في كل أرجاء المعمورة.. وإخراج الناس من العبودية للعباد.. إلى العبودية لرب العباد.. ومن ظلمات الجهل.. والجاهلية.. إلى نور الإسلام..

فالهجرة كانت المحطة الرئيسية الأولى.. لوضع الأسس والقاعدة الصلبة.. لبناء الدولة.. والمجتمع المسلم..

فلولا الهجرة.. ما كان يمكن بناء الدولة.. ولا نشر الإسلام.. ولا القيام بالفتوحات.. ولما كنا نحن مسلمين..

فللهجرة فوائد عظيمة.. وكبيرة.. وجليلة.. مما يستدعي من المسلمين التائهين.. الضائعين.. كالأيتام على موائد اللئام.. أو كالشياه في الليلة المطيرة..

أن يأخذوا العبرة.. ويتعلموا الدرس النبوي..

فلا يجمع شتات المسلمين المبعثرين.. إلا قيام دولة مسلمة.. صرفة.. خالصة.. غير مشوبة بالعلمانية.. أو القومية.. أو الوطنية.. وأخواتها..

ولذلك.. يجب على الجماعة المسلمة.. أن تسعى بكل قوتها.. لتأسيس هذه الدولة.. ولو اتهمها أعداؤها.. بأنها تسعى إلى الحكم..

فلتقل لهم بعزة.. وقوة: نعم.. إنها تريد الحكم، لتحكم الناس، بنظام الله.. انتصارا لله.. وليس للأشخاص..

الجمعة 7 المحرم 1441

6 أيلول 2019

موفق السباعي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here