الأُضحية ………

لفظ صحيح المصدر من الفعل الثلاثي ضحّى – ض ، ح ، ى – ، الذي هو في أصله يعني التبرع أو التقديم ، والجمع فيه أضاحي ، وأعلى مراتب – التضحية – تكون بالمال أو بالنفس من أجل قضية حق يؤمن بها .

ومن الفعل أشتق معنى – أضحية البدن من بهيمة الأنعام المتداولة في ألسن العامة في يوم ( الحج الأكبر ) – ، تلك التي تكون في أيام معلومات ، والمُراد منها التقرب إلى الله ونيل مرضاته ، وحول هذا المعنى وعليه بحث طويل أختلف القوم فيه ، [ مع التأكيد من قبلنا بأن ( أعمال – مشعر منى – لم تُذكر في الكتاب المجيد ) ] ، و إنما جيء بها على سبيل التطوع ، عبر أخبار نسبوها إلى الرسول محمد ، أي إنها لا تدخل في أعمال الحج إلاَّ من باب الإستحباب وعلى نحو ( وذكروا الله كثيرا ) .

فإن قلتم : ألم يأمرنا الله بالإمتثال للرسول وبما جاء به من عند ربه ؟ ، كما في قوله تعالى – وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فأنتهوا – الحشر 7 ، وهذه واحدة من الأعمال التي قام بها الرسول .

قلنا : المعنى في قوله – وما آتاكم – مرتبط حصراً ودلالة على ما أتى به الرسول من عند ربه ، وإطلاق اللفظ يبين ذلك ، أي إن – ما آتاكم – به الرسول من عند ربه فخذوه ، وفي التقابل ( وما نهاكم عنه فأنتهوا ) ، وهذا يعني أن : – ليس كل ما جاء به محمد بن عبدالله هو بمثابة ماجاء به الرسول من عند ربه ، حتى يصدق عليه قوله [ و ما آتاكم ] – ، ومعلوم بالضرورة إن لمحمد بن عبدالله ثلاث صفات واحدة ذاتية والأخريين صفتين إضافيتين ، فالصفة الأولى : هي الصفة الشخصية والبشرية له وهي الأعم والأشمل والتي تعبر عنه وعن حياته ، وأما الصفتين الأخريين أعني ( الصفة النبوية والصفة الرسولية ) فتعبران عما كان يأتيه من الوحي ، والمدون في الكتاب

المجيد لا غير ، ولا يجب الخلط ، فما كان يأتي به محمد بن عبدالله بصفته بشراً إنساناً ، فهذا ما يطلق عليه ( بالإجتهاد والنظر وهو ليس من الرسالة ) ، وكما قلنا فالرسول لمحمد : – صفة مضافة وليست صفة ذاتية – ، ولا يصح الوصف بها من غير وحي أو تكليف ، وحين يُكلف الرسول بتبليغ رسالته يكون رسولاً – بالرسالة – وموصوفاً بها ، وعلى هذا فهي ليست من الصفات الذاتية الملازمة له منذ ولادته – بحيث تولد معه – ، إنما هي كما قلنا ( صفة مضافة ) يتصف بها المرء بعدما يكلفه الله بالرسالة ، والرسالة : – هي مجموعة الأوامر والنواهي التي نزلت على من أصطفاءه الله من البشر ليكون رسولا – ، والرسالة متأخرة رتبة عن النبوة في المقام بدليل الإصطفاء ، ولا يدخل في معنى الرسالة قول محمد الإنسان و فعله و تقريره قبل أن يُكلفه الله بالرسالة !! ، وعليه فكل فعل أو قول أو تقرير لم يأت به الوحي فهو مجرد إجتهاد ونظر ، والإجتهاد والنظر من الصفات الموضوعية التي لها مكانتها وأهميتها بشرط الموافقة لكتاب الله ( ولا يدخل الإجتهاد والنظر المجردين في دائرة قوله تعالى – وما آتاكم الرسول فخذوه …- ) ، و أما مفهوم الموافقة والمخالفة لكتاب الله فيسري تطبيقه على الجميع من دون تمييز ، وهذا المفهوم يؤتى به لضبط عملية الإجتهاد بحيث لا تخرج عن القواعد ، ولهذا يفترض فيه الدقة والعناية والتحري

.

والمعنى الذي ذهبنا إليه يجعل من الإنسان حين يكون خارجا عن أسوار الوحي واحدا من الناس ، لا يميزه شيئا عنهم البتة ، وأعني بلفظ ( خارجاً ) بضميمة الوحي أي مساوياً في الرتبة والمقام والعمل والتكليف ، أي إن له مالهم وعليه ما عليهم ، والمائز بينهما ما دل عليه قوله تعالى : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى

إلي ) الكهف 110 ، وبهذا النص ينتزع هذا التضخيم وهذا الخلط المُربك لنصوص الكتاب المجيد ومضامينه في الذهن العام .

ونعود للقول : إن الحكاية القرآنية في أصلها منتزعة من المعنى الظني لقوله تعالى : ( وفديناه بذبح عظيم ) الصافات 107 ، وهذا النص لا علاقة له البتة بما يقوم به الناس ويفعلونه من – ذبح للأنعام في العاشر من ذي الحجة – ، ( أعني إن مفهوم النص مختلف تماماً عن المصداق المتداول ) ، فأصل الحكاية والدليل عليها هو فعل تاريخي وإجتماعي له علاقة بزمن النبي إبراهيم وما قبله ، وهو ليس حجة ولا دليلاً في وصف ما يقوم به الناس من ممارسات في ذلك اليوم ، والقول بإستغراق فعل الحكاية في الوصف وفي البيان لتضمين صحة ومقبولية – الذبح – ( لا معنى له ) ، بل ولا دليل عليه إذا ما نظرنا إلى اللفظ في صيغته المقرؤه والتي لا يستفاد منها ذلك المعنى المذكور بلسان العامة ، وأما نسبة ذلك إلى هذا وتعميمه فدليل على مدى الخلل في بيان المعاني وتناسبها ، كما أن مفهوم – الفداء – بإضافة مفهوم – الذبح العظيم – إليه لازمه التناسب بين الصفة والموصوف ( أي أن يكون الموصوف من جنس الصفة لا غريبا عنها ) ، ويدل على هذا قول الإصولي – .

وأما العرب لما قالت : – إن الباء في لفظ – بذبح عظيم – سببية ، فهم يعنون بذلك : إنها بمثابة السبب الدال على هذا التناسب بين طبيعة الفعل وجنسه ، وفي هذه الحالة ينتفي معنى الإستغراق في الزمن وفي الصفة ، ويكون المتعلق دالا على أن جملة – بالذبح العظيم – في إطلاقها لا يُراد منها بهيمة الأنعام .

وقد ذهبت طائفة من المسلمين للقول : – ( بأن الذبح العظيم هو ذلك الفعل الذي قام به إبراهيم النبي ، حين ترك ولده في

عمق الصحراء ) من غير أب ولا معيل ، فالترك في الصحراء في حد ذاته يُعد ( تضحية عظيمة ) سماها النص – فداء – عن الذبح العظيم ، ووجاهة هذا التأويل تكون حالما ننظر إلى معنى الإستغراق وفي تناسب الصفة و الموصوف والشأن ، على إعتبار إن عموم المقال في كون ( الذبح العظيم ) لا يكون في – كثرة الذبح – إنما يكون بشأنيته وصفته ، وهذا ما لا يتوفر عليه في بهيمة الأنعام مهما كثرة وصفاً وعدداً .

أقول : والتأويل يكون صحيحاً كذلك إذا كان المُراد منه ، الإبقاء على حياة إسماعيل من أجل غاية عظيمة تترتب عليها مصلحة عظيمة ، أعني إن – بقاء إسماعيل حياً – لازمه أن يكون ذلك علةً و سببا في وجود محمد النبي الخاتم ( أي من ذريته ومن نسله ) ، وفي هذا يكون فداء إسماعيل مقترناً بوجود محمد ولازم من لوازمه ، ولذلك تقرر الفداء وتقررت الفدية الإلهية ، فيكون بقاء إسماعيل في الوجود سبباً في وجود محمد ، وإذا كان ذلك كذلك يصح التأويل والحمل ، فالفداء لا يكون ممكناً إن لم يكن السبب عظيماً ومهماً ، وبذلك يصح الجمع بين الترك في الصحراء كمقدمة لوجود سبب أهم ، مع ما يحصل لإبراهيم من العذاب والمعانات على نحو ، لكنه في المحصلة والنتيجة أهون ، وهو تخفيف له عن معانات أشد فيما لو وقع الذبح حقيقةً ، وزاد أحدهم بالقول : – إن الفدية منه تعالى – سبب كاف في لزوم كون المترتب عليها فائدة في كل زمان ومكان – قال الأصفهاني ..

ولنتأمل القصة كما روآها الكتاب المجيد

في المشهد الأول نجد قوله تعالى : ( … يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك !! ، فأنظر ماذا ترى ؟ ، قال : يا أبتي أفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) الصافات 102 .

وفي المشهد الثاني نجد قوله تعالى : ( فلما أسلما وتله للجبين ) الصافات 103 .

وفي المشهد الثالث نجد قوله تعالى : ( وناديناه أن يا إبراهيم ، قد صدقت الرؤيا ..) الصافات 104 ، 105 .

ففي المشهد الأول نلتقي بالفعل المضارع ( أرى ) ، والدال على تكرار الفعل مرات عديدة ، أي إن ما كان يرآه إبراهيم من ذبح لأبنه ، لم يكن وهماً بل كان رؤى متعددة و متكررة وفي ليال متعددة أيضاً ، جسدت هذه الرؤى جزءا من نبوة إبراهيم وهي كذلك بالطبع من هنا أعتبرت واجبة ولازمه مع طبيعتها ، وهي لذلك لم تكن حلماً عابرا مر ومضى إلى حال سبيله ، بل كانت وحياً وأمر إلهياً ، ولأنها كذلك في صفتها و طبيعتها المادية أستدعى الأمر التشاور بين إبراهيم وولده ، والشورى صفة عقلائية تكون بين المؤمنين رسخها الكتاب المجيد وأمتدحها ، وكان من نتيجتها أن قال إسماعيل لأبيه : [ أن يا أبتي – أفعل ما تؤمر – ] ، ولفظ – أفعل – في لسان العرب يدل على العزيمة والتصميم بعد الإختيار ، أي إن كان الأمر وحياً فنفذه لما فيه من مصلحة وأجر ، وهكذا قال : – ستجدني إنشاء الله من الصابرين – مقدماً المشيئة على الصبر ، إكمالا للدور وخضوعاً للأمر الإلهي .

وفي المشهد الثاني تتكامل الصورة في تهيئة أدوات الذبح وعُدته ، مع التأكيد على الحالة النفسية والطبيعية التي صاحبت ذلك الأمر ، ولكن في النهاية أستسلما معاً للأمر وخضعا له ( دل على ذلك قوله – أسلما – وهو مشترك لفظي ) ، والذي لا يخرج أبداً من دائرة قوله ( أفعل ما تؤمر ) الذي قرأناه في المشهد الأول ، وكأنه يقول لوالده ( دع عنك حالة التردد و القلق هذه ) وأفعل مادام الأمر تكليف إلهي ، ومع الإستسلام لأمر الله والرضا به كان جواب الله قاطعاً : – ( أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ) – ، وجزاء ذلك إنا – قد فديناه ( بذبح عظيم ) يتناسب مع طبيعة المذبوح وحجمه – .

وفي المخيال العام تبدو عملية – ذبح إسماعيل – ويكأنها هي نفسها الحالة التجريبية التي عاشها إبراهيم في ظل التصديق ، والإمتثال للأوامر المولوية ، حتى وإن كان محل التجربة عظيماً ومهماً ، وفي التأمل في نوعية هذا الأمر المولوي نجده لم يكن يريد الذبح على نحو الواقع ، إنما كان يريد إظهار حالة الإمتثال على أحسن وجه في حال التعاطي مع الأوامر ، ويكأن الله يريد من نوع التجربة ومحلها إكتشاف وتوكيد حالة الإيمان والصبر تجاه كل أمر مولوي والعزيمة في تنفيذه وتطبيقه ، وما يترتب على ذلك من نتائج في طول الزمان وعرضه من جهة الخضوع للأمر وعدم النكوص عن الحق .

وأما مقولة – الذبح العظيم – فقد عُممت في الميثولوجيا الدينية ليكون معناها أو المقابل لها في الأذهان – ذبح الكبش العظيم – [ ذلك المخلوق الأسطوري النازل من السماء ] ، وقد ساعد في تعميم هذه الخرافة واللاعقلانية الوهم وبعض الأخبار الوافدة مع توكيد من قبل رجال دين متخلفين على ذلك ، أخبار ومرويات لا سند لها ولا قيمة ، ومنها أصبح مفهوم – بذبح عظيم – يعني [ ذبح الأضاحي من البهائم والأنعام ] التي يفعلها الناس في كل سنة يوم العاشر من ذي الحجة .

إن مفهوم القرابين على تنوعها مارسته الجماعة البشرية كتعبير عن الإيمان و الحب والطاعة للآلهة ، ولم تخرج الجماعة الإسلامية ولم تتخلص من هذا الأرث التاريخي ، فمارسته هي الأخرى تباعاً كلاً حسب ثقافته وعاداته الإجتماعية ، نرى ذلك في أنماط وصور كتلك التي يُحكى عنها في النذور والهدايا ، ولم تجتمع كلمة فقهاء المسلمين في هذه المسألة على رأي واحد كما هو شأنهم دائماً ، فالأضحية : – ليست واجبة لدى عامة الفقهاء – ، لكنها كذلك تكون عند أحمد بن حنبل وقد تبعه على ذلك جماعة ، معتمدين في ذلك على روايات ظنية متهالكة .

وقد : – ذهبت طائفة من المؤمنين للقول بان الإمام الحسين هو المُراد بمعنى قوله : ( بذبح عظيم ) – ، فهو عندهم المصداق الأبرز

للذبيح العظيم ، وإن ما حصل للحسين الشهيد يوم عاشوراء من قتل مروع هو ذلك المعنى الذي قصده النص ، وهذا رأي فيه وعليه – ذلك أن الحسين لم يكن في شهادته يقصد أن يكون ضحية هذا أولاً ، ( أعني لم يكن قاصداً ذلك أو مريداً له من جهة الإختيار والإنتخاب ) ، وأما ما حصل للحسين يوم عاشوراء فكان جريمة منظمة قامت بها السلطة الظالمة ظلماً وعدواناً ، وهذا يعني إن الحسين لم يكن يريد التضحية أو الشهادة حين تحرك أول مرة من مكة إلى الكوفة ، [ وللتوكيد لم يكن الحسين قاصداً كربلاء ] ، وإن ما حصل له من قتل وترويع كان بفعل أعداء الإنسانية أعداء الحق والعدل والحرية والسلام ، كما إن : – التضحية بالنفس – ليست هدفاً ولا غاية مقدسةً يسعى لها المصلحين والأنبياء العظام ، ولم تكن التضحية أو الشهادة مطلوبة منه ، وإنما حصل للحسين من قتل وشهادة فكان ظلماً متعمداً من قبل السلطة ، نعم كان الحسين يُدافع عن العدل وعن الإنسان كان يسعى لتحرير الإنسان من الظلم ، وشهادة التاريخ في ذلك تعطينا الدليل الثابت والجازم على أن الحسين إنما كان يريد الحياة ولم يسع للموت ولم يطلبه ولا يريده .

لكن معنى الشهادة كغاية وهدف وردت في بعض التفسيرات الغنوصية ، التي وفدت إلينا عبر التفسير الطوباوي عيسى النبي ، ومنها عُممت هذه المقولة وتبنتها بعض الأفواه والألسن ، فقيل : – إن عيسى النبي إنما ضحى بنفسه لينقذ الناس من الضلالة ، ويرفع عنهم أصرهم وأغلال الخطايا والذنوب – ، هذه المقولة أستحسنها البعض ووظفها كبلاغ ديني مستفيداً من العواطف الجياشة التي لا تنظر للأمر بتروية وهدوء وقليل من التعقل ، أقول نعم وظفت هذه المقولة من خلال – العقل الغنوصي – وأُدخلت في الأدب الإسلامي وأستحسنها بعض المغردون لتكون الصورة المعبرة عن قيامة الحسين عليه السلام ، ومعها ومن خلالها ضاعت أهداف قيامت الإمام الحسين ، وغلبت عليها البكائيات والعواطف وترسخت هذه في ذهن العامة ..

وخلاصة القول : إن جملة ومفهوم – بذبح عظيم – وردت في سياق التناسب مع طبيعة المُفتدى له ، وهي تصح بالجملة في كل زمان ومكان والتناسب المذكور يكون أي فديناه في الشأن والصفة والمقام ، وعلى هذا لا يصح ذلك الإشتقاق الذي تبنته تفسيرات إسلامية لا حقة والموصوفة بلسان العامة – بأضحية بهيمة الأنعام – .

وتشريع ذلك كذلك لا أساس له إن كان المعتمد هي تلك الأخبار المتضاربة غير الصحيحة سنداً ودلالة ، والحيوان المذبوح لا يوصف ( بالعظيم ) شأناً ومقاماً لمُراد الله لفظاً ومعناً ، ومن هنا لا يصح كذلك تسمية يوم العاشر من ذي الحجة – بعيد الأضحى – ، لا تيمناً ولا وصفاً مادام المتعلق أو المؤوسس عليه ليس هو كذلك ، وأعمال الحج لا تتضمن ذبيحة الأنعام على نحو الوجوب ، في إتمام مراسم الحج ، ولهذا ورد في المأثور – الحج عرفه – ، تلك المقولة التي تُلغي في الذهن تلك المراسم التالية والوافدة ومنها على نحو خاص ذبيحة الأنعام …

آية الله الشيخ إياد الركابي

14 محرم 1441 هجرية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here