تعقيب القرآن على عرض مشهد ولادة عيسى (عليه السلام)

د. علي محمَّد الصَّلابي

عقَّبت آيات سورة مريم على تقرير الحقيقة الإيمانية بشأن عيسى عليه السلام، وتقرير وحدانية الله، وتكذيب النصارى في مزاعمهم، قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ * أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ (مريم: 34 : 40).

إنَّ هذا التعقيب هو الهدف من ذكر الحمل بعيسى وولادته وكلامه في المهد؛ لأن موضوع هذا التعقيب ثمرة لما قبله.

– الله قال القول الحقّ بشأن عيسى:

أخبرنا الله في هذا التقرير والتعقيب، أنَّ هذا هو الحقُّ في قصَّة عيسى: ﴿ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾ (مريم: 34).

الحقُّ في عيسى عليه السلام هو ما قاله الله، أما أهل الكتاب فقد كانوا يمترون ويختصمون ويختلفون فيه وامترت فيه اليهود والنصارى، فأمَّا اليهود فزعموا أنَّه ساحر كذاب، وأمَّا النَّصارى ففرقة زعمت أنَّه إله، وأخرى أنَّه ثالث ثلاثة، وهناك من قال أنَّه ابن الله، وبقيت طائفة على الحقّ وقالت هو عبد الله ورسوله.

وقد كذَّب الله من قال من النصارى بأنه ولد الله بقوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ (مريم: 35)، فكيف يكون عيسى ابناً لله؟ وما ينبغي ولا يصلح لله أن يتخذ ولداً، وهو لا يحتاج إلى الولد سبحانه وتعالى عمَّا يقول النَّصارى علوَّاً كبيراً، ولا غرابة في خلق عيسى عليه السلام من غير أب؛ لأنه أراد خلقه، وإذا أراد الله إيجاد شيءٍ، فإنه يوجده بكلمة (كن) فيكون ذلك الشيء ويوجد كما أراد الله.

وبما أن السياق في تكذيب مزاعم وادّعاءات النصارى حول تأليه عيسى عليه السلام، فقد أخبر الله تعالى عن بعض ما قاله عيسى لهم ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ (مريم: 36).

قال عيسى للنصارى عندما كان بينهم قبل أن يرفعه الله إليه: الله هو ربي وربكم، لا شريك له ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأنا عبده ورسوله، ولست ابناً له، وأنا مأمور بعبادته، فاعبدوه، كما أعبده أنا، وهذا هو الصراط المستقيم، ولكن هناك من النصارى لم يأخذوا بقوله، وإنما انقسموا إلى أحزاب مختلفة فيه ﴿ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ (مريم: 37).

ويلٌ لهم من ذلك المشهد في يوم عظيم ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ (مريم: 38- 39)، وويلٌ لهم من ذلك المشهد في يومٍ عظيم، هذا التنكير للتفخيم والتهويل. والمشهد هو الذي يشهده الثقلان من الجنِّ والإنس، وتشهده الملائكة في حضرة الجبار الذي أشرك به الكفار. ثم يأخذ السياق في التهكُّم بهم، وبإعراضهم عن دلائل الهدى في الدنيا، وهم في ذلك المشهد أسمع الناس وأبصر الناس (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا، لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين). فما أعجب حالهم، لا يسمعون ولا يبصرون حين يكون السمع والبصر وسيلةً للهدى والنجاة، وهم أسمع شيءٍ وأبصر شيءٍ يوم يكون السمع والبصر وسيلة للخزي ولإسماعهم ما يكرهون وتبصيرهم ما يتقون في مشهد يومٍ عظيم.

لقد أنذرهم عذاب يوم القيامة ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ (مريم: 39)، حيث سيحاسبون فيه، ثم يحكم الله فيهم بالعذاب الأبدي في جهنم فيتحسَّرون حسرةً شديدةً، وأنذرهم وهم في الدنيا حتى تزول الغفلة التي يعيشونها، وحتى يصحوا ويستيقظوا، فيتخلوا عن كفرهم ويؤمنوا بالله.

أنذرهم ذلك اليوم الذي لا شكَّ فيه، فكل ما على الأرض ومن على الأرض عائد إلى الله عودة الميراث كله إلى الوارث الوحيد ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ (مريم: 40).

وهذه حقيقة إيمانية قاطعة ختم الله بها التعقيب على قصة ميلاد عيسى عليه السلام ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ (مريم: 40).

وهذا تأكيد لوحدانيّته وأنه لا شريك له، فهو الخالق، وكل ما سواه مخلوق، وعيسى مخلوق من المخلوقين، والله وحده هو المالك للسموات والأرض، والدنيا والآخرة، وهو الذي يرث الأرض ومن عليها من البشر، وهو الذي يفني هذه الدنيا ويأتي بالآخرة، وهو الذي يبعث الناس يوم القيامة ويحاسبهم ويثيبهم أو يعاقبهم.

إن القرآن الكريم ذكر قصة عبد الله ورسوله المسيح عيسى ابن مريم بقدْرٍ هائلٍ من الدقّة المتناهية، بعد أن كانت كل من سيرته الشريفة ودعوته الكريمة قد شابها الكثير من التحريف والتشويه، ويعتبر ذلك بحقٍّ وجه من أوجه الإعجاز التاريخيّ، في هذا الكتاب العزيز يشهد له بأنه كلام الله الخالق ويشهد للرسول الخاتم الذي تلقّاه بالنبوة والرسالة.

إن المواقف المحددة التي سردها القرآن الكريم والتي نبينها في هذا الكتاب بإذن الله تعالى تشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق كما تشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا يمكن أن يكون قد استقى هذه الحقائق من كتب (العهدين القديم والجديد)، وذلك للاختلاف الكبير بين ما جاء عن حقيقة هذا العبد الصالح في تلك المصادر، وتكفي في ذلك الإشارة إلى أن هناك من الوقائع القرآنية ما لم يرد له ذكر في أيٍّ من كتب (العهدين القديم والجديد).

وذلك مثل معجزة كلام عيسى عليه السلام وهو في المهد، ونطقه بالعبودية الكاملة لله تعالى، وتنزيه الخالق العظيم عن جميع صفات خلقه، وعن كل وصفٍ لا يليق بجلاله، ومعجزة المائدة التي أنزلها الله تعالى على الحواريين من السماء استجابة لطلبهم، ولدعاء المسيح عليه السلام بذلك، ثم معجزة انقاذه هو من بين أيدي اليهود الذين لم يمكِّنهم الله تعالى من تعذيبه أو إهانته أو إذلاله وإهدار كرامته، كما تصف الأناجيل المتداولة بأيدي النصارى لليوم، فالقرآن الكريم يؤكد أن الله تعالى رفع عبده عيسى إليه، كما سيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى.

وبعد رفع المسيح عليه السلام اختلف الناس فيما بينهم عليه اختلافاً كبيراً، وظلت اختلافاتهم كامنة زمن الاضطهادات الرومانية، ولكن عندما تنصَّر الامبراطور قسطنطين أدرك وجود الاختلافات الشديدة على حقيقة المسيح عليه السلام بين الكنائس، فدعا إلى مؤتمر نيقية سنة 325م، من أجل استجلاء هذا الأمر.

وفي المؤتمر ظهر من نادى بتوحيد الله الخالق منكِراً فكرة التثليث، ومنهم من نادى بالشرك بالله وادّعى ألوهية المسيح ونادى بالتثليث، وكان على رأس الموحِّدين (آريوس) الذي تبعته كنيسة آسيوط برئاسة (ميليتوس)، وكنيسة القسطنطينية برئاسة (أوسانيوس)، وكنيسة كل من أنطاكية ومقدونية، وبابل، وفلسطين وغيرها، ولم يعارض الإيمان بوحدانية الله إلا بطريرك الإسكندرية ومن وقف بجانبه من مشركي النصارى، وكان عدد المجتمعين من البطاركة

والأساقفة في مؤتمر نيقية أكثر من ألفين وثمانية وأربعين، وكانوا على مذاهب متفرقة، وعجب الإمبراطور قسطنطين مما رأى وسمع ثم جنح إلى الادعاء بألوهية المسيح لخلقيته الوثنية، على الرغم من أن آريوس رمى إلى بشريَّة المسيح ونبوته، وذلك بأغلبية سبعمائة صوت من أصوات الأساقفة الحضور، وكانت الآريوسية هي أعلى نسبة حازتها نحلة من النحل التي عرضت في مؤتمر نيقية على كثرة النحل التي عرضت.

وانطلاقاً من ذلك أقرَّ المجمع الأناجيل الأربع المتداولة بين أيدي نصارى اليوم من بين سبعين إنجيلاً مختلفاً عرضت على المؤتمرين، واعتبر الباقي من تلك الأناجيل نسخاً محرفةً، وتم الأمر بإحراقها. وهذا الاختلاف الذي استمرّ إلى اليوم وتعدّدت بسببه فرق النصارى، ويصفه القرآن الكريم:

– يقول الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ * أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ (مريم: 34 : 40).

– وقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾ (الزخرف: 63: 65).

وهذه الآيات تمثل وجهاً من أوجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في عرض القرآن الكريم لعدد من المواقف المهمة في سيرة عبد الله ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام، وهذه المواقف يناقض كل ما جاء عن هذا العبد الصالح في العهد الجديد، وأما الإعجاز العلمي فيتجسَّد فيما أعطى ربنا تبارك وتعالى عبده ورسوله المسح عيسى ابن مريم من قدرة على إبراء كل من الأكمه والأبرص من الأمراض التي أعيت الأطباء وأعجزتهم، وأما الإعجاز التربوي فيتضح في التأكيد عن فضل التوجه إلى الله تعالى بالدعاء والرجاء مع اليقين بقدرة الله المطلقة على الإجابة، ويتجلى ذلك في ميلاد كل من مريم ابنة عمران… وكان ميلادها استجابة لدعاء أمها الذي لم يتوقَّف ويتَّضح فضل الإيمان بالله وجميل التوكل عليه كذلك في التسليم، بأن الدنيا هي دار ابتلاء واختبار وامتحان، وأن الصراع بين الحق والباطل هو سنة من سنن الوجود في هذه الحياة، وأن الحق لا ينتصر لمجرد كونه حقٌّ، ولكنه يحتاج إلى

رجال ونساء يؤمنون به، ويجاهدون من أجل نصرته ويبذلون النفس والنفيس، في سبيل تحقيق ذلك وهكذا كانت حياة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وحياة كل من أمه والذين آمنوا به واتبعوه على الإسلام العظيم.

مراجع البحث:

1. علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م، ص (154:149)

2. صلاح الخالدي، القصص القرآني: عرض وقائع وتحليل أحداث، دار القلم، دمشق، ط1 1998م، (4/282).

3. سيد قطب، في ظلال القرآن، القاهرة: دار الشروق، ط 38، 1430ه، 2009م،4/2309.

4. زغلول النجار،من آيات الإعجاز الأنبائي والتاريخي في القرآن الكريم، لبنان: دار المعرفة، 1434ه، 2013م.( 2/894).

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here