“الكرد الفيلية”.. أجانب في بغداد وعرب في الإقليم!

مهدي مراد

كاتب وإعلامي من العراق

شَهد تاريخ العراق السياسي المعاصر العديد من التحولات، ولم يكن من السهل بناء دولة في بلاد لا زالت تعاني من آثار احتلالين، العثماني والبريطاني، لكن ومع بناء دولة عراقية حديثة وقوية في الشرق الأوسط، لم تنته آثار الاحتلالين بسهولة، خاصة في مسألة الهوية الوطنية السياسية الجامعة.

باحثو علم الاجتماع يعرفون المواطنة في المجتمع الحديث على أنها علاقة اجتماعية تقوم بين الأفراد والمجتمع السياسي (الدولة)، حيث تقدم الدولة الحماية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للأفراد، عن طريق القانون والدستور الذي يساوي بين الأفراد ككيانات بشرية طبيعية، ويقدم الأفراد الولاء للدولة ويلجأون إلى قانونها للحصول على حقوقهم، ومن مميزات هذا التعريف انه بالإضافة إلى كونه نمطيًا من الناحية النظرية فهو في الوقت نفسه إجرائي منهجي يتيح دراسة المواطنة وقياسها وتحديد مستوياتها والتنبؤ بأبعادها وآفاقها وتقييم وتقويم أدائها في أي مجتمع.

“الكُرد الفيليين”

للكرد الفيليين مساهمات كبيرة في تاريخ العراق، وكان والي بغداد قبل أربعة قرون كرديًا فيليًا، اسمه ذوالفقار كلهر، وكذلك رشح الوالي حسين غلام رضا خان ابن الوالي حسين قلي خان نفسه ملكًا لعرش العراق، وبعد قدومه وحصول الملك فيصل على عرش العراق، بقى فترة من الزمن ومات ودفن في مقبرة وادي السلام بالنجف، لكن ومع وجود “الفيليين” كمواطنين عراقيين أسهموا ببناء بلادهم، فأنهم تعرضوا لتهميش كارثي من قبل الحكومات المتعاقبة في العراق. الهجمة الأولى على الكرد الفيليين في عدم إنصافهم كمواطنيين كانت في حكومة ياسين الهاشمي في العهد الملكي بقانون شهاد الجنسية العراقية، فيما كانت الهجمة الثانية هي بعد قانون الجنسية في سنة 1963، وتوالت عليهم لعنة الحكومات من 1968 إلى 2003 ولا زالت في ما يسمى بـ”النظام الديمقراطي”.

التخوين والتسفير!

انتهجت الحكومات الاستبدادية في العراق سياسة فيها الكثير من الإهانة لبعض الشرائح وعدم الاعتراف بها في ظل مجتمع متنوع، وكان هذا بشكل مباشر وغير مباشر، ومنه أسلوب “التسفير”، الذي استخدم مع عراقيين إبان حكومة البعث.. إن كلمة تسفير تستعمل للرعايا الأجانب، ويتم التسفير إما لانتهاء مدة إقاماتهم أو نفاد سمة الدخول، وهذا سياق عالمي معروف، لكن عملت حكومات البعث في الإقدام على “التسفير” مع مواطنين من الكرد الفيليين باعتبارهم أجانب وليسوا عراقيين، حتى في بيع ممتلكاتهم عن طريق المزاد ومصادرتها، مع سلسلة من الإجراءات التي توضح صور التهجير القسري ومعاملة المواطنين كأعداء للدولة وليسوا مواطنين فيها.

كان الفيليون يحرمون حتى من “الزواج” ويفرّقون عن أزواجهم قسرًا، حيث مع بداية الحرب العراقية الإيرانية، وبعد الهجمات القمعية على الكرد الفيليين وتخوينهم وانتزاع “الوطنية” منهم، أصبح طلاق الزوجة الفيلية أو الزوج الفيلي أمر لا بد منه، كون البقاء على الزواج، سوف يساهم بالإعدام أو بالتهجير خارج الحدود، وشوهدت الكثير مثل هذه الحالات التي ولدت انتكاسات ومشاكل في الحالات الاجتماعية للكثير من العوائل.

الإجراءات التي اقدمت السلطة عليها ضد “الكرد الفيليين” جعلت الأخيرين لا يعرّفون أنفسهم بهويتهم الحقيقية، إذ من المعروف، أن النظام القمعي في زمن صدام حسين كان يصنع ويسوق كل أنواع التهم و”التخوين” لشريحة اجتماعية تعارضه أو يعتقد أنها تعارضه، وأصبحت حالة هستيرية لدى أغلب الفيليين بالرد فورًا عند السؤال عن جذوره؛ هل أنت فيلي؟ يجيب وبشكل مرعوب: “لا، لست فيليًا”، لذا عمل النظام على جعل الاسم يجلب العار، ووصل لدرجة لا تتعامل بها دولة تريد بناء هوية وطنية جامعة للمواطنين.

بين الطائفة والقومية والهوية واللقب!

الفيليون الكرد، لا ينكرون أنهم كرد، كما لا ينكرون أنهم من أتباع المذهب الجعفري، بالإضافة إلى أنهم يعترفون أن ثقافتهم عربية بامتياز. وفي مسار الصراع الكردي مع سلطة البعث، كان التجار من الكرد الفيليين يدعمون حركات التحرر بالمال والسلاح، ولكن جزاء هذا الأمر من الأحزاب الكردية السياسية الآن كان مجحفًا، ولا يختلف عن سلسلة الظلم الذي تتعرض له هذه الشريحة، إذ تعامل سيطرات إقليم كردستان العراق “الكرد الفيليين” على أنهم عرب ولم يعترفوا بأنهم كرد، كما من الممكن أن يعاملوا على أساس طائفي، إذ يقال عنهم “رافضة”، بالإضافة إلى أن الأحزاب الكردية تعتقد أن الكرد الفيليين يجمعهم المذهب الجعفري مع النظام السياسي في العراق، بالرغم من معاناتهم التي لا تختلف عن الفترات السابقة.

وبعد الهجمة الكارثية بحق الفيليين طوال العقود السابقة، دخلوا مع القبائل العربية خوفًا من التهجير، وجعلوا ألقابهم تعود لقبائل عربية أو مهنة أو لقب مدينة ما، والبعض استخدم اسم رباعي أو ثلاثي أو وضع أسم لعشيرة، ولكن بعد سقوط صدام حسين لا يزال الكرد الفيليين يحملون ذات المعاناة في الجنسية ودوائر الدولة، فمنهم إلى الآن يراجع شعبة الأجانب! ومنهم لا زال يعاني في الأوراق الرسمية بسبب تخلّف النظام الإداري والبيروقراطية، والسياقات المتبعة في الدوائر الرسمية العراقية، ولا زال الفيلي كما الكثير من العراقيين، لم تحل دولتهم مسألة الهوية، ولم تتعامل الحكومة مع آثار الاستبداد والاحتلالات المتعاقبة بحلول جذرية ومجدية، ولم يعاملوا على أنهم مواطنون عراقيون، لهم حقوق وعليهم واجبات.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here