حال العراق زمن الاحتلال العثماني ح 21 *

د. رضا العطار

لم تكتفي الوهابية بمهاجمة مواطنيها في نجد والحجاز إنما كانت بين الحين والأخر تشن هجماتها الوحشية على مدن العراق الحدودية. فقد كانت ضحايا عشائر المنتفك وسكان مدينتي كربلاء والنجف تعد بالآلاف. بالإضافة إلى تدمير المعالم والممتلكات، ولا ينسى العراقيون مجزرة كربلاء عام 1802 عندما هجم الوهابيون على المدينة بصورة فجائية وقتلوا الناس في الشوارع وفي داخل البيوت وخربوا قبة الأمام الحسين وسرقوا خزائن المرقد ومجوهراته ولم يتركوا المدينة الا بعد ان عاثوا فيها الفساد والدمار. وقد كان لهذا العمل الإجرامي صدى عالمي سيء خاصة وان العالم الخارجي كان يعتبر الوهابين مسلمين. وفي اعقاب تلك السنوات شهدت زيارة الأربعينية في كربلاء مظاهرات جماهيرية صاخبة لعموم سكان العراق يتقدمها رجال من الحوزة العلمية قدموا من النجف الأشرف احتجاجا على السلطات العثمانية لتقاعسها في صد الغزوات الوهابية المتكررة على مدن العراق. كما هزت هذه الاعتداءات حماس الغيارى من ابناء الشعب العراقي وهججت مشاعر الاستياء لأقطاب المرجعية الدينية الذين شدوا العزم وارسلوا اعداداً كبيرةً من الشباب خريجي المدارس الدينية إلى المناطق الوسطى والجنوبية من العراق بهدف تذكير افراد العشائر بمعاناة الشعب من جور الأحتلال واثارة روح الحماس الوطني في نفوسهم وتحريضهم بأسلوب أو بأخر على التمرد والعصيان إلى جانب السعي في نشر عقيدة التشيع بين ابنائها وتشجيعهم لزيارة العتبات المقدسة بهدف التعرف على المجتمع الحضري والتفاعل مع ثقافته الاجتماعية طالما كان لهذة الزيارات من تأثيرات ايجابية على الوضع الاقتصادي لهذه المدن.

لكن بعد مرور قرنين من الزمن وتحديدا في أواخر القرن العشرين بدا هذا النشاط في نشر عقيدة التشيع يتضائل تدريجيا إلى إن توقف نهائيا بعدما شملت حملات التوعية معظم القبائل العربية التي نزحت إلى العراق واستقرت فيه، علما ان عشائر البو محمد كانت اخر الهجرات التي قدمت من الصحراء الغربية، فقد استوطنت في لواء العمارة واتخذت الأهوار مستقرا لها فسكنوا اكواخ القصب ومارسوا زراعة الرز وتربية الجواميس وسموا بالمعدان.

لقد كان تحويل جماعات العشائر من حياة الترحال إلى حياة الزراعة قد عطل النظام العشائري ككل واوجد أزمات حادة أجبرتهم على إعادة النظر في بناء هويتهم وتحديد موقعهم من الخارطة الأجتماعية لبيئتهم الجديدة. ومما أثار الدهشة أن معظم إفراد العشائر قد احجمت على اعتناق المذهب الجعفري في بادئ الأمر إلا بعد عقود من الزمن، كما كانت سعة التشيع تتفاوت من منطقة إلى أخرى طبقا لطبيعة الجغرافيا، فهناك مناطق الأهوار ومنطقة دجلة وحوض نهر الفرات، كما كانت تتفاوت ودرجة احتكاك افراد العشائر بسكان المدن علما ان معظم العشائر كانت معتزة بأعرافها وتقاليدها القبلية التي نشؤا عليها والتي كانت عبارة عن حزم من الفضائل الأخلاقية يتحلى بها البدوي القادم من الصحراء.

من المعلوم ان الهجرات العربية القديمة التي بدأها الأكديون واستمرت عبر دهور من الزمن والتي أخذت بعد ظهور الأسلام طابع الهجرات الجماعية قد انتهت في أواخر القرن العشرين بعد ان كونت البنية التحتية الحقيقية لسكان العراق الحديث وان الأدعاء بحداثة شعب العراق وكونه منحدر من اصول فارسية ادعاء باطل تدحضه الثوابت التاريخية، وان الفرس الذين غزوا العراق عام 1503 لم يتمكنوا من المكوث فيه اكثر من ثلاثة عقود فقد اخرجوا من العراق بعد ان استرد العثمانيون سيطرتهم على العراق ثانية عام 1533 والذين يدعون عكس ذلك غرضهم الإساءة إلى تاريخ الشيعة في العراق.

وفي هذا السياق استذكر التصريح الذي أدلى به صدام حسين في المؤتمر الذي انعقد في الطائف عام 1981 جوابا على سؤال الصحافة العالمية حول رأيه في المعارضة العراقية آنذاك فقال بالنص: (هذه المعارضة شيعية وهي صنيعة فارسية).

لقد استوقفني هذا التصريح المرتجل من قبل الرئيس البعثي وذكرني بزيارتي الاستطلاعية لمعتقل – بوخند والد – في ألمانيا في خمسينيات القرن الماضي ضمن مجموعة أطباء أجانب، هذا المعتقل الذي تحول إلى متحف كان النازيون قد اتخذه مكانا لحرق اليهود بعد قتلهم بالغاز خلال الحرب العالمية الثانية. وبينما كنت استعرض الجداريات اشار عليً الدليل السياحي إلى مقطع من خطاب هتلر هذا نصه :
“ان هوية المواطن لا يقررها دين صاحبها إن كان يهوديا ام لا، إنما أنا الذي أقرر ذلك”.
فلا غرابة في ذلك، فتشويه الحقائق هي نزعة كامنة عند الطغاة.

* مقتبس من كتاب تاريخ الشيعة في العراق لعبد الله النفيسي ومن لمحات من تاريخ العراق الحديث للدكتور علي الوردي مع تعليق لكاتب السطور
الى الحلقة القادمة

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here