قراءة في كتاب “الجيش والسياسة… إشكاليات نظرية ونماذج عربية”*

د. هاشم نعمة

كثيرة هي الكتب التي عالجت موضوعة الجيش والسياسة في العالم العربي، ومنها ما صدر في العراق أو خارجه، خصوصا بشأن ثورة 14 تموز عام 1958، ولكن يندر أن نعثر على كتب تناولت الجانب النظري لهذه الموضوعة المفصلية. لذلك اخترنا تقديم قراءة عن الكتاب المذكور لمؤلفه الدكتور عزمي بشارة، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2017. يقع الكتاب في 224 صفحة. يضم الكتاب ثلاثة فصول تناولت: الجيش والحكم عربيا: إشكاليات نظرية، وفشل بوتقة الصهر العسكرية وبروز الولاءات ما قبل الوطنية في الجيش، الحالة السورية، وتحولات الجيش المصري.

يذكر المؤلف في المدخل بأن الكتاب يبحث في العلاقة بين الجيش والسياسة، ويتناول هذه العلاقة، وتحديدا تدخل الجيش في الحكم، لا بوصفها خطأ أو عارضا من عوارض الابتلاء العربي، بل بوصفها نتاجا لمراحل تاريخية ولطبيعة الدولة العربية وصيرورة نشوئها وبنيتها وعملية التحديث فيها.

الإطار العام

تنطلق الدراسة من فرضية مؤداها أنه لا يوجد جدار فاصل بين الجيش والسياسة بحكم تعريفهما. وللجيوش في الدول النامية والمستقلة حديثا دور في بناء الدولة، وفي فرض تماسكها قبل أن تنجز مرحلة بناء الأمة. وتُظهر الدراسة نتائج استمرار الجيش في الحكم من دون أن تُنجز عملية بناء الأمة، إذ يتحول في هذه الحالة إلى قوة قمعية، تدافع عن النظام القائم، أي عن سلطتها وامتيازاتها، وتفرض الوحدة من الأعلى، أو خارج المكونات الاجتماعية، من دون إنجاز عملية بناء الأمة.

يصل منظرو التحديث في شأن حكم الضباط، من أمثال مانفريد هلبيرن (المتخصص بالشرق الأوسط) وشيلز وهنتنغتون، إلى درجة أنهم ينسبون إلى العسكر دورا تاريخيا نهضويا؛ إذ يشبههم هنتنغتون ببروتستانت غرب أوروبا من ناحية تقديمهم قيم الاستقامة والولاء الوطني، وهي التي يمكن تسميتها بمناقبية جيل الضباط في مراحل مبكرة من بناء الدولة الوطنية. أدى مثل هؤلاء الضباط دورا في البرازيل والمكسيك في نهاية القرن التاسع عشر، واعتمد حلفاؤهم من الإنتليجنسيا الفلسفة الوضعية في تنمية المجتمعات المتخلفة. فالانتقال من الملكية التقليدية إلى بريتورية(1) الطبقة الوسطى يتوسطه العسكر أيضا كأكثر القوى حداثة وتماسكا في بيروقراطية الملكيات المركزية. في هذه الحالة تقع الملكيّة عادة ضحية هؤلاء الذين قوتهم وعززت نفوذهم خدمة لأهدافها، ويؤدي الضباط دورا تحديثيا في البداية؛ إذ يقومون بإصلاح اجتماعي-اقتصادي وعملية اندماج وطني وتوسيع المشاركة السياسية، ليس بوسائل ديمقراطية، بل من خلال تعبئة الجماهير سياسيا، الأمر الذي جرى في بدايات حكم الضباط في العراق ومصر والجزائر، وحتى في سوريا في المراحل الأولى للانقلابات؛ إذ سمحت في مراحلها الأولى (قبل حكم البعث) بنوع من التعددية السياسية.

وبحسب هنتنغتون، يبدو تدخل الجيش في السياسة جزء لا يتجزأ من التحديث السياسي بغض النظر عن القارة أو البلد. ولا يقبل البحث عن أسباب الانقلاب في الجيش نفسه، أو في أخلاقيات الخدمة المدنية فيه وخلفيات الضباط الاجتماعية، خلافا لمجهود يانوفيتس في علم الاجتماع العسكري. ففي رأيه أن أسباب الانقلاب ليست عسكرية، ولا يجدر بالباحث أن يحاول تشخيصها في المؤسسة العسكرية ذاتها،. فالأسباب، في رأيه، سياسية وكامنة في “بنية المجتمع المؤسسية”. التدخل العسكري في السياسة عنده تعبير عيني عن ظاهرة عامة في المجتمعات غير المتطورة. ففي هذه المجتمعات تفتقر السياسة إلى الاستقلالية والتماسك والقدرة على التكيف، وتصبح جميع القوى الاجتماعية والمجتمعات متورطة مباشرة

بالسياسة العامة. والمجتمعات ذات الجيوش المسيسة، مصابة بالتسييس في مكوناتها الاجتماعية كلها. ولهذا يظهر الجيش البريتوري في التاريخ. حيث لا تهتم قطاعات المجتمع المختلفة بالسياسة المتعلقة بمهماتها، أو بمصالحها مباشرة فحسب، بل أيضا بالسياسة بشكل عام. ويرى بشارة ربما يُتكأ على هذا التحليل من دون تمحيص لتبرير تدخل الجيش بالسياسة بصفة عامة وبالحكم بصفة خاصة، في كثير من دول العالم وفي البلدان العربية. ويشير بأن هذا التحليل ليس صحيحا ولا محايدا. وإن سبب تورط الجيش في السياسة هو هشاشة بنية الدولة ومؤسساتها وضعف الوحدة الداخلية في كيان لم يستقر كدولة حديثة بعد. وتتجلى الهشاشة هذه في العزوف عن السياسة.

ويذكر المؤلف أن الجيوش العربية بُنيت في ظل مراحل الاستعمار القصيرة نفسها، حيث تحكمت ببنيتها مقاربات دول الانتداب وفهما لبنية المجتمعات العربية، ولا سيما بنيتها الطائفية والقبلية. ويستثنى الجيشان العراقي والجزائري من ذلك إلى حد بعيد؛ إذ استقل العراق مبكرا، ونشأ تواصل فعلي بين ضباطه وضباط الجيش العربي، أما الجيش الجزائري(2)، فظل حتى حكم الرئيس الشاذلي بن جديد استمرارا لجيش التحرير. وقام الشاذلي بمحاولة بنائه على أسس عصرية.

إن المشكلة في حالة البلدان النامية، ولا سيما البلدان العربية، هي أن تطبيق “الاستقلالية المهنية” للجيش قد يكون مجرد زعم، لتحقيق استقلالية جيش فعلا عن المؤسسة السياسية، حيث يكون وزير الدفاع نفسه عسكريا، ويتصرف الجيش بميزانيته من دون رقيب أو حسيب ويدير علاقات حتى مع الخارج من دون المرور بالحكومة، ويصبح جل همه الحفاظ على امتيازاته التي ربما تتسع لتشمل إقرار سياسات الحرب والسلم. وهي ظاهرة عرفتها مصر في ظل حكم حسني مبارك.

معلوم أن قيادات الجيش في الدول الديمقراطية غالبا ما تكون مطلعة على قضايا السياسة الخارجية والداخلية، وقادرة على إجراء تقويمات وتوقعات، ربما يُطلب رأيها المتخصص بهذه القضايا، لكن الجيش يأتمر بأوامر مؤسسات منتخبه، تمثّل سيادة الدولة. والفرق بينه وبين الحكومة أنه يخدم سيادة الدولة بغض النظر عمن انتُخب للحكم، أي إن الحكومة بالنسبة إليه لا تتغير بتغير الحزب الحاكم. إذ ليس الموضوع تسييس الجيش بقدر ما هو خضوعه لحكومة منتخبة، سواء أكان مسيسا أم لا. ومن المفترض التمييز بين تسييس الجيش وتحزبه؛ فمن الممكن أن يكون الجيش مسيسا، بفعل تسييس قادته، أو أفراده بوصفهم مواطنين، لكن لا يجوز أن يكون متحزبا، حيث يسمح للعمل والتنافس الحزبيين في داخله.

إذا كان خطر الدولة الثكنة،أي عسكرة المجتمع قائما في الدول المتطورة، فإن الخطر في الدول ذات البنية المتخلفة معكوس، ويتجلى بضعف المؤسسات وعدم تمكن المجتمع من إنتاج وحدته بالتفاعل الجدلي مع مؤسسات الدولة، إلى درجة فرض النظام عليه من خارجه. فالتماسك الوطني ليس بنيويا داخل المؤسسات، ولا ينبع منها. هنا يُفرض فرضا عبر تمثله بواسطة الجهاز الأكثر تنظيما وهو الجيش؛ أي يصبح الجيش التجسيد الحقيقي للدولة، وليس ذلك كونه عسكريا، بل لأنه المؤسسة الوطنية الأقوى والأكثر حداثة وتنظيما. وهي تظهر كذلك خصوصا بعد حصول تطورين: الأول، إضعاف البنى والمؤسسات التقليدية؛ والثاني، فشل المؤسسات السياسية الحديثة مثل الأحزاب والبرلمانات الحديثة التكوين في ملء فراغ الشرعية، والحفاظ على تماسك المجتمع والدولة الحديثة التكوين، والتي نشأت قبل عملية بناء الأمة.

في رأي بشارة يخلق الميل إلى التدخل منذ تأسيس الجيوش الحديثة وارتباطها بفكرة الدولة؛ إذ بدت كأنها تمثل الدولة في مقابل الجماعات والفئات، والواحد في مقابل التعدد، والنظام في مقابل التشتت والمصلحة العامة في مقابل المصالح الجزئية للقوى الاجتماعية والسياسية. وهي فوق كل هذا، تملك القوة. والحقيقة أن هذا قد يكون صحيحا إذا كانت مهمة الجيش مؤقتة لتحقيق السلم الأهلي، حيث يضع نفسه في خدمة الدولة بعد تنفيذها. ومن دون ذلك يفصل خيط رفيع بين ادعاء الجيش أنه يمثل المصلحة العامة، وأن

يصبح هو المصلحة العامة، وبين ادعائه أنه يُجسد الدولة وأن يكون هو جسدها، وبين تمثيل الوحدة الوطنية في مقابل التعددية، أو أن يدّعي أنه هو “الواحد الأحد”.

الأمر مرتبط إلى حد بعيد بتماسك الدولة ووحدتها في تركيبها وتعدد وظائفها ومؤسساتها. فالدولة الهشة غير المستقرة والضعيفة المؤسسات، تدفع الجيش إلى أن يجسد كيانها من خارجها لفرضه بالقوة.

ارتبطت انقلابات الضباط الصغار الراديكاليين المتأثرين بالأيديولوجيات التي افتتحتها ثورة 1952 في مصر بأزمة المرحلة الليبرالية وهشاشتها، وعدم تمكّن النظام التعددي الحزبي من الاتفاق على السقف الوطني المتعلق بطبيعة البلد ونظام الحكم، كي تُدار التعددية في إطار الاتفاق الدستوري، والعجز عن حل المسألة الزراعية وقضية الفلاحين، والفشل في مواجهة الاستيطان الصهيوني في فلسطين الذي تجلى في هزيمة عام 1948. المشكلة هي أن حتى في حالة الإخلاص فعلا لقضية بناء الدولة الوطنية والتحديث، كما في حالتي عبد الناصر وهواري بومدين، ونضيف نحن هنا عبد الكريم قاسم، يصعب جسر الفرق بين الطموح والواقع، وبين حجم الأهداف غير المحددة ومستوى القائد وكفاءته والقدرات المحددة لأي إنسان، بين شعبيته الحقيقية وتمثيله للعموم وضيقه بأي منافس، بين الواحدية المزعومة والنزعات الفردية مثل الميل إلى الشعبوية وحب الظهور وتقديس الشخصية والارتياب والشك برفاق الدرب.

يرى المؤلف يصعب التوصل إلى نظرية وقانون يضبطان علاقة الجيش بالحكم وتصرفه فيه؛ فالجيوش تختلف باختلاف المراحل التاريخية ودرجة تطور المجتمعات والعقائد السائدة وبنية الجيش الاجتماعية وغيرها. وعلى الرغم من إعجاب أمثال بكر صدقي وحسني الزعيم وحتى جمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم، وأديب الشيشكلي وإن كان بدرجة أقل، بأنموذج أتاتورك وتقليده في بعض الأمور، فإن الفرق شاسع بين قيادة جيش تقود حملة عسكرية ضد الاحتلال وتؤسس جمهورية حديثة قوامها نخب حديثة صاعدة داخل النظام نفسه كما في حالة أتاتورك، وأخرى مؤلفة من ضباط راديكاليين من الرتب الوسطى والدنيا في انقلابها على النظام الملكي ثم في سلسلة منازعاتهم وتنافسهم على القيادة والرئاسة.

نماذج عربية

في البريتورية الأوليغارشية، حين تحكم البلاد طغمة من أصحاب النفوذ، الضباط أو غيرهم، يأخذ الصراع على السلطة شكل انقلابات بلاط يُستبدل فيها حاكم من الطغمة نفسها بحاكم آخر(3). ويأتي التهديد الأكبر لهذه الطغمة من نشوء فئة الضباط المتعلمين المدرّبين، وتوسع الفئات الاجتماعية التي يتحدرون منها، لتشمل فئات اجتماعية لم يصل أبناؤها إلى هذه المراتب في الماضي. الضباط في هذه الحالة هم أكثر الفئات حداثة في المجتمع، إضافة إلى المثقفين، ويتحالفون مع الإنتليجنسيا ضد الأوليغارشيا. هنا يجري الانتقال من انقلابات البلاط إلى الانقلابات الراديكالية أو الإصلاحية. هكذا يمكن، على سبيل المثال، صوغ الفرق بين الصراعات النخبوية في العراق قبل ثورة 14 تموز عام 1958 وبعدها.

لقد ارتبط الانقلاب الأول في تاريخ العسكرية العربية الجديدة بعد انهيار الدولة العثمانية، ونشوء نظام الدول المستقلة (سياسيا بموجب معاهدات)، أو الواقعة تحت الحماية والانتداب في المنطقة، بالعسكرية العراقية. إنه انقلاب بكر صدقي عام 1936(4) الذي تلقى دعم جماعة “الأهالي”. حيث بعد وفاة الملك فيصل الأول عام 1933 حصل فراغ في الحكم، وازدادت قوة رؤساء الوزارات، فاحتدم الصراع على هذا المنصب في الوقت ذاته. كان هذا حال صراع ياسين الهاشمي على النفوذ مع الملك غازي وحكمت سليمان.

يمثل انقلاب بكر صدقي أول محاولة من النخب السياسية العراقية للزج بالجيش في خلافاتها والاستعانه به لحسمها. فالأحزاب السياسية في العهد الملكي مثال مهم لنخب سياسية غير ناضجة، ولا تتحلى

بالمسؤولية الوطنية للقيام بدور تحديثي، فقسم كبير من أفرادها لم يكن سوى روابط مصالح وشخصيات اجتمعت في أحزاب لغرض المشاركة في الحكم، وليس بهدف تنفيذ برنامج أو مشروع. وهو سلوك الأعيان السياسي بعد الاستقلال. هذا في مرحلة كانت فيها الأحزاب الحقيقية أيديولوجية الطابع ومُنعت من العمل، ويأتي في مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي.

في حالة ضباط ثورة 14 تموز 1958(5)، يمكن القول إنهم جميعهم اتفقوا بدرجات متفاوتة على الدعوة للقومية العربية. وكان عبد السلام عارف أكثرهم حماسة للوحدة، أما عبد الكريم قاسم ومحي الدين عبد الحميد، فمالا إلى قومية أكثر ليبرالية وإلى التشديد على الوحدة الوطنية العراقية. ويبدو من مذكرات عبد الوهاب الأمين تحديدا أن مجموعة ضباط 14 تموز كانت تؤمن فعلا بحكم ديمقراطي برلماني، وبالحاجة إلى الانتقال إليه بعد القضاء على النظام الملكي وإقامة حكومة مدنية مؤقتة. كما أن تلك المجموعة أيدت سياسة عدم الانحياز خارجيا، وفي الواقع تشابهت إلى حد ما مع الضباط الأحرار في مصر، سواء في إيمانهم (أو للدقة ادعائهم الإيمان) بالديمقراطية، أو في تنكرهم لها لاحقا. لم يكن للضباط أيديولوجيا محددة، فبعضهم كان متأثرا بفكر الحزب الوطني الديمقراطي الليبرالي التوجهات، كما في حالة عبد الكريم قاسم ومحيي الدين عبد الحميد، وبعضهم بالفكر القومي العربي المشرب بالإسلام مثل عبد السلام عرف وناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري الذي كان معارضا لتأثيرات الحزب الشيوعي العراقي على عبد الكريم قاسم، وكان وصفي طاهر وإسماعيل علي قريبين من الشيوعيين، ووسيطين بينهم وبين عبد الكريم قاسم، أما صالح مهدي عماش فكان متأثرا بفكر البعث. وكذلك في حالة الضباط الأحرار المصريين، كان الصراع بينهم صراعا على الزعامة.

في سوريا، استند حزب البعث في انقلابه عام 1963 إلى نخب عسكرية تنتمي في جذورها إلى الريف السوري. وكانت هذه النخبة التي يحصرها حنا بطاطو في ضباط اللجنة العسكرية البعثية الذين تقلدوا مناصب قيادية في الحزب والدولة بين عامي 1968 و1969 من طوائف مختلفة، ومن محافظات مختلفة، لكن أغلبيتها من أصول ريفية، أكانوا ملاكا كبارا أم متوسطين أم فلاحين صغارا.

وبشأن الجيش العقائدي يُمكن تقسيم هذه المرحلة إلى مراحل فرعية عدة متداخلة. لكن المؤلف ركز علي فترتها التكوينية والمؤسسية نظرا إلى ما لها من دور مؤثر في التطورات اللاحقة للمؤسسة العسكرية السورية وعلاقتها بالمجتمع، ونظّر لها التقرير العقائدي للمؤتمر القومي السادس لحزب لبعث عام 1963 تحت اسم “بعض المنطلقات النظرية”، بعد حسم الصراع مع الناصريين واحتكار السلطة. وجرى تجسيد هذه الصيغة النظرية بشكل مؤسسي في ما عُرف بـ “تبعيث الجيش” وفق عقيدة رسمية قومية. أما الضباط المهنيون الذين رفضوا الانتماء الحزبي، فاعتُبروا “رفاق سلاح” لا “رفاق عقيدة”. وسرعان ما فُككت مجموعات “رفاق السلاح”، أو أُحيلت إلى مواقع مكتبية وتدريبية هامشية. وبحلول النصف الأول من الثمانينيات، لم يبق منهم إلا عدد محدود للغاية.

في بلاد الانقلابات العسكرية، مثل العراق وسوريا، لم يحكم الجيش الدولة في العقود الأخيرة. والضباط الذين قاموا بالانقلاب الأخير في كل من العراق (1968) وسوريا (1970)، جعلوا نصب أعينهم أن يكون انقلابهم آخر الانقلابات، وذلك ببناء جيش مستقر ذي تراتبية هرمية واضحة وموال للنظام، ويخضع لرقابة أجهزة استخبارات حديثة ومتطورة، وتتغلغل فيه منظمات الحزب الحاكم. ويشرك النظام ضباط الجيش الكبار في بعض المشاورات، ويُعيّن بعضهم في مناصب سياسية بعد إنهاء الخدمة، أو خلال خدمتهم كما في عضوية القيادة القطرية لحزب البعث في سوريا، المهم أنه يشركهم في حصة من الثروة والنفوذ، ويُغدق عليهم ويمنحهم امتيازات كثيرة تضمن ولاءهم، كذلك يُفسح المجال للرتب الأدنى (يصح هذا في حالة سوريا) للاستفادة من شبكات الفساد، والتهريب وغيره.

في مصر لم يهدف جمال عبد الناصر إلى إقامة دكتاتورية عسكرية، بل أراد حكما جمهوريا شعبويا مسنودا من الجيش. ولأنه أدرك من تجربته الخاصة أهمية الجيش السياسية ودوره الانقلابي المحتمل، رغب في إبعاد الجيش عن التدخل المباشر في السياسة. أما الضباط الذين انتقلوا إلى العمل السياسي من مجموعة الضباط الأحرار، فطلب منهم خلع بزاتهم العسكرية. لكنه خلافا لمحمد نجيب، لم يرغب في عودة كاملة للجيش إلى الثكنات وإقامة حكم مدني تمثيلي. ويلخص هذا الموقفُ المركّب التناقض التاريخي الرئيس لعلاقة الجيش بالسياسة في مصر منذ ثورة يوليو (1952). إذ بقى السياسيون في عهود يوليو عسكرا بثياب مدنية، لكن الجيش كمؤسسة يفترض ألا يتدخل في السياسة، بل يبقى على ولائه لهؤلاء العسكر السابقين، فهو الضامن الرئيس لاستقرار النظام. وانعكس هذا التناقض في شكل صراعات قادت العسكريين السابقين في الحكم إلى محاولة تأسيس قواعد شعبية من خارج الجيش تشبه الحزب السياسي للنظام. فأقام الضباط الأحرار الاتحاد الاشتراكي العربي عام 1962. وفي الحالتين السورية والعراقية، كما في الحالة المصرية، يمكن القول إن الجيش كان خاضعا للحكام المدنيين من أصول عسكرية، لكنه في العراق وسوريا مسيس وحزبي.

لاحقا قام أنور السادات بمتابعة تعزيز مكانة مؤسسة الرئاسة وصلاحياتها على حساب الجيش، فغير قادته بشكل متواتر لم تعرفه مصر من قبل. وما لبث النظام أن احتاج الجيش في ضبط المعارضة بعد اتفاقيات كامب ديفيد، أو ما سُمي ناصريا “بالجبهة الداخلية”، وهي تسمية تشي بأن البلاد في مرحلة حرب في الداخل والخارج.

في عهد مبارك جرت تسوية كبرى صار بموجبها وزير الدفاع الرجل القوي داخل الجيش فحسب. ونشأ كيان سياسي للضباط غايته الحفاظ على الامتيازات التي تتعلق بالجيش واقتصاده ومواقع ضباطه المتقاعدين الذين يُعينون في مناصب رسمية. في المقابل، تُرك للرئيس شؤون حكم مصر، وإدارة البلاد بالتعاون مع المخابرات والمؤسسة الأقوى في الداخل، أي الأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية. ولم ينف هذا للحظة أن الجيش ظل القوة الرئيسة، وصاحب المقدرة إذا أراد تفعيل قوته(6)، كذلك ظل الأكثر شعبية لدى الجمهور لابتعاده عن السياسة. هذا البعد، إضافة إلى الانغلاق الذي يمنع عين الجمهور الفاحصة من نقده، سمحا له بالحفاظ على صورة “طاهرة” خلافا لصورة أجهزة الأمن الأخرى، ودوائر السلطة في الحزب والعائلة الحاكمة، الملطخة بالحقائق والشائعات عن ممارستها، ذلك لأنها في تماس مباشر مع الشعب.

الهوامش

1- التسمية تعود إلى المصطلح الروماني في وصف الحرس البريتوري المرابط في روما، الذي كان يتدخل في السياسة فيُنصب القياصرة ويعزلهم. راجع الهامش في الكتاب نفسه، ص 56.

2- كان لموقف الجيش الجزائري دورا حاسما في استقالة عبد العزيز بوتفليقة في 2 نيسان 2019، بعد احتجاجات شعبية واسعة رفضت ترشيحه للرئاسة لفترة خامسة.

3- يمكن عد الانقلاب العسكري الذي أطاح بعمر البشير في 11 نيسان 2019، بعد احتجاجات شعبية حاشدة طالبت برحيل النظام وإقامة دولة مدنية ديمقراطية من هذا النوع من الانقلابات.

4- حول انقلاب بكر صدقي وموقف الحزب الشيوعي العراقي منه، راجع: حنا بطاطو، العراق، الكتاب الثاني، الحزب الشيوعي العراقي، ترجمة عفيف الرزاز، بيروت، 1992، ص 93-98.

5- للمزيد حول ثورة 14 تموز 1958، راجع: حنا بطاطو، العراق، الكتاب الثالث، الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار، 1992.

6- ما يؤكد هذا أن الجيش فعل دوره وعزل الرئيس محمد مرسي عام 2013، بعد مظاهرات حاشدة طالبت برحيله، وأنتخب عبد الفتاح السيسي رئيسا عام 2014، وكان قائدا عاما للقوات المسلحة ووزيرا للدفاع في عهد مرسي.

* نشرت في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 407، تموز| يوليو 2019.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here