قرار ترمب بالانسحاب والتداعيات الاستراتيجية الخطيرة

وليد فارس
16 تشرين1/أكتوير 2019

مع الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس دونالد ترمب لسحب القوات الأميركية من شمال سوريا والمناطق الحدودية مع تركيا بشكل خاص، يُكتب فصل جديد من التموضع الجيوسياسي على حساب أميركا نفسها وشعوب المنطقة.

هذه معالم المرحلة الجديدة التي نتابعها ولا سيما بعد تهديد قوات سوريا الديمقراطية الممثلة بالكورد والعرب السنة والمسيحيين ، ثم هروعها إلى التفاهم مع النظام السوري بإشراف روسي.

التطورات المتسارعة تدل على تغيير ملامح المنطقة الواقعة بين إيران ولبنان، وما كان يقلق كثيراً في الماضي أصبح أمراً واقعاً على الأرض، لأن الانسحاب الأميركي ولّد معادلة جديدة تعصف بسكان المنطقة أولاً، واللاعبين الكبار في المواجهة داخل سوريا أيضاً.

القوات التركية تحت أوامر الرئيس رجب طيب أردوغان يبدو كأنها تعمل بكل ما في وسعها لإقامة شريط حدودي يمتد من إنطاكية عبر عفرين إلى الحدود العراقية- السورية في الشمال الشرقي، وتستهدف هذه المنطقة إخراج قوات سوريا الديمقراطية والسيطرة على البلدات والمدن الكوردية والعربية والمسيحية. وأبلغ أردوغان العالم بأنه ينوي الدفع بمليون لاجئ سوري موجودين داخل تركيا إلى هذه المنطقة لتوطينهم، وهذا يعني عملياً دفع مليون من القاطنين الأصليين في هذه المنطقة إلى خارجها نحو الجنوب وشرقاً إلى العراق ، ما يعني أزمة تطهير عرقي لم تشهدها المنطقة. فعوضاً عن إرسال النازحين السوريين إلى مناطق تقع تحت سيطرة تركيا وحلفائها بين حلب وإدلب يتم إرسالهم إلى مناطق بهدف اجتثاث المجموعات الإثنية الأخرى مما يؤسس لحرب إثنية شرسة تمتد لعقود.

ويطرح المراقبون في واشنطن سؤالاً حول سبب إفراغ مناطق سوريا الشمالية من الأقليات واستبدالها بالنازحين؟

التغيير الديموغرافي هذا سيكون عاملاً تفجيرياً للعلاقات العربية- الكوردية وله تداعيات كارثية. فإقامة منطقة عازلة بهذا العمق سيتم بالقوة العسكرية التي تضم إلى جانب الجيش التركي مجموعات ميليشياوية معظمها مرتبط بالإخوان و”داعش” والنصرة، وما خسرته القوى المتطرفة في العراق وسوريا ستتمكن من استعادته من جديد وستشكل إمارة يتجه إليها مقاتلون من “داعش”، قد يفرون من مراكز الاعتقال ومجموعات تكفيرية قادمة من خارج سوريا.

ويعد هذا القرار أمراً خطيراً إذا تم تنفيذه، لأنه سيمكّن من إقامة دولة إرهابية بعد الانسحاب الأميركي وفكفكة قوات سوريا الديمقراطية. في المقابل، وكما بات معلوماً جرى تواصل بين سوريا الديمقراطية والنظام السوري عبر القيادة الروسية بعد التخلي الأميركي وتم الاتفاق على نشر القوات السورية في مواقع مواجهة للانتشار التركي، ووضعت قوات سوريا الديمقراطية نفسها بتصرف قوى النظام لتتحول من تحت المظلة الأميركية إلى المظلة السورية- الروسية.

وكما حصل لبولندا عام 1940 عندما دخلتها الجيوش النازية والسوفياتية في الوقت نفسه، واندثرت لسنوات عدة، يبدو أن السيناريو يتكرّر اليوم في الحسكة التي يمكن أن تنتهي كقوة ذاتية وتندثر ما بين مناطق الشمال تحت سيطرة تركيا والإخوان ومناطق الوسط والجنوب التابعة لنظام الرئيس بشار الأسد وإيران.

القوات الأميركية قد تنحسب إلى عمق سوريا الشرقية، وتحديداً التنف المترابطة مع الانتشار الأميركي في العراق، ولكن بتقديرنا أن هذا التموضع لن يطول لأن القوى الإيرانية تخطط لمحاصرة القوة الأميركية من بادية الشام والأنبار، وتنفذ إستراتيجية الانتظار بهدف الضغط على القوة الأميركية. وتزامناً، سيستخدم اللوبي الإيراني-الإخواني المنطق نفسه الذي استخدمه لإقناع الأميركيين بالانسحاب من المناطق الحدودية، لدفع الجيش الأميركي إلى الخروج من المناطق الأخرى.

ما أطلقت عليه منذ بضعة أشهر تسمية الجبهة الشمالية في المواجهة مع إيران أصبح واقعاً ولكن لمصلحة إيران . فأبرز نتائج التغيير الإستراتيجي يكمن عبر إقامة كيان إخواني على حدود تركيا وسيطرة الأسد على الوسط والجنوب والغرب، ما يضمن فتح أوتوستراد طهران- الضاحية الجنوبية لبيروت، الذي انقطع مع تمدد قوات سوريا الديمقراطية والأميركيين بعد القضاء على “داعش”.

ربما قد يحصل تكتيك استخباراتي من قبل النظام السوري والإيراني، بحق الكورد حيث يتم تقسيمهم إلى قوى متناحرة كما حدث بين القوتين الرئيستين في كوردستان العراق، أو كما حصل في لبنان عندما تمكن الأسد الأب من بعثرة الوحدة التي كانت قائمة ، وافتعال حرب أهلية بين القوات التابعة لسمير جعجع والجيش بقيادة ميشال عون ، ما أفسح المجال أمام اجتياح المنطقة الحرة أو المنطقة الشرقية. السيناريو يتكرّر ولكن بحجم كبير، فالجدار الذي كان يفصل بين قوات إيران في الشرق (العراق وإيران) وقواتها في الغرب (سوريا ولبنان) سقط وبهذا يكون المحور الإيراني حقق انتصاراً إستراتيجياً كبيراً، والقلق يأتي بعد تثبيت هذا المحور امتداده عندما تقوم قواته بالتوجه جنوباً نحو الأردن والسعودية، بالتزامن مع وصول الدعم اللوجيستي إلى حزب الله لمواجهة إسرائيل.

كل هذه التطورات انبثقت بسبب قرار ترمب بسحب 50 جندياً أميركياً من المناطق الحدودية، والذي جاء ضمن حرب سياسية داخل معسكر الرئيس. فجزء من أنصاره في الكونغرس وعلى رأسهم السناتور لينزي غراهام عارضوا القرار، وطالبوا البيت الأبيض بدعم مقاومة التمدّد الإيراني . وهناك جناح آخر أخبر الرئيس أن قاعدته الشعبية بحاجة إلى قرار إعادة الجيش إلى أميركا. والحقيقة أن هذه المواجهة هي ثمرة نجاح اللوبي الإيراني من خلال الضغط على الرئيس لسحب قواته من سوريا، ولو كان الموضوع يتعلق بإعادة الجيش فلماذا لا تُعاد القوات الأميركية من كوريا الجنوبية وقطر وألمانيا واليابان، وهذا يعد إثباتاً على أن المشروع لا يتعلق بمسألة نظرية، إنما بأداء قوي للوبي الإيراني.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here