حكايات منتفضة في بغداد

انتصار الميالي

كنت أترقب كما الجميع موعد التظاهرات، حتى جاء اليوم وحانت ساعة الانطلاق من جانب الشباب المتظاهرين في يوم الثلاثاء، الأول من أكتوبر في ساحة التحرير ببغداد وساحات التظاهر في عدد من المحافظات العراقية الأخرى، كالنجف وكربلاء والناصرية والديوانية والعمارة.

شباب لا يحملون سوى همومهم التي أرهقتهم لسنوات، بسبب السياسة التي قتلت أحلامهم، لتستقبلهم الأجهزة الأمنية بالغاز المسيل للدموع والماء الجارف والرصاص الحي والمطاردة بالسيارات المصفحة.

كانت ردة الفعل هذه صادمة لكل العراقيين والمهتمين بحقوق الإنسان، وانتهى اليوم الأول للتظاهرات بلوحة مأساوية. وليأتي اليوم الثاني بأسوأ مما سبقه، دون أي موقف يذكر من جانب السلطات الثلاث. تبعها قطع شبكة الانترنيت في عموم المحافظات العراقية عدا إقليم كردستان.

في اليوم الثالث توجهتُ إلى ساحة التحرير التي طوقتها الأجهزة الأمنية من مسافة إلف متر مربع بالصبات والأسلاك الشائكة والهمرات والسيارات المصفحة. ومن ساحة النصر أخذنا نسير من شارع إلى شارع، مبتعدين عن الاصطدام بعناصر الأجهزة الأمنية، إلى إنبلغنا نقطة الوصول في تقاطع الباب الشرقي.,

ما أن خرجنا من الشارع المؤدي إلى الباب الشرقي حتى خرج رجل الأمن من عربته المصفحة ليأخذ وضع الاستعداد، وبدا مترنحاً وهو يقف بينما خرج رجل أخر من نفس العربة يحمل بيده مسدسا اسود. وبدا إنهما يتريثان كوننا نساء، وكان يرافقنا احد الزملاء في العمل.

كان المكان ما زال يفوح برائحة الغازات المسيلة للدموع والدخان ورائحة الحرائق. فبدت الشوارع مثل لوحة دامية متشحة بالحزن تغص، بكل أنواع العيارات النارية التي استخدمتها القوى الأمنية لصد المتظاهرين العزل. كان منظرا قاتما جدا وينذر بخطر كبير.

توقفنا عند عربة بائع للشاي لنتفحص المكان. ترجل اثنان من عناصر الأمن ليقتربوا من العربة، بينما كان هنا وهناك عدد من الإفراد بملابس مدنية تبدو رثة أحيانا ومشابهة لملابس المتظاهرين، كان معظمهم من الأمن ألاستخباراتي الذين يتم دسهم بين المتظاهرين لجلب المعلومات. لم ننتبه إلى إن احدهم كان يتبعنا من ساحة النصر حتى عربة بائع الشاي. وكان هناك ثلاثة شباب مدنيين يسيرون في اتجاه الشارع المؤدي إلى الباب الشرقي، وعلى مسافة 100 متر منا. واذا برجل الأمن يبادر الى إطلاق رصاصة على الأرض مع صرخة : ارجع! جعلت الشباب يعودون إدراجهم من حيث أتوا.

غادرنا المكان في اتجاه ساحة الطيران، ونحن نسير على بقايا الرصاص الحي الذي تم إطلاقه على المتظاهرين، وعلى قناني الماء البلاستيكية والبيبسي الفارغة والملقاة على الأرض، وعلى ماتبقى من ملابس المتظاهرين الممزقة.

وللحظة شعرت بخطوات قريبة تسير خلفنا. لم التفت، لكنني تداركت الأمر بالحديث في موضوع خاص مع زميلتي وزميلي في العمل بصوت مرتفع نوعا ما. فبدأ بالإسراع في خطواته ليكون إمامنا ويلتفت الينا، وهو يجري مكالمة هاتفية بدا واضحا انها وهمية تهدف إلى التغطية على التقاطه صورا وفيديوات لوجوهنا من الإمام، وهي حيلة معروفة يستخدمها اغلب رجال الأمن المبثوثين في التظاهرات.

غادرنا المكان ثم عدنا عصر اليوم نفسه عند وقت التظاهرة الذي لم يختلف عن اليومين السابقين، كنا على طول الطريق نوزع الكمامات التي تحمي من الغاز المسيل على المتظاهرين حتى نفدت، وشاهدت الشباب المندفع للمطالبة بحقوقه وهم لا يحملون شيئاً إلا أرواحهم البريئة، بينما كانت ساحة الطيران تختنق بالغازات ورائحة دخان الإطارات المحروقة، وأنين المصابين بالرصاص الحي وحشرجات المختنقين بالغاز. واختلطت اصوات الرصاص الكثيف مع اصوات سيارات الإسعاف التي تطوف المكان لتنقل الجرحى والمصابين بالاختناق.

لم يكن الوضع طبيعيا امامنا ونحن نشاهد شبابا عزلا إلا من اصواتهم وهي تصرخ: ( ليش شمسوين حتى هيج يتعاملون ويانة؟ ) وأصوات أخرى تشكو بعض وسائل الإعلام: ( ليش العراقية تكول ماكو تظاهرات واحنة دنموت هنا بالرصاص؟ ).

استمعت الى أحاديث البعض منهم وتحدثت معهم عن أهمية المحافظة على التظاهرات وسلميتها وعدم الانجرار الى العنف، وكان البعض يقول لي: (ليش اللي ديسووه مو عنف؟ ). كانوا بسطاء جدا وصادقين كثيرا في احتجاجهم وفي انفعالاتهم.

وإثناء ذلك يسقط احد الشباب أمامي مختنقا بالغاز، فأقوم بإسعافه إنا ومن حولي من الشباب بينما صوت الرصاص يتصاعد مع ازدياد الأعداد المتظاهرة، حتى أصبح المكان معتما عند غروب الشمس واختلط الليل بلون الدخان.

رغم كل ذلك الخطر والخوف المزروع في الشوارع كان أهالي المناطق القريبة يساهمون في توفير الماء والبيبسي وبعض الطعام ، بل حتى بعض رجال شرطة النجدة والاتحادية كانوا يقدمون الماء والطعام الخاص بهم للمتظاهرين.

غادرنا المكان ونحن مشبعين بالغاز ورائحة البارود. وعدت انا بقدم مصابة بالالتواء نتيجة الركض والحركة السريعة.

أنها ملحمة عراقية جديدة يقودها الشباب، وتحتاج للدعم والتصويب نحو المسار الصحيح في اتجاه التغيير. وهؤلاء الشباب يستحقون إن يصغي الجميع لهم باحترام. أنها ثورة جيل يقتله الفقر والحرمان كل يوم، فينتفض دون خوف من العواقب التي قد تواجهه، ينتفض من اجل لقمة العيش والحياة الكريمة لاغير. أنهم يريدون حكومة بلا فساد وفاسدين، وجيشا وشرطة خاليين من الدخلاء وولاؤهما للشعب والوطن لا لغيرهما، ويريدون قانونا يكون إلى جانب الإنسان البسيط ويحمي حقوقه الإنسانية المشروعة بدلا من إن يوظفه المسؤول ضد الأبرياء.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here