الدين والدولة (اقتباس) ح 1

د. رضا العطار

اذا كانت الدولة ستُلغى في يوم ما، فإنه من المحتمل ان يُلغى الدين كذلك. فالدين لن يلغى، بل تبقى علاقته علاقة عضوية بالدولة، ما دامت الدولة العربية قائمة.
فقد بدأ الاسلام منذ ايامه الاولى دينا سياسيا وانتهى بعد 15 قرنا ولم يتغير. فالنبي محمد عليه السلام لم يكن نبيا فقط كموسى والمسيح وغيرهما من الرسل، ولكنه كان الى جانب ذلك حاكما سياسيا استطاع ان يمارس دوره السياسي بوضوح.

لقد ركز خطاب الاسلام السياسي منذ ان نشأ على اعادة الخلافة الاسلامية على طريقة (دولة الرسول) في المدينة، او على طريقة (الخلافة الراشدية) بما فيها من فساد وتسيب ومحسوبية ونهب للمال العام كما حدث في زمن الخليفة عثمان، الذي لم يستجب لنداءات الرعية الاصلاحية، وكان مصيره القتل الشنيع وعدم دفنه في مدافن المسلمين، واللعنة التي اطلقتها السيدة عائشة عليه حتى لقبته ب (نعثل) والمعنى، الضبع الذكر.
اما الخطاب السياسي الحديث الذي تضمن الدعوة الى اقامة الخلافة الاسلامية، فقد نشأ عند قيام اخوان المسلمين عام 1926 ، بعد ان اسقط اتاتورك عام 1924 الخلافة الاسلامية. فحاول الاخوان تنصيب الملك فؤاد خليفة على المسلمين، لكنهم فشلوا.

كان الاسلام دينا ودولة، ومن يقول عكس ذلك فانه يبرر الحكم الاستبدادي الفردي المتمثل في الامويين والعباسيين والمماليك والعثمانيين الذين حكمونا بالحديد والنار طيلة اربعة عشر قرنا. ومن هنا فان كل من تصدى لانكار ان الاسلام لم يكن دينا ودولة، كان على خطأ تاريخي وفكري فادح.
لقد كان الاسلام دينا ودولة – بل ان الاسلام كان دولة قبل ان يكون دينا كاملا.
وعلى العلمانيين، وانا منهم، ان يعترفوا بذلك، ولكن عليهم في الوقت نفسه ان ينفوا علميا ومنطقيا امكانية قيام خلافة اسلامية الان. او دولة دينية على غرار (دولة الرسول) التي تعد في الادبيات السياسية الدينية الكلاسيكية الحديثة، هي الدولة المثالية التي يسعى دعاة الاسلام السياسي الى اقامة مثيل لها.

فالنبي محمد لم يكن نبيا فقط – كما قال كثيرون ممن ينادون بفصل الدين عن الدولة والذين يقولون ان محمدا ما كان الا رسولا لدعوة دينية خالصة – لا تشوبها نزعة ملك او حكومة – وما كان الا رسولا كاخوانه من الرسل – – وهذا غير صحيح. فالاسلام لم ينتشر بالدعاة والهداة فقط وانما بالفتح (الحرب) ايضا والفتح لا بد له من دولة – فالدولة ادت الى الفتح – والفتح ادى الى الغنائم – فتعزز الدين وانتشر وقوى. فدوام الدين لا بد له من سلطة، وهو ما توفره الدولة القوية.

ومن هنا لم يكن النبي على هذا النحو نبيا فقط انما كان حاكما سياسيا وقائدا عسكريا ايضا – وكان النبي يدرك بان بناء الدولة الاسلامية جزء من مهمته – كما ان براعته التي اظهرها في القيادة السياسية والقيادة العسكرية كانت من مستلزمات الحكام العظام في العصور الكلاسيكية.

فالرسول عندما دخل المدينة في العام الاول للهجرة كان اول عمل قام به ان اسس دولة الرسول – ولم تكن هذه الدولة دولة اسلامية محضة انما كانت دولة علمانية، بدليل انه اشرك في دولته من غير المسلمين، فكان فيها الكفار من الاوس والخزرج – كما اشرك فيها اليهود. واقام لها كيانا سياسيا واضحا.
اذن كانت هناك دولة، والاسلام دين سياسي بالدرجة الاولى ولذا، فهو الدين السماوي الوحيد الذي اقام دولة باسمه – فلا موسى واتباعه اقاموا دولة – ولا المسيح وحواريوه اقاموا دولة، لا قبل ان تكتمل ديانتهم ولا بعد ان اكتملت.

كان مجتمع (دولة النبي) متعددة الاثنيات واللغات والديانات، كما في المجتمع الامريكي الان. وقد وضع الرسول لهذه الدولة دستورا يشتمل على 47 مادة تنظيمية لشؤون السلم والحرب والمال والحدود الجغرافية والعلاقات الداخلية والخارجية وهو ما اطلق عليه المؤرخون (اهل الاسلام) – ومن هنا تكونت عناصر الدولة : الزعيم والرعية والقانون، وتمت اقامة اول دولة عربية من العرب واليهود. وكانت ابرز القبائل اليهودية التي انضوت تحت لوائها بنو النجار وبنو عوف وبنو الحارث وغيرها. وقد اعلن النبي ان اليهود والعرب يؤلفون امة واحدة دون تميز بينهم في العِرق او الدين او الانتماء القبلي.

كان لدولة الرسول جهازها العسكري والمالي والاداري والقضائي – وكان الرسول كرئيس دولة مستشارون ووزراء يديرون المصالح الحكومية – وكان يشكل (هيئة العشرة) مشاورون من المهاجرين كما كان يشكل (هيئة الاثني عشر) نقباء الانصار. وهؤلاء كانوا بمثابة مجلس الشورى او برلمان النبي. اما التشكيل الاداري والسياسي لهذه الدولة – فكان على الشكل التالي :

1 – وزارة التربية والتعليم 2 – وزارة الحج 3 – وزارة الخارجية 4 – وزارة الاعلام 5 – وزارة المالية 6 – وزارة الداخلية 7 – وزارة الصحة 8 – وزارة الاوقاف
9 – الديوان النبوي 10 – وزارة الدفاع. وهي اقوى واوسع وزارة، وتشمل ادارات امراء القتال وجنده، ما يعرف اليوم (برئاسة الاركان) وفارضوا العطاء (ادارة المالية) والعرفاء (الحرس النبوي) والمستحلفون (الحرس الوطني) مستنفرو الناس للقتال (التعبئة العامة) وصاحب السلاح ( مستودع السلاح) والقائمون على متاع السفر
(التموين) وخاذلو الاعداء ( الاستخبارات العسكرية) ومبشرو النصر (التوجيه المعنوي)
من هنا فان القول بان مهمة الرسول كانت مهمة دينية فقط تنحصر في الدعوة الى الدينية فقط – مثله كمثل باقي الاديان قول غير سليم. فكان محمدا (ص) بذلك اول الانبياء وآخرهم الذين جمعوا بين الدالين (الدين والدنيا) – – (يستثنى من ذلك النبي داوود الذي كان نبيا وملكا. وقد كان داوود ملكا بامر السماء لقول القرآن ( يا داوود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق).

ومن هنا ايضا فان الاسلام على خلاف مع الاديان الاخرى التي بدات روحانية وانتهت سياسية كالمسيحية واليهودية – فالاسلام ابتدأ وانتهى سياسيا وما زال كذلك – بدليل هيمنة رجال الدين على القرار السياسي العربي في اكثر الدول العربية ومنذ اربعة عشر قرنا – ومن هنا كان من الصعب على العربي المسلم لا في الماضي ولا في الحاضر ان يفصل بين الدين والدولة بعد مضي هذا التاريخ الممتد.

لكن رغم ذلك بقت العلاقة بين ثوابت الدين ومتغيرات السياسة علاقة تضادية اصلا وفصلا. علاقة غير عضوية وغير قابلة للنمو و الازدهار. – لان الدولة ليست سلطة فكرية او عقائدية في حين ان الدين سلطة فكرية وعقائدية – – فالدين هو الاعتقاد بينما الدولة هي ذات المصالح والمنافع. – – ومن هنا لم تُغن السياسة بالدين، ولم يُثر الدين بالسياسة. بل على العكس من ذلك – فإن العلاقة القسرية المنفعية بين الدين (المقدس لوجه الله) وبين السياسة (المدنسة لمصالح الاشخاص) ورغبة رجال الدين بالامتيازات السياسة، جلبت على الشعب النكبات والازمات والفساد، وبالمقابل يكون الغطاء الديني الذي يمنحه اصحاب الدين على اصحاب السلطان، الذين لا يحاسبون ولا يعاقبون في ظل هذا الغطاء. جلب الكراهية لرجال الدين، المشرفين على الدين.

* مقتبس من كتاب ( الفكر العربي في القرن العشرين) المجلد الثالث، لمؤلفه الكاتب
د. شاكر النابلسي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here