النظام الرئاسي لن يحل مشكلة العراق

حميد الكفائي
كاتب وأكاديمي عراقي

في العراق يجتهد السياسيون والأكاديميون والناشطون في طرح الحلول للمشكلة الحالية التي تسببت بها حكومة عادل عبد المهدي المتمسكة بالسطة رغم الاعتراضات الشعبية الواسعة المتزايدة في كل أنحاء العراق على النظام السياسي الفاسد.

مازالت الإعتداءات على المتظاهرين تترى على الرغم من تحذيرات دول العالم والمنظمات الدولية والأمم المتحدة بل ومراجع الدين الكبار في العراق كالسيد علي السيستاني والسيد كمال الحيدري والشيخ محمد اليعقوبي.

أعمال القتل والخطف والاعتقال والاعتداء الجسدي لم تتوقف، وهذا الأمر الخطير ينذر بكارثة اجتماعية وسياسية واقتصادية بل قد يطيح بالنظام السياسي برمته لأنه غير قابل للاستمرار.

مطالب المحتجين واضحة ومعقولة ويشترك بها معظم العراقيين، باستثناء قادة الأحزاب الدينية المتمسكين بالسلطة، وقد حددوها بعشرين نقطة تبدأ باستقالة الحكومة ومحاسبة المجرمين الذين قتلوا المحتجين واختطفوهم واعتدوا عليهم جسديا وتشكيل حكومة خبراء مستقلين وتنتهي بسن قوانين جديدة ومنصفة للانتخابات والأحزاب ومفوضية الانتخابات، التي يجب أن تكون هيئة قضائية مستقلة وليست مجلسا لممثلي الأحزاب المتحاصصة، ثم تعديل الدستور كي يكون عصريا لا يقيد البرلمان والحكومة في تشريع القوانين المطلوبة.

هناك العديد من الاجتهادات والآراء حول النظام السياسي الملائم للعراق، وهل سيكون رئاسيا أم برلمانيا وهل سيكون النظام الانتخابي نسبيا يعتمد على انتخاب الأحزاب أم فرديا على انتخاب المرشحين في دوائر انتخابية متعددة.

كثيرون يتحدثون عن أن النظام الرئاسي أفضل من البرلماني دون أن يعرفوا التفاصيل أو يدرسوا تجارب الدول الأخرى، فالأنظمة الديمقراطية العالمية تتجه كلها نحو النظام البرلماني لأنه الأكثر دقة في رقابته ومحاسبته للحكومة، والأكثر ديمقراطية لأنه يُمكِّن ممثلي الشعب من أن يسحبوا الثقة من الحكومة في أي وقت يشعرون بأنها لا تؤدي عملها حسب برنامجها الذي انتخبت على أساسه. لا شك أن كلا النظامين ديمقراطيان، ولكن درجة المحاسبة ودقتها تختلفان اختلافا كبيرا بينهما.

هناك فروق جوهرية بين النظامين البرلماني والرئاسي، وأذكر أدناه بعض هذه الفروق الرئيسية. الأول هو أن النظام البرلماني يعتمد باستمرار على كسب ثقة ممثلي الشعب في البرلمان ويمكن إقصاء الحكومة وحل البرلمان في أي وقت إن لم يؤديا عملهما حسب البرامج المعلنة، وهذه الميزة تجعل الحكومة والبرلمان يعملان بدقة وحماس متواصلين من أجل إرضاء الناخبين والالتزام بالقانون والنظام. بينما النظام الرئاسي محدد بفترة زمنية محددة لا يمكن إسقاط الحكومة خلالها إلا بعد انتهاء ولايتها ثم إجراء انتخابات جديدة، وهي تجرى عادة في مواعيد ثابتة ومحددة سلفا.

صحيح أنه يمكن إقصاء الرئيس من منصبه إن ارتكب مخالفة قانونية كبيرة، ولكن بشكل عام ليس باستطاعة المجلس التشريعي أو الكونغرس إزاحته من منصبه، حتى لو اختلف الطرفان اختلافا كبيرا، يؤدي في بعض الأحيان إلى عرقلة عمل الدولة.

ولاية الرئيس محددة بأربع سنوات (خمس سنوات في فرنسا) ويمكنه أن يرشح لولاية ثانية فقط، بينما يمكن رئيس الوزراء أن يبقى في السلطة لعدد غير محدود من الولايات مازال يتمتع بتأييد شعبي.

الرئيس في الولاية الثانية يتمتع بحرية أكبر لأنه لا يخضع لضغوط انتخابية إذ لا يمكنه الترشح لولاية ثالثة، فيتصرف كما يريد بل هو غير مضطر لأن يفي بوعوده الانتخابية.

الفرق الثاني هو أن الرئيس يُنتخَب مباشرة من الشعب، أو عبر ما يسمى بالكلية الانتخابية، بينما يَنتخِب نوابُ الشعب في البرلمان رئيسَ الوزراء ويصادقون على أعضاء حكومته.

انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب يمنحه قوة موازية لقوة البرلمان بل ويجعله في أكثر الأحيان لا يكترث لرأي البرلمان لأنه يشعر بأنه يمتلك تفويضا مباشرا من الشعب، خصوصا عند تصويت ملايين الناس له، وهو لا يحتاج إلى إرضاء البرلمان بل أحيانا يتهم أعضاءه بأنهم لا يشعرون بمشاعر الناس ولا يعرفون مصالحها.

أما رئيس الوزراء فهو مقيد بموافقة البرلمان على إجراءاته ويحتاج دائما لأن يرجع إليه لكسب ثقته، خصوصا عندما لا تتوفر لحزبه الغالبية البرلمانية الواسعة التي يستند عليها لمواصلة إجراءاته دون خوف من حجب الثقة عنه.

هذه الميزة تجعل رئيسَ الوزراء مقيدا وليس مطلق اليد كالرئيس، الذي يتحول أكثر الأحيان إلى أشبه بالدكتاتور خصوصا مع تمتع حزبه بغالبية كبيرة في المجلس التشريعي.

الغالبية البرلمانية الكبيرة تحوِّل حتى رئيس الوزراء إلى دكتاتور أحيانا، مثلما حصل في عهد مارغريت ثاتشر في بريطانيا التي كانت تتمتع بتأييد 400 نائب من مجموع 650 نائبا، بينما كان عدد نواب المعارضة الحقيقية بحدود 230 نائبا. لذلك فإن أهم ركائز النظام الديمقراطي هو التوازن بين المعارضة والحكومة بحيث لا تكون هناك هوة كبيرة بينهما لأن مثل هذه الهوة أما أن تحوِّل الرئيس أو رئيس الوزراء إلى دكتاتور، أو تؤدي إلى تغوُّل المعارضة وإضعاف الحكومة وعرقلة شؤون الدولة.

الفرق الثالث والمهم هو أن القرارات في النظام البرلماني تتخذ عبر مجلس الوزراء وبغالبية الأعضاء، وأن رئيس الوزراء له صوت واحد كباقي الوزراء، ولا يستطيع أن يفرض رأيه على باقي أعضاء حكومته.

بينما في النظام الرئاسي، الرئيس وحده هو من يتخذ القرارات حتى وإن لم يوافقه جميع أعضاء حكومته، بل يتخذها خلافا لنصائحهم وآرائهم، لأنه هو صاحب التفويض الشعبي الواسع وهو الذي أتى بهم إلى السلطة.

كما يمكن الرئيس أن يعين أو يقصي أي فرد من حكومته دون الرجوع إلى ممثلي الشعب، لكنه يعرض التعيينات على المجلس التشريعي من أجل الموافقة عليها والموافقة تحصل في كل الأحوال، إلا نادرا، لأن المجلس التشريعي في العادة يحاول تسهيل الأمور، ولديه في الغالب قضايا وقوانين أخرى يسعى للحصول على مصادقة الرئيس عليها، فالقوانين لا يمكن تفعيلها إن لم يصادق عليها الرئيس، فتكون هناك مقايضة بين الطرفين، يوافق الرئيس على القوانين المطلوبة ويصادق المجلس (الكونغرس) على تعيينات الرئيس ومشاريعه.

هناك فرق جوهري آخر بين النظامين وهو أن الشعوب المتنوعة والمنقسمة لا يمكن أي رئيس أن يمثلها تمثيلا حقيقيا فالرئيس المنتخب يمثل جزءا من السكان فقط، وإن كانت هناك غالبية طائفية أو دينية أو قومية فإن الرئيس سيكون من هذه الفئة دائما ما يعني تهميشا مستمرا للفئات الأخرى، أو على الأقل فإن باقي الأقليات تشعر بالتهميش الدائم لأنها لا تستطيع أن تنتخب الرئيس الذي يتمتع بالصلاحيات الواسعة ويتخذ القرارات كافة. شعور بعض شرائح المجتمع بالتهميش يقود في العادة إلى زعزعة استقرار الدولة وإضعافها، وعندها سيعم الضرر على الغالبية والأقليات على حد سواء.

ومن مشاكل النظام الرئاسي المزمنة هي كما اسلفنا أن الرئيس دائما يشعر بأن تفويضه الشعبي أكبر من البرلمان لأنه منتخب من الشعب مباشرة، وهذا عادة ما ينمّي الشعور الدكتاتوري عند الرؤساء. لذلك سعت الدول ذات النظام الرئاسي إلى تقليص سلطات الرئيس مثلما فعلت البرتغال عام 1982.

في النمسا وآيرلندا وآيسلندا مثلا، كما هي الحال في البرتغال، هناك أنظمة رئاسية ولكن الرئيس ضعيف في أكثر الأحيان وهذه الأنظمة الرئاسية تعمل كأنظمة برلمانية. أما النظام الرئاسي الأمريكي فإنه يتحول إلى برلماني حسب الدستور إن لم يحصل أي من المرشحين على غالبية واضحة في الكلية الانتخابية، وهذا نادرا ما يحصل.

النظام الرئاسي الفرنسي فريد من نوعه، رغم أن هناك دولا حاولت تقليده، فهو يجمع بين خاصيتين، وهما وجود رئيس تنفيذي، لكن حجم سلطاته يتوقف على حصول حزبه على غالبية في البرلمان، فإن تقلص دعمه البرلماني، تنتقل معظم صلاحياته إلى رئيس الوزراء الذي يأتي به الحزب المعارض الفائز، وتكون هناك حالة من (التعايش) بين الرئيس ورئيس الوزراء، كما حصل عام 1986 عندما تقلصت غالبية الحزب الاشتراكي في عهد الرئيس متران وأصبح جاك شيراك، من الحزب الديغولي، رئيسا للوزراء بسلطات أوسع من الرئيس. وتكرر الشيء نفسه عام 1993 عندما أصبح فرانسوا بولادور رئيسا للوزراء بصلاحيات أوسع من الرئيس ميتران، وكذلك عام 1997 عندما أصبح ليونيل جوسبان، من الحزب الاشتراكي رئيسا الوزراء، بصلاحيات واسعة تفوق سلطات الرئيس الديغولي، جاك شيراك.

النظام الرئاسي لا يصلح للعراق بسبب التنوع الثقافي والسياسي والقومي والديني والمذهبي السائد بين شرائح المجتمع، وكذلك بسبب عدم رسوخ التجربة الديمقراطية حتى الآن. فأي رئيس ينتخبه الشعب يمكن أن يتحول إلى دكتاتور لثماني سنوات، بل وربما يتمكن بسهولة من الإتيان بأحد أفراد عائلته أو اتباعه كي يخلفه في المنصب، لذلك يجب أن يتجنب العراقيون الإتيان به لأنه سيجلب عليهم الكوارث التي عانوا منها سابقا. النظام البرلماني هو الأفضل لأنه يراقب رئيس السلطة التنفيذية باستمرار ويتمكن من إقالته أو الحد من صلاحياته، إن تطلب الأمر، والأهم من ذلك فإنه يحول دون تحوله إلى دكتاتور.

أما النظام الانتخابي الأفضل للدول المتنوعة الأعراق والأديان والثقافات، كالعراق، فهو النظام الانتخابي النسبي الذي يحوِّل البلد كله إلى دائرة انتخابية واحدة، كما حصل في الانتخابات الأولى عام 2005. مثل هذا النظام يوحد البلد ويجعل القضايا الانتخابية وطنية ويمنع الاحتقان الطائفي والديني لأنه ليس في صالح المرشحين أن يستعدوا أي شريحة من شرائح المجتمع. كما أنه ينصف جميع المشاركين ويعطيهم تمثيلا حسب أحجامهم الحقيقية بين فئات المجتمع. الأنظمة الانتخابية الأخرى دائما تفضل الأحزاب الكبيرة وتلغي الأحزاب الصغيرة أو تحجِّمها بل تجعل تشكيل الأحزاب الجديدة أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا.

للأسف الطبقة السياسية العراقية الحالية لم تدرك حتى الآن ما يعنيه النظام الديمقراطي، لذلك ترى أن الخاسر في الانتخابات يحاول دائما أن يبقى في السلطة بطريقة أو بأخرى. فكل وزير أو نائب خاسر يسعى للحصول على منصب استشاري! الثقافة السائدة لا تشجع السياسي على أن يكون معارضا خارج السلطة، كما أن أصحاب السلطة يتجاوزون على المعارضين ما يدفعهم لأن يحتموا بالسلطة أيضا أو بوسائل أخرى غير قانونية. لو كانت السلطة تحترم المعارضة، لما تهافت كثيرون على المناصب، حتى الشكلية منها. نعم احترام المعارضة والرأي الآخر ينفع السلطة أكثر من المعارضة. مجتمعنا يحتاج إلى عقود حتى يدرك طبيعة الأنظمة السياسية الحديثة والمجتمعات العصرية التي تقوم على التنوع واحترام الاختلاف.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here