بناء “عراق آخر وعراقي آخر” ممكن وضروري

لقد آن أوان المباشرة ببناء عراق آخر يشارك في تشييد صرحه جميع العراقيين على ضوء أهم القيم والمبادئ والمفاهيم المسطرة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتحكيمها والاسترشاد بها خلال مرحلة أولى يستطيعون فيها أن يحافظوا على شخصياتهم واختلافاتهم وتنوعهم وحرياتهم الفردية والجماعية، ويجتمعوا في وحدة حراك فعالة وعملية تأسيسية تدفع بالرقي الاجتماعي قدما، وترفع مستوى حياتهم إلى واقع فعلي ملموس، إلى المستوى المشترك الذي تستهدفه كافة شعوب العالم كما ورد في الإعلان. ويتوفرا لآن كل ما يلزم لذلك من وسائل مادية وغير مادية يسهل استعمالها عن طريق التعليم والتربية، طريق العمل والعلم والعقل، للمباشرة أيضا ببناء ” عراقي آخر” متعلم ومتمكن ليكون في نفس الوقت متطوعا ومتبرعا ومشاركا في عملية صيانة كرامته وإعادة بناء نفسه واستقلاله وبناء استقلال وسيادة الشعب العراقي وحكمه لنفسه بالعدالة الاجتماعية والمساواة والحرية والأمن والسلام الدائم.

لا يمكن عزل العراق والعراقي عن عالم اليوم، ولا عملية البناء أو إعادة البناء عن فكرة بناء “عالم آخر” و”شخص إنساني آخر” التي انتشرت في أنحائه الآن، ولكن تعزيز عملية البناء يتطلب الوقاية من الأمراض والممارسات التقليدية التي كرست هيمنة المال والفساد والمصلحة الخاصة بتسلط وتحكم الفرد والأقلية الضئيلة بالمصلحة العامة وبمقدرات الأكثرية باستعمال القوة المفرطة والترهيب والتجهيل والمكر والخداع والإيهام والتضليل. والشيء الوحيد الذي ينبغي الأخذ به من ألان فصاعدا هو أهمية اللغة والتربية والتعليم وإعادة التعليم في بناء وتمكين الشخص الإنساني، شخص نشط يتحرك بجدية وجدوى المواطنة العالمية المتضامنة لبناء عالم يشمل كافة أعضاء الأسرة البشرية، وان تمكين النساء والأطفال، غالبية ضحايا الاستعباد والاضطهاد والإقصاء، عامل أساسي وضروري في أي بناء جماعي وتحول اجتماعي وسياسي وثقافي واقتصادي ملموس نحو مجتمع كوني يجعل من الإنسان محورا له ويحترم حقوقه وحقوق الأرض والحياة والبيئة.

ليس هناك شك في أن بناء عالم آخر صار أكثر إلحاحا بسبب تهديدات وتحديات تغير المناخ والكوارث التي ستصاحب ذلك، وأصبح التغيير الجذري الشامل على جميع الاصعدة ضروري لجعل الممارسات والحلول والبدائل أكثر فعالية، والنشاط الاقتصادي والعمل السياسي في خدمة الحاجيات الإنسانية باحترام الطبيعة. وينبغي لذلك تعزيز الخروج من فخ التنظيم الهرمي العمودي المولد للإقصاء والتهميش وإعادة تدوير هيمنة الأقلية والامتيازات والسرية والتملك والتوريث وانعدام المساواة والظلم والفساد والصراع الدائم والأزمات. وعلى العكس، اعتماد التنظيم الدائري الأفقي في كافة المجالات سيضمن الإدماج وتوزيع الثروة العادل والشفافية والكرامة والحرية والمساواة الحسابية لجميع المواطنين. ويمنع أيضا النخبوية والقيادية واحتكار اتخاذ القرارات والأبوية والوصاية والاستغلال والتخويف والترهيب، سواء كان ذلك في الأسرة أو القرية أو المدينة أو في العالم.

ينبغي استعمال كل وسيلة ممكنة وضرورية متاحة لبناء العدالة الاجتماعية وضمانها بالمقاومة السلمية العنيدة، بتحقيق الأمن والسلام الدائم ودحر الإقصاء الظالم بالتضامن والتعاون بين الأفراد والشعوب على الصعيد المحلي والعالمي. ويجب أن تتزامن العملية مع مقاومة سلمية وقائية حازمة ودائمة للإقصاء والتمايز الاجتماعي واستعمال العنف والقوة المفرطة، ومحاربة كل ما يعيق عملية البناء على المدى القصير والمتوسط والبعيد. والديمقراطية التشاركية بديل وحيد لضمان حكم الأغلبية والتشارك في كل شيء للتمتع الفعلي لجميع المواطنين بحقوق الإنسان الأساسية.

التمكين الذاتي للنساء والأطفال أفضل تعزيز للنشاطات التشاركية والممارسات التحويلية الشاملة نحو الاحسن، وان جميع الوسائل اللازمة لتحقيقه متاحة حاليا، ومن السهل تعزيزها وتعميمها ودعمها على الصعيدين المحلي والعالمي، وهو أمر لا غنى عنه للبناء الفكري والاجتماعي والبيئي للشخص الإنساني، وذلك لا يحتاج غير العمل النشط الصبور والعلم والتعلم والعقل والتفكير والالتزام والمسؤولية والتضامن.

انتفاضة الأطفال التلقائية الحالية التي تجتاح العالم الآن، ومبادرتهم التحرك من اجل تغيير المناخ، والتي لا تقتصر فقط على التظاهرات، وحركتهم التشاركية الواعدة بغد أفضل، وعزمهم على تعزيز الاندماج الاجتماعي بالاعتماد على النفس والاستقلال، تحتاج إلى التضامن والدعم الكامل من خلال تعزيز “الحق في اللغة” والتعليم والتواصل والإعلام، من الولادة إلى آخر يوم من حياة الفرد. فان التشارك في اللغة، بثرواتها الهائلة المتاحة حاليا، ضرورة حياتية لتمكين أجيال الحاضر وأجيال المستقبل من تعزيز التواصل بين الأجيال والتحرر الفعلي والمشاركة المثمرة الفعالة في جميع ميادين الحياة، وضمان عملية البناء من الأرض، من الاساسات، وابتكار مجالات للتقارب والتنسيق وتبادل الخبرات وجها لوجه، محليا وعالميا.

لا شك أن فهم الإعلان العالمي وإدراك القيم والمفاهيم الإنسانية المسطرة فيه، باللغة المحلية لكل إنسان، أمر لا بد منه للوحدة الإنسانية المستدامة باحترام التنوع البشري والتعددية، وتعزيز المشاركة في المنتديات الاجتماعية المحلية والإقليمية والانضمام إليها وزيادة أعدادها، وستكون أكثر فعالية عندما يستطيع الناس المناقشة والحوار واتخاذ القرارات والتفاهم بلغتهم والاعتماد على أنفسهم وعلى شبكاتهم الاجتماعية الخاصة بهم وعلى وسائط الإعلام والاتصالات الحرة، فسيكون التواصل المستدام ضروري لمتابعة التقدم اليومي للعملية وصواب سيرها في جميع أنحاء العالم.

يجب أن يكون كل إنسان قادرا على المشاركة الطوعية الواعية في الحوار والنقاش والمطارحات والمداولات العامة والبحث عن الحلول والبدائل واتخاذ القرارات ومتابعة تطبيقها، وإعادة صياغة أي عقد اجتماعي تم فرضه بالإذعان والإكراه، بما في ذلك الإعلان العالمي. ومن الضروري أيضا وضع قواعد وقوانين تأسيسية جديدة لتأطير اللعبة الاجتماعية على ضوء مبادئ ومفاهيم عالمية دقيقة وحيادية وواضحة يقبلها الجميع، محليا وعالميا، لكيلا تبقى مجرد إعلانات ومواثيق وبيانات وشعارات ومطالب وتعهدات لا يهتم بوجودها ولا يلتزم بها أو يحترمها أحد.

العمل والعلم والعقل، أو الفعل والمعرفة والحكمة، ركائز حيوية للحياة الإنسانية، الفردية والاجتماعية، وللحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، ولقلب علاقة القوة لصالح جميع المواطنين في الأسرة البشرية. وهي في نفس الوقت وسيلة وسلاح، فهي وسيلة لا غنى عنها للبناء الفردي والاجتماعي والبيئي للإنسان لمواجهة التحديات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية، وللمعالجة الجذرية للاستضعاف والتجهيل والتقاعس والإحباط والتطفل والحماقة والإذعان والايهام والهذيان، وهي سلاح سلمي جبار للمقاومة السلمية للحرب وأسلحة القتل والتدمير والظلم والاضطهاد والاستغلال واستعمال القوة والعنف والإرهاب، وكل ما يضر بالحياة ويعيق التحولات اللازمة لعملية بناء عالم آخر يشارك فيها الجميع، بناء عالم يحترم الإنسان والحياة الرغيدة السعيدة والبيئة والطبيعة والأرض، الوطن الوحيد للإنسانية.

علي غالب القزويني

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here