أضواء مقاربة من رواية ( هتلية ) الكاتب شوقي كريم حسن

براعة المتن الروائي يغوص الى اعماق المجتمع . ويستلهم مفرداته البارزة والطافحة على المكشوف . ويسترشف المنصات الاسطورة في الحضارات العراقية القديمة , في المخاطبة والحوار والدعوة والطرح , برؤية الواقع ومعايشته الفعلية والحقيقية الجارية قديماً وحديثاً. وكذلك يستبطن ويستقرى جملة تداعيات بخصوص الترث الديني والشعبي ويحاجج موروثاتهما, وتأثيراتهما السايكولوجية على دواخل النفسية للانسان , ويعرج على الحالة الاجتماعية في القهر والمعاناة بكل بمفرداتها السقيمة , هذا التشكيل الروائي المركب في البنية والبناء النص الروائي , في صياغته ودلالته التعبيرية الدالة بعمق الايحاء والرمز الدال . من خلال توظيف تقنيات السرد الحديثة المتنوعة , في تنوع اساليب الاستنطاق والبوح والحوار والمحاورة , بما هو مكنون في الذات والسايكولوجية النفس والواقع . قد برع المبدع الكبير ( شوقي كريم حسن ) في تقنية التداعي الحر , في منولوجيتها ومخاطبتها للاخر . في دياليكتيك الدرامي المتفاعل بين الحوار والمحاورة والمخاطبة , ليكشف ركام المعاناة والحزن الذي يغلي ويفور في الضلوع وفي الشارع . كما يتناول بجرأة الطرح والمناقشة مسائل الدين في رمزية كهنة المعابد , ورمزية الجنس , في تخفيف الازمة الروحية والنفسية . ويتناول بشكل جوهري , مسائل حيوية وجوهرية , في ازمنة المحنة العراقية عبر عقود من الانظمة الشمولية الطاغية , في منظومتها الفاعلة على الحياة والواقع . وكذلك مسألة السلطة والدين وعلاقاتهما , وكيفية نتاج دولة هتلية . التي تعتمد على العسف والحرمان والكبت والاضطهاد , سوى كانت السلطة مدنية فاشية . او سلطة دينية فاشية . طالما يوحدها القهر الاجتماعي وتسخير الانسان لشرنقتهما , ليصبح عبداً مطيعاً , او خروفاً مطيعاً , يساق حسب الاهوى , لذبح , للحرب . للموت . للسجن , للقمع والارهاب , للتسلط الذي ينبش انيابه في الجسد وعقل الضحية . ان تكون الحياة قرابين تقدم دون حساب , في الانتهاك والاستلاب . مما يجعل أنين الليل يطول في آهاته . سوى من ارباب السلطة الالهية بكهنة المعابد . او من القائد الاعظم , او من السلطة الابوية في العسف والكبت اليومي . فأينما يدير الانسان الضحية وجهه , يجد الصولجان والسوط أمامه , ينهش جسمه وعقله . لتكون الحياة معتمة بالسواد , ليس فيها خيط من لون آخر . طالما الدولة الهتلية بجميع مسمياتها واصنافها . تمنع السؤال وتعتبره خرقاً وتجاوزاً لا يغتفر . هذه منصات المتن الروائي الذي برع بالتصوير الكامل لمادته الخام , التي هي من مكونات الواقع والحياة ومفرداتها , وحتى من مكونات حياة المبدع الكبير ( شوقي كريم حسن ) حياته وسيرته وتجربته في المعايشة الحياتية , بمراحل المتعددة والمتناقلة في ازمنة الاضطهاد والعسف . اي استطيع ان اسمي مادته الخامية للمتن الروائي , هي عين الواقعية السحرية بآفاقها الواسعة في تعاطي تجليات الواقع بتناقضاته الشاسعة , في تجلي واكتشاف مفردات في البيئة الاجتماعية الفقيرة , المنسية من الله والارض . يصبح الكدح الحياتي مجازفة في رمق العيش المر . لذلك اشتغل السرد الروائي على المنولوج الداخلي والخارجي . ليعطينا بانوراما صراع الانسان الكادح مع الحياة تحت صولجان الدولة الهتلية . يستلهم الحكايات الشعبية وحكايات الاسطورة . ليكشف الوجع العراقي النازف في المحنة والمعاناة , بعناوينها المختلفة . اي ليدلل ان رحلة الانسان العمرية , هي خوص صراع متعدد الاطراف كالاخطبوط . في حياة تئن في وجعها , او هي عبارة عن مواكب توابيت متزاحمة . كأن العراقي منذ ولادته رضع حليب الحزن والمعاناة . لذلك ان جوهر رؤية النص الروائي , هي كشف افرازات الواقع وهمومه واشجانه الداخلية والخارجية , المتراكمة في الذات الخاصة والعامة , او في خزين الذاكرة . لكن مع هذه المعاناة الثقيلة ,تجعله ان يخوص صراع متعدد الجوانب , من اجل ان يجد له مكاناً تحت الشمس , لا مكاناً في الظلام . هذه التقنيات التعبيرية , التي هي نتاج الابتكار والخلق في البناء الروائي , المحكم في البنائية الهندسية المرتبة والمنسقة , من خلال تداعي الرؤى وفصول الرؤيا , التي قسمت في براعة احترافية متمكنة في السرد الروائي , بما يحمل من ابداع ورؤية وموقف في الطرح . وكذلك تناوله بشجاعة بارعة في طرح المحظورات في ( الدين والجنس ) ووجه سهامه في اصابة الهدف بالصميم . حين يوجه انتقاده الشديد واللاذع الى هرم السلطة في دولة الهتلية . التي تجعل الاعمار بالحياة ضائعة , بين موت مؤجل , ومرارة الحياة التي لا تطاق ولا تتحمل . يطالعنا في اسلوب مدهش في عورات المحتمع في الدين والسياسة . التي تحصر الانسان في زاوية ضيقة ومحصورة , بأن تكون الحياة تعوي وتئن في الاستباحة والاستلاب قديماً وحديثاً , في كهنة المعابد القدماء والجدد , الذين يسيرون على خطى القياس والمنوال نفسه , نسخة طبق الاصل . ولكن بزي مختلف . وجوهر الحبكة الروائية , تدلل ان تراكم القهر والمعاناة , يولد الانفجار الكبير . وهذا مانجد وقائعه في هذه الايام العصيبة . بأن العسف والظلم والحيف . لا يطول مهما كان لابد ان تأتي ساعة المخاض الكبير لتتفجر شظاياها , في الانفجار الكبير الذي يقلب معادلة الدولة الهتلية . لذلك احاول استرشاف الاضواء المقاربة بين الامس واليوم . مهما اختلفت عناوين الدولة الهتلية . او في براعة ما اشبه اليوم بالبارحة .
×× لذلك نحن بصدد بانوراما الوجع والمعاناة الحزن العراقي , في دولة يتحكم فيها الظلم وكبت والاستبداد , ويغوص في عمق هذا الثالوث المحكم بالشمولية . الذي ينتج دولة خرافية عميقة في القتل والارهاب وتجرع مرارة الموت في اصنافه المجانية , ولكن حرمات ان تذهب الارواح هدراً وعسفاً , واكثر احتقاراً ان يساوم بالمال ليستلم الجثة التي قتلت غدراً وظلماً . ياخسارة تروح يازين الرجال بهذا الاحتقار ( من لايدفع هذا المبلغ عليه ان لا يفكر بأستلام جثته , وما لبث ان دخل ليجر بقايا روحي الى حيث التابوت الذي كان ينتظر الفجيعة . اغمضت عيني , واجهشت باكياً , لا لشيء , سوى لأني رحت اتأمل ما نسميه وطناً وهو يساوم موتاه من اجل حفنة من الحقارات والكراهيات والموت المجاني !! ) ص15 , هذه دولة كهنة المعابد , الذين غيروا جلودهم من القديم الى الجديد , كالحرباء حين تغير جلدها , من اجل الاستمرار في نفس النهج في تعاطي ( الهتلية ) بوصايا من رب الارباب . الذين جعلوا الحياة تعيش في قاع الحضيض . تعيش في ركام انقاض من تبقى من النفايات . حياة موشومة بوشم السواد , في حياة تعج بكلاب كهنة المعابد . ليجعلوا الانسان يعيش في غربة واغتراب داخلي , ليؤدي دور الضحية الخاسرة , في يافطات الخراب والذل والمهانة . الرفض والسؤال جريمة لا تغتفر , في شريعة البسملة والحوقلة أو في شعارات القديمة التي بال عليها الزمن , لكنها ولدت بثوب جديد . وهم في الحقيقة شياطين مأزومين في قهر الانسان , وعدم سماع الصرخات والانين واستغاثة الضحايا . فلا مكان للفرج , وانما الحياة مشرعة ابوابها للحزن والنحيب والمعاناة , بشكلها الواقعي واللاواقعي , أو بالاحرى سريالية كهنة المعابد . التي تجهض الاحلام في مهدها , وتطلق العنان للكوابيس , هذه مشيئة رب الارباب كهنة المعابد , وتوابعهم من اصحاب المقام والجاه من الكهنة ( الواويه او السحالي الداعرة ) , ان تنام الحياة على الخوف والقلق والمصير الاسود ( نحاول الولوج الى فضاء مآلاتنا التي لا نعرف لها مسافات تحدد وجودنا , ثمة دائماً ما ياخذنا الى امكنة مدجنة واخرى أشرس من انفسنا تزأر , فنروح نعاتب ذواتنا التي لا تعرف كيف تأخذ الآمال الى صدورها , تطشرنا الآهات , ونحن نرقب العيون التي لم تألف النظر اليها من قبل , فنسيح عبر اتجاهات غرابتنا التي ماعادت تستقر عند شيء , حين تنسكب عند خطانا المرتبكة) ص73 . هذا الفراغ الحياتي , الذي محاط بالانكسارات والاحباطات . كأن الحياة تمشي على توابيت مملوءة بالجثث . كأن الزمن مليء بالرعب والرايات والشعارات السوداء المزيفة , في تواريخها المليئة بالزيف والخرافة , في تاريخ مليء بالروائح الكريهة والفاسدة . مليئة بالنتانات العفنة . في تواريخ كتب بالزيف وحبر النخاسة الداعرة . لكنها تخلق ارباب للقدسية والتقديس . ولكن يبقى هواجس السؤال لا غير يدور في الخوالج الداخلية للوجدان , من أين جاءت هذه النتانات العفنة ؟ ., ولكن منْ يتجرأ على طرح السؤال ( سؤال واحد ..واحد لا غير …. لكن الاجابات عصية ….. مامر بخاطري يوماً أن ايامنا ستصاب بشيخوخة القهر .. كيف يمكن لقوة مستحيلة الاختراق أن تتحول برمشة عين الى ذرات من رماد وسموم …. لماذا لا تستقر الافكار عند شيء محدد .. عمري كله كان الخوف يصطاد أحلامي لكني اشعر اليوم بأنكسار الاحلام ….. وذهاب كل شيء الى فناء الايام لا اصدق .. ابدا لا يمكن تصديق ما حدث ؟ ) ص138 . ولكن هذه رغبة الامبراطور المجنون في بناء امبراطوريته الجائرة بوصايا كهنة المعابد في راياتهم السوداء داخل نيران الهشيم . هكذا وبكل بساطة نستفيق على ضياعنا ومأساتنا , على جنون الحياة ولعبتها القذرة , لتجعل الروح مترنحة باليأس والتشنج والوجع , كل شيء في الحياة يبكي ويتكسر وينوح , ونستوحش الضياع . هكذا تساوت ازمنة القمع والظلم والحرمان , سواء من كهنة المعابد السابقين , أم من كهنة المعابد الجدد . والواقع في عدسة الجور والضياع والمتاهات التيه , في عدسة الترصد والمراقبة والتصيد . اصبحت حياة انسان صيدة تباع وتشترى , الكل مغلوب على امره , الكل يؤدون فروض القدسية للكبير . الجلاد والمهرج والشحاذ والضحية , الكل غارق في لجة الذل والمهانة . الكل حطب ووقود للحروب العبثية بأسم المقدس الاكبر , رب الارباب لكهنة المعابد . الذين خلقوا له اسطورة من حروف المجد , وشطبوا الاساطير الاخرى , فمنه يبدأ التاريخ وينتهي , او ربما به خلقت الارض وتنتهي به ( كيف يمكن ايقاف نزيف المحنة التي اراها تلاحق امكنتي وهي تحمل سكاكين الغموض / حاولت فك اشتباك المعنى / لكنها ما فاهت بكلمة واحدة / الدم يتصاعد / والاثام تتصاعد / الارض التي تمسك حظوظ الاساطير ما عادت تكترث لشي / تحولت الامال الى رماد / والمعابد الى مباغي / والمناسك الى رغبات بالقيء والاستهانة/ الضياع وحده الحقيقة الراسخة ) ص166 . فما عاد لديك خيار في الحياة . سوى ان تختار بحريتك طريقة موتك المفضلة , هذه المساعدة تقدم بالمجان على حب الله ( – كل ما نفكر به لمساعدتك ….. هو أن تختار طريقة ارسالك الى جهنم .. هناك ستجد كل شيء . . كل ما لم تجده في دنياك الفاسدة , يمكن ان تجده هناك … أبن ……. فكر بطريقة الموت التي تريد … لا بأس نحن ننتظر ….. ولكن انتظارنا لن يطول كثيراً ……. عليك ان تبتكر لنفسك طريقة موت …. عقلك يعرف طرق موت كثيرة .. ولكني شخصياً اعلن رغبتي بمساعدتك !! ) ص189 . هذه تراجيدية الكوميدية السوداء قديماً وحديثاً . في لعبة الحياة العابثة , ظلام يشبه ظلام , بأن رائحة الموت تفوح في كل مكان . الحياة اصبحت خاسرة ( – قال انتهى كل شيء !!
قال – كان عليك ان لا تستسلم لهم !!
قال – لا فائدة أينما تولوا فثمة كاهن يطالبك بالموت !!
قال – حرام ان اجد نفسي محاطاً بكلاب تنتظر تحولي الى فطيسة نتنة !! ) ص209
اعتادت كلاب كهنة المعابد على نهش لحم الضحايا . من اجل خلق الرعب الحياتي ليكون شريعة الحياة وناموسها , ان يجعلوا الانساان ان يخاف من خياله . ان يجد نفسه في غفلة من الزمن مقتولاً , او ربما مرمياً في حاويات القمامة . لذا فان الحياة تظل تنزف بجراحها النازفة . ان يسقط الانسان في اعماقه . ولكن هل الرب يقبل بسرقة كهة المعابد للحياة ؟ هل يقبل بسارق يمتطي صهوة الكهنة , في مخادعة الرب . مثل هكذا رب لا يستحق التقديس . اذا لم ينتصر للمظلومين والخائبين . لا يستحق مثل هكذا رب يسرقون حتى في بيته ومعابده . ويذوقون عسل التمر المعتق , على انين الضحايا . لا يمكن ان تكون الحياة بيد الهكنة في صنعها كما يشاؤون ويرغبون , لا يمكن للضحايا ان ينتقلوا من خندق الى خندق في انتظار الموت أو الجحيم المنتظر. لايمكن ان يمنع السؤال والكلام بالمحظور ( – الرجل الذي لا يجيد الاسئلة رجل لا يجب ان يعيش ….. رجولة دون سؤال حلم عاطل ……. ما تعودتك تتمرغل بالخجل … أو تتراجع عن سؤال …الاجابات تقيك استباحة الاسئلة وتغسل واياك في ينابيع خرافاتك المحشوة في بيوت الدعارة .. والمشانق …. وعاهرات الدروب التي تشبه جلود الافاعي ؟!! ) ص21 .
ان تراكم المعاناة والوجع يولد الانفجار وتباشير الامل , هكذا تهمس ( عشتار ) ربة الحب والحياة في الاذهان . بأن تعزف على موسيقى الرفض , وان تسير منتصب القامةفي عزفها , تمزق الخوف الداخلي لتتحرر الى الحياة العريضة , لكي تجعل الانفجار بقوة الالم والمعاناة والكبت الداخلي . عندها ستجد مروج الحياة بالانتظار . ليس ثمة حنجرة ‘لا ان تعزف بشهقات النواح , ان تعزف في ابواب الكهنة , ولا تكترث لكلابهم المسعورة . لكي تكبر ابتسامة الامل والاغاني الانفجار ( الاحلام تنصب متاريس الاسئلة , والارواح تغافل نومها لتطلق دخان ضجرها باتجاه الشوارع ) ص290
بهذه الانفجار المرتقب , انفجار الضحايا والمسحوقين والمحرومين .
جمعة عبدالله

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here