الصراع الإقليمي على الانتفاضتين اللبنانية والعراقية

عريب الرنتاوي
05 تشرين2/نوفمبر 2019

تتعاظم الخشية من ضياع الانتفاضتين الشعبيتين، اللبنانية والعراقية، في دهاليز الصراعات الإقليمية ـ الدولية المحتدمة في الشرق الأوسط… يوما إثر آخر، تتعاظم التدخلات الإقليمية ، وكلما ازداد الاحتشاد الشعبي في ميادين وشوارع كل من بيروت وبغداد والبصرة وطرابلس، كلما ارتفع منسوب هذا التدخل الخارجي ، وكلما تظهّرت مواقف اللاعبين الإقليميين، وازدادت سفورا، فكيف ذلك؟

بدأت القصة بـ”نظرية المؤامرة” والحديث عن “غرف عمليات سوداء” تدير الحركات الشعبية في شوارع بغداد وبيروت…

في العراق، أطلقت النيران بغزارة من دون تحفظ على رؤوس المتظاهرين وصدورهم، وسقط في شهر واحد فقط أكثر من 250 قتيلا، وتجاوزت أعداد الجرحى الألوف العشرة…

وفي لبنان، حضر حديث “المؤامرة” ونظريتها، لكن الرصاص غاب عن المشهد، لتحل محلة صور “الزعران” و”البلطجية” الذين ينهالون بهرواتهم وعصيّهم، من دون رأفة، على رؤوس المتظاهرين والمتظاهرات.

ذروة التدخل الإيراني في الانتفاضتين كلتاهما ، جاءت هذه المرة على لسان “المرجع الأعلى”، الذي سمح لنفسه بأن يصف ما يحدث بـ “أعمال الشغب” التي تديرها الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض دول المنطقة… متطوعا بإسداء النصح للجماهير الغاضبة باحترام “القانون” والحرص على “الاستقرار”… لكأننا أمام “أمر عمليات” لكل الحلفاء والأتباع ، بأن ما يجري “مؤامرة” تستدعي “المقاومة”… أما الحديث عن الاستجابة لحاجات الناس، فقد تُرك لتقدير السلطات، شريطة ألا تخرج هذه المطالب بالطبع، عن الحدود التي تبقي لإيران نفوذها وسطوتها على البلدين.

ما لم يقله “المرشد الأعلى” بالفم الملآن، ورد على لسان ممثله حسين شريعتمداري، وفي صحيفة “كيهان”، فهو اعتبر أن الشباب الذين تدافعوا في شوارع بغداد كانوا “مدفوعين” من جهات خارجية… حاثّا الشباب العراقي المؤمن والثوري، والذي ينظر لـ “الحشد الشعبي” كرمز له (؟!)، أن يبادر إلى احتلال السفارتين الأميركية والسعودية في بغداد… تصريحات شريعتمداري ونصائحه، جاءت متزامنة مع الذكرى الأربعين لاحتلال السفارة الأميركية في طهران، وبدء اندلاع ما سيعرف لاحقا بـ”أزمة الرهائن”.

حتى الآن، تبدو الأخبار والمواقف والتصريحات الآتية من طهران، مثيرة للقلق والتحسب، لكن الخبر الجيد الوحيد في هذا السياق، أن أحدا من العراقيين أو اللبنانيين، لم يُلقِ بالا لها… فلا الاحتشاد الجماهيري في الشوارع توقف أو تراجع، ولا “الشبّان المؤمنون” بادروا إلى اقتحام سفارات الدول “المتآمرة”…

لقد سقط الرهان الإيراني على قدرة “المراجع” الإيرانية على تحريك الشوارع العربية، وإن كان ذلك لا يقلل من حجم الأخطار والتحديات التي ما زالت تحيق بالانتفاضتين وتحيط بهما من كل حدب وصوب.

على أن التدخل، أو نيّة التدخل، في الانتفاضتين الشعبيتين، اللبنانية على وجه الخصوص هذه المرة، جاءت عن إسرائيل… مستشار الأمن القومي الأسبق، الجنرال جيورا آيلاند، كتب في “يديعوت أحرونوت” ما يفيد بوجود “فرصة تاريخية” لا يتعين على إسرائيل أن تبددها لتحقيق أهداف تكتيكية واستراتيجية للتأثير على مجريات الأحداث في لبنان…

آيلاند لا يرى في لبنان سوى “سلاح حزب الله وصواريخه” وهو يعتقد بأن ثمة فرصة نادرة لضرب الحزب وتجريده من سلاحه، إن أحسنت إسرائيل توظيفها، وضغطت على مجتمع المانحين لاشتراط نزع سلاح “حزب الله”، نظير حصول لبنان على المساعدات والقروض الميسّرة… والشعب اللبناني حسب آيلاند، يجب أن يصل إلى خلاصة مفادها: لا مخرج من مأزقك الاقتصادي من دون نزع الغطاء عن الحزب و”قول كلمته ضد الحزب”.

إيران كما إسرائيل، لا تريان في لبنان سوى “حزب الله” وسلاحه… الأولى تخشى عليه وتريد الاحتفاظ به وتعزيزه، ولذلك رأيناها تخشى الانتفاضة وتتحسب لتداعياتها واتجاهات تطورها وتحولها… والثانية، تسعى في استئصال الحزب وتقليع أنيابه ومخالبه، وهذه المرة، من دون كلفة ولا مجازفة بحروب غير مضمونة العواقب… أما مطالب الشعب اللبناني المنتفض، وتوقه للحرية والعيش الكريم وضيقه بالفساد والفاسدين، فهي ليست مدرجة على جدول أعمال العدوين اللدودين أبدا.

غير بعيد عن حلبة “الكباش” الإيراني الإسرائيلي، لا تكتفي دول الخليج العربية بمراقبة الحراكين اللبناني والعراقي، أو الجلوس على مقاعد المتفرجين… فهي بدورها قررت النزول إلى أرض الملعب…

وفي المعلومات التي تتسرب عن أوساط سياسية ودبلوماسية في المنطقة، ثمة ما يفيد أن كل من الرياض وأبو ظبي والدوحة، قد أعلنت النفير العام مبكرا، وبدأت كل عاصمة من العواصم الثلاث، تستجمع أوراقها وتستحث حلفائها، لضمان أن تهبّ رياح الحراكين بما تشتهيه سفن هذه العواصم… اتصالات مع الأعوان والحلفاء، وأموال تدفع بطرق شبه معلنة، وتغطيات إعلامية تحريضية، تروم دفع الحراك بالاتجاهات التي تخدم أجندة هذه العواصم المتباينة… وثمة ما يشي بأن هذه العواصم، قررت الدخول في “حرب وكالة”، كما فعلت في الأزمة السودانية، ومن قبلها في ليبيا، لضمان ألا تخرج من “مُولد” الانتفاضتين الشعبيتين بقليل من الحمص فقط.

هنا أيضا، وكما في الحالتين الإيرانية والإسرائيلية، لا أحد يبدي اهتماما بأهداف الحراك وبواعثه، لا أحد يكترث بآلام الشعبين ومعاناتهما… لا أحد يقيم وزنا لتطلعات اللبنانيين وأشواق العراقيين… المهم ألا يسقط أحد البلدين أو كلاهما، لقمة صائغة في فم المعسكر المقابل… المهم ، ألا يسجل حلفاء الخصم فوزا بالضربة القاضية ، ولا حتى بالنقاط على حساب هذا الفريق أو ذاك .

في لبنان، كما العراق، التحرك الشعبي غير مسبوق… لا أحد يستذكر أحداثا مماثلة في التاريخ الحديث ولا حتى القديم للبلدين… ومن غير المتوقع أن يستجيب ملايين المتظاهرين والمتظاهرات لهذه التدخلات الإقليمية الضارة…

لكن مع ذلك، فإن القلق والتحسب من سيناريوهات تفكيك الحراك وتفتيه، وحرفه عن وجهته، وإدخاله في مستنقع الصراع الإقليمي ـ الدولي في الإقليم وعليه، لا تزال ماثلة، بل وقد تسهم في خفض سقف التوقعات لما يمكن أن يحققه، أقله في جولته الأولى، إذ أن أغلب المراقبين والدارسين، يرون في الانتفاضتين العراقية واللبنانية، إرهاصات مسار طويل، متدرج ومتعرج، للانفكاك من قبضة “نظام المحاصصة الطائفية” الفاسد والمتجذر والعميق…

لقد وضع شبان الانتفاضة أقدامهم على طريق المستقبل، وهيهات أن يتراجعوا عنه، حتى وهم يدركون، كم هو “موحش” وطويل.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here