شباب العِراق وشاباته.. نريد وطناً

إن سيل المناسبات الدِّينية وانهمار الشَّباب فيها، وكثرة المتحلقين حول المنابر، وفوز الأحزاب والوجوه نفسها في الانتخابات، أعطت فكرة خنوع العِراقيين والقبول بواقع الحال، واليأس من التغيير، بل شجعت القوى المتحكمة على التمادي بالفساد والخراب، حتى وصل الحال إلى عرض العِراق نفسه بأسواق النَّخاسة. لكنَّ مشهد ساحة التَّحرير وسط بغداد، وساحات المحافظات الوسطى والجنوبيَّة، ألغت ذلك الانطباع تماماً، حتى فُهْم أن ذلك السُّكوت كان تأهباً واستعداداً. نجد وصفاً دقيقاً لهذه الظَّاهرة عند محمد باقر الشبيبي(ت1960): «ليس السُّكوت مِن الخنوع وإنما/هذا السُّكوت تجمع وتحشدُ»(عز الدين، الشعر العراقي الحديث).
لم تفهم الأحزاب الطَّائفية والفئويَّة الحاكمة الأمرَ كي تحذر مِن الانفجار، مثلما حدث في الأول مِن أكتوبر الماضي، بعد أن انتهت صلاحية المخدر الطّائفي، فكانت تلك الأحزاب والميليشيات تعتقد أن الوسط والجنوب لا يُحركان ساكناً، فما يريداه ليس أكثر مِن مواكب ومجالس عزاء، ويكفيهما نداء «كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء»، حتى جعلوا مِن الدِّين والإمام الحُسين تجارة لا تُكلفهم رأس مال، وعلى هذا اللحن تدخل العقول في غيبوبة.
لهذا، أطبق اليأس على العراقيين وكأن أمرهم انتهى، بعد إدخالهم في المتاهة الطَّائفية، مثلما كانت قبل ألف عام، بعودة النزاع الديلمي- التركي، الذي كان يهيمن على المشهد ببغداد العباسية، مثلما حصل السَّنة(389هجرية)، هؤلاء يحتفلون بعيد «الغدير» وأولئك يردون بالاحتفال بيوم «الغار»، ويتصادمون، فيضمن الطرفان(التركي والديلمي) كثرة الأعوان. فالأول يوم خطبة الوداع عند غدير «خم»، باعتقاد إعلان الخلافة لعلي بن أبي طالب(اغتيل40 هجرية)، والثَّاني دخول النَّبي وأبي بكر الصِّدِّيق(ت13هجرية) إلى الغار معاً، عند هجرتهما مِن مكة إلى المدينة(الوزير أبو شجاع، ذيل تجارب الأمم ومناقب الهمم).
أُدخل الشَّباب العراقيون في هذه المتاهة، القديمة الجديدة، وظلوا مسحورين بها، تغيب وتحضر حسب المواسم، وتدريجياً حذف اسم العراق مِن على الشفاه، ولوحات التعليم في المدارس، وحلَّت محله أسماء الطَّوائف، وعلت أصوات أصحاب المنابر منذرةً بحرب طائفية ليس لها أول ولا آخر، وأصبح هؤلاء موجهين النَّاس إلى المنحدر، فأحدهم قالها مناشداً الشّباب الذي بدأ يخضرُ فيه العرق الوطني، وهو يرد على أحد المتظاهرين: «مَن الأولى حقوقكم أم حقوق أهل البيت؟ هل خرجت بمظاهرة واحدة يوم من الأيام تُدين بها رأس المنصور الدوانيقي الموجود في بغداد، هل خرجت بمظاهرة واحدة تدين المناهج الدراسيَّة التي ورد فيها ذِكر عمر وأبي بكر قتلة فاطمة الزَّهراء… أيها المتظاهر عار عليك أن تخرج بمظاهرة تطالب بها بالكهرباء والماء الصَّالح، ولا تخرج في مظاهرة أن ترفع بها تمثال أبي جعفر المنصور، الذي قتل الإمام جعفر الصَّادق»(يوتيوب، معمم مِن البصرة)! تصور كيف تُبنى دولة يجول ويصول بها مثل هذا الخطاب!
ليس كلام هذا المعمم ثقافة تخص قائلها والمتحلقين حول منبره، إنما أخذت تسري في أوصال الوطن، تتنافس مع ثقافة التكفير والقتل، حتى فُجر مرقد العسكريين(22/2/2006) بسامراء، فوسع الطرفان مجالهما في بث الكراهيَّة، مِن قِبل أصحاب المنابر وفتاوى التكفير المتخادمين بعضهم بعضاً في رسم ثقافة الجيل على مقاس عقائدهم.
لا مجال للتبسط في ما أن الأئمة جميعاً قد قتلوا، مثلما أورده صاحب العمامة البيضاء، وهو على ما يبدو حديث عهد بالعمامة، ويتدرب على الخطاب الطَّائفي، كي نثبت أن قتل السَّيدة فاطمة(ت11هجرية) كان عارياً مِن الصحة، وقتل جعفر الصَّادق(148هجرية) غير صحيح أيضاً، بشهادة مؤسس المرجعية الدِّينية الّشيخ المفيد(ت413هجرية) في «تصحيح اعتقادات الإماميَّة»، الذي نفى نفياً باتاً أن الأمة جميعاً قد قتلوا، وفق حديث متداول ومنسوب للصَّادق نفسه «ما منا إلا مقتول أو مسموم»(المجلسي، بحار الأنوار)!
غير أن أعجب العجب، وبهذه السِّرعة الفائقة، قياساً بأزمنة تغيير أحوال النَّاس النفسية والثَّقافيَّة، يُبعث جيلٌ سليم العقل والتفكير، أنهكته الأزمات، وافترسته الثَّقافة المنبريَّة، ولم يفتح عينه إلا وكلُّ شيء حوله خراب ينعب فيه الغراب، حتى امتزجت الأصوات في ذاكرته، بما عبر عنه محمد مهدي الجواهري في (قف بالمعرة 1944):«صَاحَ الغُرَابُ وَصَاحَ الشَّيْخُ فَالْتَبَسَتْ/ مَسَالِكُ الأَمْرِ: أَيٌّ مُنْهُمَا نَعَبَا». أقول مع أجلالنا للفقهاء الذين واجهوا الكراهيَّة بموقف صادق: هل يمكن اعتبار ماورد مِن الدَّعوة إلى التَّظاهر ضد المنصور وعمر وأبي بكر غير نعيب غراب في أرض خراب؟!
أعاد هذا الجيل- الذي نهض مِن تحت الرَّماد، وأعطى نحو مائتي شاب ضحايا، وجلهم مِن ولادات(2003)- تشكيل عراق جديد. كيف خلت حناجر الآلاف المؤلفة مِن شعارٍ مذهبي أو ديني. كان العراق حاضراً وحده، بعد أن ظن أصحاب المشروع الطَّائفي كلَّ الظن أنها استقامت لهم، فأخذتهم الدَّهشة مِن هذا التمرد الجسور، والهادف إلى إعادة العراق بشعار«أريد وطناً»، خُرق الصمت بحركة جوهريَّة تراكمت فتجلت كالعاصفة، هذه الخطوط الحُمر، التي رسموها لقدسيتهم باسم الدِّين والمذهب.
صحيح أن العِراقيين بدؤوا منذ 2010 بالتَّظاهرات، ولم يتوقف احتجاجهم رغم العنف والقتل الذي استخدم ضدهم، واتهموا بالعمالة والعمل على إسقاط الدِّيمقراطيَّة، وأنهم ضد حكم «الشِّيعة»، وهذا ما قيل في تظاهرات المناطق الغربيَّة، التي سموها بأصحاب«المنصات»، لكن ما هي التُّهم التي تُلبس لهؤلاء الفتية والفتيات، وهم يبحثون عن وطن قد سُلب منهم، يريدون تشكيله للأجيال مِن جديد، فمَن حكموه لا يهمهم أن البلد صار أرضاً يباباً!
أعظم ما حققته نهضة الشَّباب «التشرينية»، أنها أعادت للعالم مكانة العراق والعراقيين، وأثبتت أن الأوطان لا تُباع وتُشترى، ولا رابطة أقوى مِن رابطة المواطنة.
*كاتب عراقي
الكاتب
رشيد الخيّون
الاتحاد الإماراتيَّة

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here