في ساحة التحرير، الناس يحكمون انفسهم ويرفضون النظام

مصطفى حبيب

انها ارض التي لا تخضع للقوانين والانظمة، تستقبل الجميع بلا قيود، هكذا تحولت بقعة جغرافية لا تتجاوز مساحتها خمسة كيلو مترات في قلب العاصمة العراقية بغداد، يدافع عنها بشراسة عشرات المتطلعين الى الحرية.

منذ عشرة ايام يتجمع الالاف العراقيين في ساحة التحرير التي يرتفع وسطها نصب “الحرية” للنحات العراقي الشهير جواد سليم في ستينات القرن الماضي، وحول هذا النصب يعيش الالاف حلم الحرية، ويدافعون عنها بشراسة عند الجسر المطل عليه حيث تنتشر قوات الامن.

في مطلع تشرين الاول (اكتوبر) خرج الاف الشباب العراقيين ضد حكومتهم بسبب الفساد وسوء الادارة الذي عم العراق بعد اسقاط نظام صدام حسين الدكتاتوري في 2003 على يد القوات الاميركية، لم تكن السنوات اللاحقة جيدة على الاطلاق، حرب اهلية، وهجمات دامية من جماعتين متشددتين هما “القاعدة” و”داعش”، وجدت البلاد نفسها بعد كل ذلك منهكة، بلا اعمار، وشبابها بلا وظائف في بلد يحتل المراتب الاولى في انتاج النفط.

كان رد السلطة على تلك التظاهرة قاسيا، قتل (150) شابا الكثيرون منهم كانوا تحت سن الخامسة والعشرين والأمر الاكثر شناعة تم قتل نصفهم عبر القناصة من مسافات بعيدة لم يستطيع المحتجون رؤيتهم، اعتقدت السلطة ان هذه الطريقة ستنهي الاحتجاجات، بل تجعلها مطمئنة لوقت طويل، لم يمض اسبوعين حتى عاد المتظاهرون الى الشوارع بأعداد واصرار اكبر، وسيطروا على ساحة التحرير ايقونة الاحتجاج العراقي ضد السلطة.

كان من المفترض ان تكون تظاهرات اعتيادية شهدتها الساحة خلال السنوات الماضية، ولكن هذه المرة ذهبت الى حد بعيد، وقت مختلف وجيل مختلف، جيل يافع تربى في عصر الفيسبوك، ولعبة البوبجي، جيل ثوري متعجل للتغير، بينما تبدو السلطة عجوزة وكسولة غير قادرة على مواكبة الاستجابة الضرورية.

شعور غريب ينتاب المرء عند الدخول الى الساحة الممتدة على طول شارعين متراصفين، فوضى هادئة، على جوانب الساحة عند الارصفة تنتشر صناديق مكومة من المياه والمشروبات الغازية والفواكة المتنوعة، هناك نساء يطبخن بقدور كبيرة، واخرين يصنعون الخبز بكيمات كبيرة، كل هذا الطعام يعطى بالمجان للمتظاهرين، وايضا للزائرين.

مصدر هذه الاطعمة متبرعين مجهولين كما تقول احدى النساء المشرفة على اعداد الطعام، تجار واشخاص عاديون رغم عدم قدرتهم على التظاهر بسبب اعمالهم ومشاغلهم، لكنهم يريدون التواجد هناك بشدة عبر دعم المتظاهرين الذين اصبحوا طريقا للخلاص من الوضع القائم، تاتي عجلات كبيرة صباحا ومساءا محملة بهذه الاطعمة.

وبين هذه الصناديق وقدور الطبخ، تنتشر افرشة واغطية معدة لنوم المتظاهرين، المئات منهم يرفض مغادرة الساحة، يقول ماهر جاسم الذي لم يتجاوز عمره (19) عاماً لـ “نقاش” حول وجوده في الساحة “انا هنا منذ ثلاثة ايام كاملة، انها ارضنا الان، اذا انسحبنا قد نخسرها الى الابد، منها نحقق حلمنا في تغيير وضعنا السيئ”.

الى الامام قليلا، تنتشر خيم تضم عدد من الاسرة، هي عبارة عن مستشفى صغير لاسعاف الجرحى الذي يسقطون عند نهاية هذه القطعة من الارض حيث الاشتباكات مع قوات مكافحة الشغب، بنات يافعات بردائهن الابيض الملطخ بعضها ببقع دماء يركضون داخل الخيمة لاستقبال ثلاث مصابين بضيق التنفس بسبب القنابل المسيلة للدموع التي تطلقها قوات الامن بكثافة على المتظاهرين.

من هذه المستشفيات الصغيرة وعلى مسافة نحو مائة متر من مكان النصب المستطيل الشهير يمكن سماع دوي صياح المتظاهرين، هناك تحت النصب بشكل يجعلك عاجزا عن الوصف.

تشعر ان الاف الناس متحدين معا، رغم اختلاف ما تقوم به كل مجموعة وشخص، هنا تسمع الاغاني الوطنية وبالجوار مجموعة تستمتع الى اناشيد دينية، رجل يقرأ القران بصوت عالي، واخر جالسا على الرصيف معلقا الصليب وهو يقرأ الانجيل، مجموعة اخرى ترقص على وقع اغاني غربية وشعبية عن الحب والرومانسية.

تخلو الساحة تماما من السيارات، ولا يوجد سوى ايقونة التظاهرات الـ”تك تك” تلك العجلة الصغيرة الهندية التي وجدت نفسها في بغداد يستخدمها الفقراء لنقل الاشخاص بثمن ارخص بكثير من اصحاب التكسي، تطوع المئات من هؤلاء الفقراء الذين لم تتجاوز اعمارهم (18) عاما لنقل الجرحى الى هذه المستشفيات او الى مستشفيات المدينة القريبة من الساحة.

تحولت الجدران المحيطة بالمكان الى لوحات فنية كبيرة، عشرات الشباب رسموا عما يحلمون به من الحرية والحياة الجيدة، ابرز اللافتات تلك التي تشير الى قوة المرأة ودورها في الحياة الى جانب الرجل، وعلى الارض تحت هذه الرسوم انتشرت مكتبات صغيرة تحوي مئات الكتب، ليست للبيع، وانما مجانا لمن يريد يأخذها لنفسه او يعيدها لاحقا بعد الانتهاء من القراءة.

لا يريد الناس مبارحة المكان مطلقا، لم تعد فقط مكانا للاحتجاج على السلطة لتلبية مطالب معينة، بل ارض للإحساس بالحرية، بعيدا عن القيود والقوانين، اطلق المتظاهرون مقولة تحولت الى مثل شعبي يتم تداوله عبر الالاف الهاشتاغات “الذي لا يزور هذا المكان فقد اضاع عمره”، حاول قائد الجيش في بغداد الاثنين الماضي الدخول الى الساحة قائلا انه يريد حمايتهم لا غير، سمح له المتظاهرين بالدخول بعد موافقتهم، التقط بعض الصور وخرج فورا.

رفع احد الشباب لافتة كتب عليها “احلفك بالله يا رئيس الوزراء لا تلبي مطالبنا، لاننا فرحين في هذا المكان”، لافتة اخرى رفعها متظاهر اخر “يسقط رؤساء الوزراء الذين سياتون بعد رئيس الوزراء الحالي”، في اشارة الى مدى رفض المتظاهرين للسلطة، وهو احد الصعوبات التي تواجه الحكومة في كيفية التفاوض معهم، مطالبهم تجاوزت الكثير من الامور، ولهذا لم يكترثوا بعشرات القرارات التي اتخذتها الحكومة في منح نصف مليون وظيفة، وراتب لمن لا يمتلك وظيفة.

ما يجري في الساحة من احداث وظواهر ومشاهد كثيرة، دفعت بعض المتظاهرين الى اصدار صحيفة خاصة بهم حملت اسم “تك تك”، رغم انها فقط من اربع صفحات، لكنها تضمنت مقالات رصينة، ومطالب الى السلطة.

في نهاية الساحة وعند منتصف الجسر الرابط بينها وبين المنطقة الخضراء حيث مقرات الحكومة ومنازل المسؤولين، تجري معركة دامية، يحاول عشرات المتظاهرين الشباب تجاوز قوات الامن الواقفة خلف اسوار كونكريتية وهي تطلق بكثافة الغاز المسيل للدموع، يسقط من حين واخر متظاهرين، سرعان ما تصل اليه عربة تك تك لنقله الى المستشفيات الصغيرة في منتصف الساحة، بعض المتظاهرين يقتلون فورا بسبب اختراق قنبلة الغاز رؤوسهم بعد قوات الامن بإطلاقها صوبهم.

وعلى يمين الجسر مبنى عالي مهجور مكون من عشر طوابق يسمى “المطعم التركي”، تحول الى رمز للمتظاهرين، يقيم فيه مئات المحتجين، يرفضون تركه، غطت جدرانه لافتات ضخمة من العلم الوطني وشعارات احتجاج قوية ضد السلطة.

يقول ليث الطائي الذي اصيب بحالة اختناق شديد وتم نقله الى العلاج، لـ “نقاش” “يجب ان نقاوم عند الجسر، نريد العبور، هناك يقيم من ظلمونا، واذا لم ننجح في العبور، فأننا نحمي الساحة لتبقى مكانا امنا للمتظاهرين، لو انسحبنا من الجسر، فان قوات الامن ستتقدم نحو الساحة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here