سيناريوهات العراق ولبنان: مأزق السلطة طويل

جويس كرم

ثورة أكتوبر في العراق ولبنان لم تكن في حسبان السلطة أو داعميها في الخارج في إيران والولايات المتحدة والدول العربية، وهي وإذ تدخل شهرها الثاني في بلاد الرافدين والأسبوع الثالث في بيروت، ما من حلول مكتملة في الأفق قد تقبل بها الحكومات (وداعميها) وبالتالي فنحن أمام أزمة طويلة بين السلطة والشارع وسيناريوهات متقلبة أمامهما.

كان من المفروض أن يكون أكتوبر شهر استضافة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي في البيت الأبيض، وشهر مفاوضات “الغاز والنفط” التي كان يديرها رئيس الوزراء المستقيل سعد الحريري مع الدول المعنية. لا ابتسامة عريضة من المكتب البيضاوي لعبد المهدي، ولا اتفاق مرجو للحكومة اللبنانية المستقيلة لبدء محاصصات وتوزيع عقود الغاز والنفط.

بدلا من ذلك، حمل أكتوبر انتفاضة شارع فقد الثقة بالسلطة الحاكمة، وسئم الوعود والكلام الفضفاض والصور، وقاد بتظاهراته مرحلة التغيير، حتى لو كانت مآلاتها لا تزال مجهولة.

طبعا، هناك خصوصيات لتظاهرات العراق تختلف عن النموذج اللبناني، ولو أن كليهما يستهدفان السلطة الحاكمة وقلب الطاولة برمتها على المنظومة الأمنية والقضائية والسياسية في البلاد. لكن الطوق الأمني المتشدد في العراق وعدم نية أو قدرة عبد المهدي على الاستقالة حتى الساعة على عكس سعد الحريري، تضع النموذجين أمام سيناريوهات مختلفة.

فيما يخص العراق، وبعد سقوط أكثر من 260 قتيل بين صفوف المتظاهرين ووصول الحراك من البصرة إلى النجف إلى بغداد، فإن التعديلات الدستورية والإصلاحات التجميلية التي وعدت بها السلطة لن تكفي لإسكات الشارع.

وعود عبد المهدي بحماية المتظاهرين أسقطتها رصاصات قوى الأمن والقناصين في شارع الرشيد وفي كربلاء، وإصلاحات الرئيس برهم صالح ضربتها بعرض الحائط القنابل المسيلة للدموع وعمليات القبض واختطاف الناشطين ومن بينهم صبا المهداوي.

لا يمكن الحديث عن حوار جدي بين السلطة والشارع في العراق طالما أن كلمة السلطة تكسرها القوى الأمنية يوميا في قمع المتظاهرين، ولا يمكن الحديث عن إصلاحات جزئية أمام بطالة وفقر وفساد ونهب 450 مليارا من المال العام في خامس أغنى دولة نفطية في العالم.

السيناريو الأكثر ترجيحا اليوم هو تشديد السلطة العراقية الطوق الأمني وتقديم خطوات إصلاحية غير كاملة ستفشل في إسكات التظاهرات. فمن يطالب بحل البرلمان وتغيير أسس النظام السياسي الذي هيمن على العراق بعد سقوط صدام حسين، لن يرضى بحلول نصفية. كما أن السلطة وأركانها الأمنيين بينهم الحشد الشعبي لن يتنازلوا بهذه البساطة عن مكاسب حصلوها منذ 2003.

وأمام عجز السلطة وداعميها من الخارج، من أبرزهم إيران، في فرض واقع سياسي وأمني، فإن استمرار التظاهرات وضغط الشارع هو السيناريو الأكثر منطقية اليوم. أما الحديث عن انقلاب عسكري (سيناريو السودان) أو حل أمني، فهو قد يقود لحرب أهلية وغير واقعي ضمن التوازنات الحالية في البلاد.

أما في لبنان، فإن استقالة الحريري تفتح نافذة في بيروت أكبر من تلك المتوفرة من بغداد لبدء الحديث عن حلول واقعية، رغم أن السلطة والنخبة الحاكمة منذ اتفاق الطائف لن تقبل بإصلاحات جذرية ستفضي بتغيير في المناصب والحصص.

فلا الإصلاحات القضائية تبدو واردة أمام من هم في السلطة في لبنان، ولا التغييرات الأمنية والحلول الاقتصادية الجذرية هي مقبولة أيضا. ما يعمل عليه الحريري والرئيس ميشال عون هو صيغة حكومية تكنوقراطية أكثر قبولا في الشارع. هذا قد يدفع “حزب الله” للتضحية برموز حليفة، إنما لن يكون كافيا لتفادي الانهيار الاقتصادي وإسكات المتظاهرين.

تظاهرات لبنان تحولت اليوم إلى مد شعبي وحركة إضرابات وعصيان تتطلب حلولا أكبر من تغيير الصيغة الحكومية. فالتوقعات من الخبراء الاقتصاديين والبنك الدولي ترجح انهيارا اقتصاديا في بيروت خلال أربعة أشهر.

السبيل الوحيد لتفادي هذا الانهيار هو عبر إجراء تغيير حقيقي في أعلى هرم السلطة اللبنانية يفتح الباب أمام إصلاحات اقتصادية شاملة سبق أن رفضها “حزب الله”، وتتيح وصول دعم دولي ينقذ البلاد.

آلية الإصلاحات المطلوبة تتضارب بالكامل مع معظم النخبة السياسية اللبنانية التي تعيش على الفساد والتهريب وامتصاص مقومات الدولة، لكن من دون هذه الإصلاحات لن يبقى اقتصادا أو دولة. أما تعويل السلطة على الغاز والنفط فلن ينقذ، المواطن اللبناني ـ حتى لو كانت نتائج الاكتشافات مطابقة للتصور اللبناني ـ لا بل قد يفاقم أزمة المحاصصات داخل النخبة الحاكمة.

الاتجاه الصحيح في العراق ولبنان يكون في حكومات متخصصة وغير مرتهنة للخارج تشرف على إقرار وتنفيذ إصلاحات أمنية وقضائية جذرية قبل فتح صناديق الاقتراع. هذا الاتجاه يهدد النخب الحاكمة في البلدين وستعارضه إيران قبل غيرها وقد تنجح في تأجيله لكن ليس إسكاته أو منعه بالكامل، بعد أن انكسر طوق الخوف واقترب شبح الانهيار الاقتصادي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here