«الخطْف المُقَدس»..إِنانا وصَبا

12 نوفمبر 2019

تدخل مفردة «المُقَدس» على المال فيصبح «مالاً مُقدساً»، تزكيه مِن السَّرقة وإنْ كان سحتاً، وهو ما يؤخذ مِن النّاس بعذر ديني ملتبس، وتدخل على المكان ليغدو مقدساً، وعلى الحزب يبدو مقدساً، وعلى الرِّجال فيولدون مقدسين، وعلى جماعة مسلحة لتكون مقدسة. كم مِن مرتكبي الشُّبهات غطى المقدس على المدنس مِن أفعالهم، ولا يفوتنا ما عبر عنه القدماء بـ «الزَّواج المقدس»، وهو ما يحدث بين الكاهن وخادمة المعبد، وذاك تقليد ديني مرتبط بزمانه، غير أنه موجود نفسه الآن خارج الزَّمن وأعرافه. أليس مِن حقّ كهنة اليوم الاستمتاع بقدسيتهم، ومفاتيح الجنَّة بأيديهم؟! أقول: إذا كان كلَّ هذا يحتمله «المقدس»، فلماذا لا يحتمل الخطف «المقدس»؟! ولأنه مقدس لا تنال فاعله عقوبة، طالما الغرض منه حمايّة المقدسات، والدِّفاع عن «حاكمية الله»، المتمثلة بنوابه!
هذا ما يحدث بعراق الجماعات المسلحة التي حصرت عنوانها بـ«المقاومة الإسلاميَّة»، ومِن هنا تصطبغ بالقدسيَّة، خصمها كافر وتابعها مؤمن، بل أبناء وبنات الخصم ينالهم وينالهنّ كفر الأب والأم وخيانتهما، لأنه ليس مع المقاومة الإسلامية، المدافعة عن الأُمة وحاكميّة نيابة الأئمة. سبق أن اختصم الفقهاء والمتكلمون على أولاد المُخالفين: يقتلون أم يستعبدون، وأبو الحسن الأشعري (ت324هجرية) يفصل الاختلاف في الموقف مِن هؤلاء الأطفال، حسب كلّ فرقة وقولها فيهم (مقالات الإسلاميين).
أحسبُ أن اختطاف الطّفلة «إنانا»، يدخل في هذا الصّنف، أيّ اختطاف «مقدس» مورس ضد «أبٍ مخالف»، حاول الاقتراب مِن أسرار «المال المقدس»، عن طريق إذاعة «دموزي». قَدمَ الفنان هادي المهدي فيها برنامجيه: «يا سامعين الصَّوت»، و«كاتم صوت». كان اختيار العنوان الأول مقتبساً مِن تقليد معروف لكشف السَّرقة الغامضة، أن يسير وجهاء المحلة أو القرية حاملين «القرآن»، ويُكلف مَن له صوت جهوري لينادي: «يا سامعين الصَّوت»، على اعتقاد أن السَّارق سيخشى من كتاب الله، فيأتي معترفاً، وهذا ينطبق على غموض ضياع مئات المليارات من الدولارات. أما البرنامج الثَّاني «كاتم الصَّوت»، فأتى شاجباً للاغتيالات الغامضة أيضاً. اغتيل الفنان والمتظاهر هادي المهدي (8/9/2011)، لكنَّهم علاوة على اغتياله نسجوا حوله شبهات، مع أنه شوهد في إحدى الفضائيات مدمى بعد جولة اعتقال وتعذيب، عشية اغتياله.

ظل والديّ «إنانا» متمسكين بالأُصول الأولى، متغافلين عمَّا مرَّ على العِراق مِن قرون جرى فيها الدَّم بجريان دجلة والفرات، فعادا إلى الأدب السُّومري، حيث إنانا (عشتار البابليّة) إلهة الحبّ والجمال ببلاد الرَّافدين، ودموزي (تموز البابلي) المسمى بالابن المخُلص، لذا سموا ابنتهما «إنانا» وإذاعتهما «دموزي».
كانت «إنانا»، ذات الأربع سنوات، تعاني مِن ثقوب في قلبها، فعلى الدوام تحت العلاج، لم تعد الطِّفلة مِن الرَّوضة، في (28/2/2012)، تسلم الأب اتصالاً وطرحوا الشَّرط الأول: إسكات «دموزي» والكف عن الحديث في الفساد المالي وعن الاغتيالات، والشرط الثَّاني: تقديم مبلغ كبير مِن المال، وافق الأب، فـ«إنانا» بلا دواء، وما ستكون حالة قلبها وهي بيد الخاطفين. تسلمت الأسرة الطفلة وقد ضعف قلبها، لحبس الدواء عنها، فتوفيت بعد فترة وجيزة (8/9/2012). أما الخاطفون فميليشيا تعد نفسها ضمن «المقاومة الإسلاميَّة»، وتستعرض مقاتليها، لم يبق للأب والأُم غير الهجرة، فبعد «إنانا» هما يكونان الهدف للتعتيم على الجريمة، وخطفهما أو قتلهما فعلاً مقدساً أيضاً، لأنهما حاولا النيل من «مختار العصر»، ولكم ضم هذا اللقب للمقدسات أيضاً.
ما بين «إنانا» وصَبا المهداوي فارق العمر، ولكنّ الخاطف واحد والدافع واحد، فصَبا طبيبة هان عليها دماء الشَّباب والشَّابات المتظاهرين تسيل، وبفزعتها لتضميد الجراح ارتكبت خطيئة ضد القناص، وهو مقدس أيضاً. نزلت صَبا وسط ساحة التَّحرير، تحاول إنقاذ حياة مَن يطلبون وطناً، ولم تسمع لنداءات والدتها، العارفة بأخلاق الخصم، عادت إلى الدار واختطفت وهي في الطَّريق (2/11/2019)، وحتى اللحظة ما زالت تحت الاختطاف، وجريمتها أنها تحاول التقليل مِن الخسائر في الأرواح بفعل الرَّصاص والغاز.
على ما يبدو أن الاغتيال والخطف أعاد زمن الخناقين، وأشهره كان بعد المائة هجرية، يومها ارتبط بإحدى الفُرق الدّينية. كان الخناقون «لا يسيرون إلاّ معاً، ولا يقيمون في الأمصار إلاّ كذلك، فإذا عزَم أهلُ دارٍ على خنْق إنسانٍ كانت العلامةُ بينهم الضَّرب على دُفٍّ أوْ طبلٍ، على ما يكون في دوُر النَّاس، وعندهم كلابٌ مرتَبطة، فإذا تجاوَبُوا بالعزْف ليختفي الصَّوت ضربوا تلك الكِلاب فنبحَتْ، وربّما كان منهم معلِّم يؤدّب في الدّرب، فإذا سمع تلك الأصوات أمَرَ الصِّبيانَ برفع الهجاء والقِراءة والحساب» (الجاحظ، كتاب الحيوان).
غير أن خناقي ذلك الزَّمان كانوا مطاردين، يمارسون فعلهم بالخفاء والحيّلة، ويعاقبون بالصَّلب والقتل، لكنَّ خناقي زماننا معلنون متنفذون، يسلحون ويدربون لهذه المهمة، فخناق «إنانا» أُلقي القبض عليه وأُطلق سراحه، والتحقَّ بجماعته المسلحة وقتل في ما بعد، وصار له راتب شهيد، لأنه مارس الخطف المقدس، وما زال خاطف أو خناق صَبا يُهدد مصائر الآخرين مِن المتظاهرين، ويخيف الأسر مِن اشتراك بناتها في تظاهرة أو إسعاف جريح.
أتدرون أن أحد قادة الخناقين، مِن المعممين، ظهر وصرح علانيَّة، أنهم خطفوا فلانة وفلاناً، لتأديبهم، وليس هناك مَن سأله عن هذا الجُرم؟! فما المانع مِن اعتباره خنقاً أو خطفاً مقدساً، مارسه مقدسون، دفاعاً عن «المال المقدس» و«السُّلطة المقدسة» و«المقاومة المقدسة» أيضاً.
*كاتب عراقي
الكاتب
رشيد الخيّون

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here