تضامنوا مع الشعب العراقي في إنتفاضته الكبرى

أنتفض الشعب العراقي مرة أخرى، بعد الإنتفاضات التي حدثت في الأعوام 2011 و2014 و2015 و2018، وعمت المظاهرات كل من بغداد ومحافظات الوسط والجنوب، مطالباً الفئات الحاكمة بتحسين ظروفه المعيشية وتوفير فرص العمل له. فبعد مرور 16 عاماً على الغزو الأمريكي وسقوط النظام الدكتاتوري السابق، لم يحدث على كافة المستويات اي تغيير أو اصلاح، بل على العكس، فعلى سبيل المثال أصبحت المياه الصالحة للشرب غير متوفرة لقطاعات واسعة من أبناء الشعب. اما الخدمات الصحية فتكاد تكون معدومة. في نفس الوقت تفشت البطالة بشكل رهيب وبالأخص بين الشباب، فصار أكثر من 50% من الشباب عاطلاً عن العمل. أما البطالة بين النساء فتزيد عن 85% . هذا في بلد ينتج أكثر من أربعة ملايين برميل من النفط يومياً وتصل عائداته الى 100 مليار دولار سنوياً. في الوقت ذاته يزداد ثراء الفئة الحاكمة بشكل لا مثيل له في العالم، نتيجة تفشي الفساد الإداري وسرقة المال العام بشكل علني ومنظم.

والملفت للنظر ان هناك فارقاً بين هذه الإنتفاضة وغيرها من الإنتفاضات السابقة من ناحية شكل الحراك، الذي اتسم بالاستقلالية، والاعداد الهائلة للمشاركين والمشاركات، وحالة رفض المتظاهرين للأحزاب المشاركة بالعملية السياسية واصرارهم بأي ثمن على تحقيق مطالبهم الاجتماعية والسياسية بما فيه التغيير الجذري للنظام السياسي في العراق.

وبدلاً من أن تستجيب الفئات الحاكمة الى المطالب المحقة للمتظاهرين، وجهت الرصاص عليهم، حيث سقط منذ إنطلاق المظاهرات السلمية في مطلع شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2019 أكثر من 300 شهيد وآلاف الجرحى. فيما تم اختطاف المئات من المواطنين من بينهم نساء. وجرى إعتقال الآلاف دون أي مصوغ قانوني، ولا يعرف مصير الغالبية منهم لحد الآن.

لقد أدت التصرفات غير المسؤولة للحكومة الى رفع سقف مطالب الجماهير، وأصبحت لا تكتفي ببعض الإصلاحات الترقيعية، إنما صار مطلبها الآني إلغاء النظام الطائفي بالكامل واحلال مبدأ المواطنة محله في دولة ديمقراطية مدنية دون وصاية أجنبية، أي كان شكلها. واشتد اصرار الجماهير برفع شعارات ذات دلالات موضوعية أهمها شعار اسقاط الحكومة وصياغة دستور جديد واستبدال كافة اللجان والهيئات غير الفاعلة كالهيئة العليا للانتخابات ولجنة النزاهة. وبهذا تحولت المظاهرات المطلبية الى ثورة تحررية.

إن رد فعل الفئات الحاكمة لمواجهة المتظاهرين بالقوة المفرطة لم يكن غير متوقع، فالنظام الطائفي القائم على اساس المحاصصة السياسية ـ التوافقية، الذي أقره الحاكم الأمريكي بريمر أساساً للحكم، هو صمام الامان لبقائها في السلطة والاستئثار بالغنائم والامتيازات. ومما يثير الريبة والقلق لدى المجتمع العراقي، ارتباط قسم كبير من الفئات الحاكمة بإيران أو بالولايات المتحدة الأمريكية. واستغلالها الحرب ضد تنظيم داعش التكفيري لاجل تكوين مليشيات مسلحة مرتبطة بها أو بإيران مباشرة، والتي تدين للمرشد الأعلى الإيراني خامنئي بالولاء وليس للدولة العراقية. وباتت دماء الضحايا في ساحات التظاهر تكشف الدور الحقيقي للتدخل الإيراني في شؤون بلد ذو سيادة. فتصريحات خامنئي الاخيرة بان إنتفاضة الشعب العراقي هي “مؤامرة أمريكية إسرائيلية”، وما نتج عن إجتماعات قاسم سليماني مع أصحاب القرار ومسؤولي المؤسسات الامنية في بغداد خلال المظاهرات ومنعه كما ذكرت وسائل الإعلام، عادل عبد المهدي من الإستقالة، الا دليل واضح على تأثير ايران على القرار السياسي العراقي. الامر الذي جعل

المتظاهرين يعبرون عن غضبهم للتدخل السافر في شؤون بلدهم والقيام بمحاصرة القنصلية الإيرانية في كربلاء ومحاولة الزحف على السفارة الإيرانية في بغداد.

ومن أجل التستر على الأسباب الحقيقية للإنتفاضة لجأت السلطة الحاكمة في العراق وعرابتها إيران الى إستخدام نظرية المؤامرة وإتهمتها بالتبعية، وكأن الملايين التي تخرج الى الشوارع تنصاع الى تعليمات قوى أجنبية، وإنها عبارة عن قطيع مغسول الدماغ فاقد الإرادة، في حين انها، اي الجماهير، قد اعطت مثلا رائعا في كيفية ادارة الحراك بوعي يعبر عن نضج سياسي وفكري غير مسبوق عما يجري على الساحة العراقية. وإستطاعت أن تطرح برنامجاً للتغيير الجذري وأن تفوت الفرصة على من أراد ركوب الموجة من داخل النظام. كما ان موقفها الثابت قد جعل المرجعية الشيعية ان تكون اكثر جرأة للتعبير عن رفضها التدخل الاجنبي بالشأن العراقي، ومن ناحية اخرى تمكنت من تحييد بعض الأطراف من داخل النظام.. كما ان الشعب العراقي يدرك تماما الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في تنصيب الفئة الحاكمة في العراق وكتابة الدستور وتأسيس نظام طائفي. لهذا فهو يرفض أي تدخل أجنبي من اي جهة كانت.

لقد فضحت التظاهرات الاخيرة من موقع الحدث كل اشكال الخداع والمراوغة التي تمارسها الفئات الحاكمة بشكل ممنهج ومكشوف بالدليل القاطع. مما تبيّن ان الحراك على تعدد مظاهره قد خلق حالة من الوعي الجديد لدى المجتمع لا يمكن للفئات المتسلطة التغلب عليها بإستعمال القوة أو ورقة الطائفية وشق وحدة الصف الوطني للشعب العراقي.

إننا في الوقت الذي نعلن فيه عن شجبنا واستنكارنا للعنف المفرط، الذي تمارسه قوى الأمن والمليشيات المسلحة ضد المتظاهرين، ونطالب بمحاسبة من تلطخت أيديهم بدماء المتظاهرين وتقديمهم الى القضاء لينالوا العقاب القانوني، نؤكد بأن حق التظاهر حق مشروع. وندعم، كما كان موقفنا دائماُ، مطالب المنتفضين في التغيير الجذري لنظام الحكم وصياغة دستور جديد يعتمد مبدأ المواطنة وإنهاء نظام المحاصصة الطائفية والقومية وإلغاء الميليشيات وحصر السلاح بيد الدولة ووضع اللبنة الأساس لبناء عراق ديمقراطي ومجتمع مدني يسوده العدل ويضمن حقوق المواطنين وأمن البلاد.

نحو عراق جديد – ألمانيا

الثامن من تشرين الثاني 2019

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here