قانون التقاعد الجديد والمساس بحقوق أساتذة الجامعات

تسود في الأوساط الجامعية منذ أيام حالات من القلق والترقب وتصاحبها العديد من التساؤلات حول ما تم تداوله من مناقشات في جلسة مجلس النواب بتاريخ 9 / 11 / 2019 التي تمت بها القراءة الثانية لمشروع تعديل قانون التقاعد الموحد رقم 9 لسنة 2014 والمقدم من قبل مجلس الوزراء كأحد أدوات الإصلاح التي يعول عليها لتهدئة الشارع العراقي وتلبية جزءا من مطالب التظاهرات ، والتعديل هدفه توفير فرص العمل للعاطلين بإحلالهم محل الموظفين الذين ستتم إحالتهم إلى التقاعد من خلال تقليل سن الإحالة للتقاعد وتحفيز الموظفين للإحالة المبكرة إلى التقاعد بتوفير الحدود المعقولة لوسائل العيش الآمن والكريم لهم باعتبارهم مواطنين عراقيين ، وأسباب حالات القلق التي اشرنا لها إن الجامعين يتوقعون من مجلس النواب أن يكون أكثر إنصافا لهم من الحكومة لأنهم من يتولون تعليم أبنائهم وإخوانهم وأبناء جلدتهم من العراقيين بمختلف الاختصاصات فنظرة التشريعي يفترض أن تكون أعمق واشمل من نظرة التنفيذي، والجامعيون يجدون إن أجواء التظاهرات من شانها أن توفر بيئة أكثر حكمة في التشريع من خلال إنصافهم وإعادة الاعتبار لهم لأنهم عانوا من بعض الإهمال كونهم يمتلكون ألأدوات في تحريك وتوجيه طلبتهم في كيفية إتباع الأسس الدستورية والشرعية في التظاهر والتفاوض والتعبير عن المظلومية والسبل الممكنة لإعادة الحقوق ، فالجامعيون يتولون مهمات تتعلق بتدريس وتوجيه وصقل شريحة مهمة من المجتمع وهم طلبة الجامعات في الدراستين الأولية والعليا ، ومن الممكن أن يلعبوا أدوارا في تحديد مسارات وأشكال الاحتجاجات لما لهم من تأثير حسي وفكري وعقلي على الطلبة الذين يميلون في اغلب الاحيان لاحترام فئة الجامعيين لأنهم أول من يتولى شؤونهم في مرحلة الانتقال من التعليم الثانوي النمطي إلى التعليم الجامعي الذي يحتوي على هامش من التنوع واحترام الحريات ورعاية الإبداع والتركيز على بناء الشخصية والإسهام في بلوغ ألأهداف المستقبلية للطالب الجامعي .

لقد توقع الجامعيون أن يتفهم مجلس النواب دورهم الذي يمكن تأديته في تقديم المشورة في تحديد أسباب وتداعيات الاحتجاجات ووسائل استثمار مطالب المتظاهرين في تحويلهم إلى قوة فاعلة في تعزيز المواطنة والولاء وإيجاد الوسائل الممكنة وما يمكن إضافته لتحويل الطاقات العاطلة إلى منتجة وتصب في مصلحة البلاد ، ولكنهم تفاجئوا بتحويلهم إلى جزء من المشكلة بدلا أن يسهموا في الحلول ، فمشروع القانون حدد عمر 60 عاما لإحالة الموظفين إلى التقاعد واستثنى من هذا التحديد القضاة والأطباء الاختصاصيين وحملة ألقاب أستاذ وأستاذ مساعد ، وكانت هذه الإشارة كافية لكي يستثمر مجلس النواب جهوده في المضي قدما لإقرار المواد الأخرى التي أرسلت في مشروع التعديل للتسريع في إصداره ولكن الكثير تعرض لحالة من الإحباط بسبب ما تمت مناقشته بخصوص حرمان الجامعيين من النصوص الواردة في قانون التقاعد الحالي حول احتساب الراتب التقاعدي لموظف الخدمة الجامعية والتي وردت في القانون 23 لسنة 2008 والتي أدرجت في المادة 38 من قانون التقاعد الموحد ( رقم 9 لسنة 2014 ) حيث تم اقتراح أن يعامل موظفي الخدمة الجامعية معاملة بقية موظفي الدولة عند احتساب راتبهم التقاعدي وان يبدأ تطبيق ذلك من 1/ 1/ 2014 على المتقاعدين السابقين ومن ستتم إحالتهم إلى التقاعد ، وهناك من يعتقد إن في ذلك تجني كبير على حقوق موظفي الخدمة الجامعية ومن جوانب عديدة أبرزها :

_ إن موظفي الخدمة الجامعية ليسوا كبقية الموظفين لان لهم قوانين ( خاصة ) تتولى أمورهم سواء القانون 23 لسنة 2008 الذي اشرنا إليه او قانون وزارة التعليم العالي رقم 40 لسنة 1988 المعدل ، وان ما يثير التساؤل هو لماذا التحرش بالرواتب التقاعدية للجامعيين وهي مادة لم تدرج في مشروع القانون المقدم من مجلس الوزراء ولماذا لم يتم التطرق للرواتب التقاعدية لبقية الاستثناءات الواردة في نفس المادة المقترح تعديلها كالقضاة وأصحاب الدرجات الخاصة وممن منحوا حقوق تقاعدية بلا استحقاق .

_ إن المبدأ العام في العدالة والإنصاف هو إضافة امتيازات جديدة للمتقاعدين المحالين قبل نفاذ أي قانون لمواكبة الاحتياجات التي نشأت وتعويض النقص في القدرات الشرائية بسبب التضخم والتقدم في العمر وليس سلب جزءا من استحقاقات المتقاعدين السابقين لأنهم اكتسبوها بالقوانين السائدة في حينها دون أي تلاعب او تجاوز على المال العام ، كما انه من غير المروءة والشجاعة أن تسلب حقوقا شرعية من المتقاعدين السابقين بتقليل رواتبهم لأنهم تعايشوا مع مدخولاتهم الحالية وليست لديهم أية وسائل لتعويض ما سيتم خصمه منهم بإصدار تشريع جديد تحت تسمية الإصلاح او غيره لأنه سيعني من الناحية العملية تعريضهم للحرمان .

_ إن الجامعيين يخسرون الكثير من المدخولات التي كانوا يتقاضونها في الخدمة عند إحالتهم إلى التقاعد بموجب التشريعات السائدة اليوم ، فالراتب التقاعدي يحسب بنسبة 80% من معدل ال36 راتب الأخيرة ( وهنا يخسر فرق معدل الرواتب عن الراتب الأخير ونسبة 20% من الراتب حتى وان كانت خدمته 40 سنة فأكثر ) مضافا إليه كل ما يزيد عن 200% على راتب ال80% من المخصصات التي يتقاضونها أثناء الخدمة ( وهنا يخسر الكثير من المخصصات فإذا كان بدرجة أستاذ وحامل الدكتوراه ويعمل رئيس قسم فانه مخصصاته بالخدمة 275% وفي التقاعد 200% تحسب من معدل الراتب المحسوب على أساس 80% وليس 100% ) واغلب التدريسيين المتقاعدين يخسرون ما لايقل عن ثلث رواتبهم قبل الإحالة للتقاعد ويضاف لذلك كله إنهم فقدوا جزءا من رواتبهم ومخصصاتهم عندما طبق العبادي التقشف عام 2005 .

_ في حالة مساواة الراتب التقاعدي للجامعيين مع رواتب بقية الموظفين فان ذلك سيحولهم إلى موظفين ، بمعنى إن الجامعات ستعاني من فراغات من حملة الألقاب العلمية سواء فعليا او في السلوك الوظيفي لان امتيازاتهم تحجب عند الإحالة للتقاعد ، وان في ذلك إخلال بمسيرة وفعاليات التعليم العالي وليس إصلاحا بأي شكل من الإشكال حيث إن هذا الإجراء يشجع على الهجرة للخارج والعزوف عن العمل بالوظائف التعليمية لما تتطلب من مسؤوليات وأعباء ، والأكثر من ذلك إن القضية اعتبارية وليست شكلية او تتعلق بالمردود المادي فحسب لان من الخطر المحتمل أن يعمل الأستاذ الجامعي وهو يشعر بالحيف او الغبن .

_ من المبادئ والبديهيات الدارجة والمتعارف عليها في اغلب البلدان إن السلطات التشريعية هي الحاضنة والراعية للعلماء والمختصين ببناء الأجيال والحضارات وهذه السلطات تتصارع او تتنافس مع الجهات التنفيذية للحفاظ على ديمومة وإبداع أساتذة الجامعات والعلماء وغيرهم ، فلماذا نسمح بطرح أفكار تغاير ما هو سائد ودارج عالميا عندما تقترح الحكومة الإبقاء على حقوق الجامعيين ثم تصدر دعوات من مجلس النواب لحجب هذه الحقوق في وقت يتطلب الموقف الإضافة عليها لكي تترك بصمة ( تتذكرها الأجيال ) للسلطة التشريعية بمساندة العلماء .

_ إن تخفيض اعمار الإحالة الإلزامية إلى التقاعد لحملة الألقاب العلمية في التعليم العالي بجعلها 60 سنة لحملة ( مدرس مساعد ، مدرس ) و63 سنة لحملة ( أستاذ مساعد ، أستاذ ) وإخضاع مسالة تمديد الخدمة بسبب العمر لرئيس الوزراء بشروط صعبة وبيروقراطيات يريح الموظف الجامعي ولكنه يتسبب بخسائر كبيرة ببلدنا وفراغات ، فنحن حاليا دولة ريعية ( اقل من نامية ) ونحتاج إلى خبرات ومهارات ومعارف وقدرات للنهوض من جديد عند توافر العوامل اللازمة للنهوض وإذا تم ألاستغناء عن تلك الملاكات كمتقاعدين فمن سيتولى حمل شرف المسؤولية القادمة ، وهذه الحقيقة كان من الواجب إدراكها من قبل مجلس النواب لان نظرته المستقبلية أكثر بعدا من السلطة التنفيذية التي غالبا ما تنشغل بتسيير أمور الحياة .

_ هناك من يستغرب عن دوافع هذه الحماسة في انتزاع الحقوق الشرعية لأساتذة الجامعات التي اكتسبوها بالاستحقاق وليس من خلال التزوير او الفساد وهم من حملة الشهادات العليا ممن حصلوا على معدلات عالية وتفوقوا على اقرأنهم ويقدمون أغلى التضحيات يوميا في التدريس والتدريب والبحث وتقديم الاستشارات وقضاء 30 ساعة أسبوعيا على الأقل في مؤسساتهم والاستحواذ على الأوقات المخصصة لراحتهم ولعوائلهم في القراءة وتجديد المعلومات وتهيئة الدروس وأسئلة الامتحانات وغيرها من الفعاليات ، في وقت لم تطرح تشريعات او تتخذ إجراءات بنفس السرعة او الإيقاع لإعادة الأموال وإصدار أحكام قضائية بحق الفاسدين والسارقين ومنتهكي القانون الذين اشبعوا البلاد فسادا وتسببوا بكل البؤس الذي أدى إلى ظهور الاحتجاجات كما إن الاصلاحات الأخرى التي وعد بها ذوي الشأن لم تبصر النور وراحت تتكرر دعوى تنفيذها بوضوح في خطب المرجعية الشريفة كل يوم جمعة .

وان ما ذكرناه في أعلاه يمثل عينات لمئات التساؤلات والمخاوف والآراء والتعليقات التي اطلعنا عليها بوسائل التواصل الاجتماعي التي اهتمت بهذا الموضوع ، ونحن على يقين بان مجلس النواب بتشكيلته الحالية يضم مجموعة من الأعضاء الذين امضوا سنوات في التعليم الجامعي ويتفهمون ما يشعر به زملائهم ومنهم نسبة كبيرة ممن تتلمذوا في المعاهد والكليات ولا يتنكرون لأفضال أساتذة الجامعات ، كما إن هناك أعضاء يتمتعون بحنكة وتفهم للواقع الذي يجب أن يكون عليه الوضع المعيشي والاجتماعي والاعتباري لأساتذة الجامعات ، فالجميع لا يقبل العودة للخلف بان يضطر الأستاذ الجامعي للعمل كسائق لسيارة ألأجرة او بإعمال ( متدنية ) لتدبر لقمة العيش كما كان يحصل في السنوات العجاف لحكم النظام البائد ، وان من الحكمة والعقل والموضوعية والإنصاف السعي لعدم المساس بالتشريعات السارية بخصوص الموظفين الجامعيين وإبقائها على حالها في الوقت الحالي لان مشروع التعديل لم يتطرق لها ، وان يترك تطويرها وتعديلها لما بعد تجاوز الظرف الذي يمر به بلدنا العزيز في التجاوب الممكن والطموح مع المطالب المشروعة للمتظاهرين ، وكما ذكرنا في المقدمة فان أساتذة الجامعات يمكن كسبهم كعنصر ايجابي في الحلول ( قبل اضطرارهم للانضمام كجزء من ساحات التظاهر) ، أما إلغاء حقوقهم والانتقاص من متطلبات معيشتهم ( المنقوصة في الأساس ) فانه قد يطور الحالة او يعقدها ، ولا يعني ذلك التلميح بأية مساومة او ابتزاز قط وإنما هي الدعوة للتذكير بطبيعة وتكوين طبقة الجامعيين حيث يسعى اغلبهم لان يكونوا رسلا للعلم والمحبة والتعايش المتوازن بما يحمي البلاد ، وهو واحد من أسرار تمسكهم في البقاء بالعراق رغم ما تقدم لبعضهم من عروض مغرية للمغادرة والهجرة لخارج البلاد ، ونعتقد بان اللجان المعنية بمجلس النواب قادرة على تلقي الإشارات بهذا الخصوص فهي تمتلك الحلول بإجراء الموازنة العادلة بين الحقوق والواجبات بما يقلل من الشعور بالمظلومية والتجاهل لواقع التدريسيين الذين لا يجيدون التجارة والمضاربة بغير العلم ، وستبقى الأمنيات قائمة بان يكون العراقيين من أساتذة الجامعات بمختلف الألقاب والاختصاصات عنصرا فاعلا ومهما في التأثير الايجابي بالمتظاهرين ومن يمتلكون القرارات لصياغة حلول تجنب بلدنا مزيدا من الحسرة والفقدان ، وما يتمناه المخلصون أن يتم التعويل على الخيرين والشرفاء بما فيها نقابة الأكاديميين العراقيين وغيرها من المنظمات التي اكتسبت شرعيتها بموجب القوانين في ولوج ما يستحقونه بموجب السياقات العقلانية بهذا الخصوص بما يقلل التوتر والمعاناة ، ولا تنسوا إن استقطاع اجزاءا من حقوق الجامعيين والأكاديميين لا يحل مشكلات البلاد لأنهم ليسوا من حيتان الفساد وما يتقاضوه ليس من السحت او المحرمات .

باسل عباس خضير

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here