للحرية كلمة – 5 من بيروت الى بغداد ثورة شبابية على الطائفية والفساد

يعبر الشاعر الاسباني المغدور”فريدركو غارثيا لوركا” في قصيدة رمزية عن زخم الثورة قائلاً:

نحيب القيثار يبتدأ

اقداح الفجر تتشضى

ونحيب القيثاريتواصل

وليس هناك ما سيسكت نحيب القيثار

الحياة حالة متجددة لا تقبل السكون، حقيقة ازلية تتمثل في حركتها الدائمة ، فهي”Dynamic” دائمة الحركة وان كانت في بعض الاحيان قد تبدو ساكنة لعقود او حتى قرون، لكنها في الوقع تخزن شحنتها الطبيعية كي تنفجر دفعة واحدة في محصلة متدافعة الى الامام، وتلك حقيقة علمية لا تقبل الشك او التأويل. وهذا ما يحدث في عالم اليوم ونحن نمر في طور الاستحالة المدهشة التي تسارعت من القرن العشرين الى القرن الواحد والعشرين. لم يبقى بلدٌ في عالم اليوم يعيش في جزيرة منعزلة لا تتأثر بما يجري من حولها من احداث، ومن يحاول ان يتجاهل هذه الحقيقة ستلفظه عجلة الزمن الى هامش الاهمال والتقهقر.

قي العقد الاخير من القرن الماضي وقعت احداث محورية غيرت الثوابت النمطية التي سادت العالم لعقود متتالية. ففي تشرين الثاني من عام 1989 وبقرار من شباب ثائر، غير “مؤدلج” اندفعت جموعه الهادرة فيما كان يعرف بالمانيا الشرقية نحو الجدار الاسمنتي العازل بين الالمانيتين فحولوه الى انقاض تتقاذفها الايدي وتركلها الاقدام. وهذا يعني ان مايقرب من نصف قرن من الزمن اعتمدت فيه السلطات الحاكمة على القوة والتلقين والادعاء وتكرار المقولات الفارغة عن الخطر المحدق عجزت فيه تلك السطات في ذلك المساءعن كبح جماح الجيل الذي رفض الخضوع للموروث “المقدس” الذي بلعت طعمه الاجيال التي سبقته. كل ما يحتاجه الزخم الشعبي الشبابي ليصل مرحلة الغليان الفاعل هو ادراكه بان قيود ما يعرف بالعقائد الثابته، فكرية كانت ام دينية لا يمكن ان تكون بديلاً لحرية الانطلاق نحو المستقبل.

وفي 1991 بداية العقد الاخير من القرن الماضي ادرك القادة السوفيت بان شعوب العالم ومن ضمنها الشعوب التي كانت منضوية تحت سلطتهم لم تعد مستعدة للاستمرار بالجلوس تحت قبة الستار الحديدي التي اسستها حقبة القمع الستاليني الغابرة. وبهذا اعلنوا نهاية الاتحاد السوفيتي السابق لتنتهي معه حقبة الحرب الباردة وصراع القطبين التي انعكست على علاقات الدول في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ولغاية ذلك التاريخ. وكنتيجة لهذا الحدث انفرطت منظومة ما كان يعرف بحلف “وارسو”، وتلاشت الى حدٍ كبير اهمية الحلف المضاد، حلف “النيتو” او “شمال الاطلسي”. ودخل المجتمع الانساني مرحلة جديدة غير مسبوقة في تاريخه المعاصر تحولت فيه معظم دول اوربا الشرقية الى النظام الديمقراطي اللبرالي بعملية هادئة سلسة، وانحسرت سطوة “الادلجة” العقادية التي كانت تتبناها التنظيمات السياسية لكسب جمهورها، وحل اقتصاد السوق محل النظريات الاشتراكية والرأسمالية واصبحت النظرية الماركسية وملحقاتها في التنظير الاشتراكي، ونظريات “كَنز” و “ادم سمث” في التنظير الرأسمالي مواضيع اكاديمية لا توظف لادارة شؤن الحياة اليومية المعاصرة.وتراجع الدين في معظم اقطار اوربا الى دور العبادة ولم يعد يتدخل في حياة البشر اليومية. واعتمدت الاحزاب السياسية بيانات منهجية واضحة لاهداف واقعية أو ما يعرف في لغة السياسة بالـ “Manifesto” تلتزم بالسعي لتحقيقها ضمن فترة زمنية معلومة وهي عادة فترة ما بين الدورات الانتخابية. وفي ضوء تلك البيانات ومدى الالتزام بتحقيقها يحاسبها جمهورها واعضائها ومؤيديها على السواء. وتلتزم تلك الاحزاب بانظمة داخلية ومؤتمرات موسمية وسنوية تحاسب فيها قياداتها فتطرح منها العناصر الفاشلة وتطعمها بعناصر متمكنة قادرة على ابقاء الحزب حياً متجدداً متفاعلاً مع اسباب الحياة.

ورافق هذا التطورالسياسي الاجتماعي ثورة التقنية في التواصل والفضاء وعلم “الجينم” المدهش. وصارت المعلومات المتجددة تنتقل بسرعة البرق من قارة الى قارة ومن عاصمة الى عاصمة. ولم تخلو هذه الظاهرة من بعض السلبيات حيث ادلى بعض المخربين بدلوهم فجعلوا من انقسهم وكالات انباء كاذبة وروجوا لاساطيرهم وخرافاتهم الباليةالا ان قوة الحقيقة بقيت هي الناصعة رغم ما أُثير حولها من عبار. واصبحت السياسة كتاباً مفتوحاً امام الجميع، ولم تعد حكراً على النخب المتسيدة. ولم تقتصر هذه التطورات على عالم السياسة فقد فتحت “الانترنيت” ابواب المعرفة فوفرت للمتطلع المكتبات الرقمية بما فيها من آلاف الكتب والموسوعات العلمية والتاريخية والادبية، وبهذا اصبح التواصل سمة العصر، تيار جامح لا يمكن صده. الا ان قوى التخلف في المجتمعات الراكدة لم تتوافق مع هذة التطورات السريعة، لذا شحذت سيوفها الصدئة

ولملمت تجمعاتها المتنافرة في تكتلات مصلحية هي اقرب الى الكانتونات منها الى الاحزاب، بدعوى انها تمثل مكونات معروفة.

لذلك ابتأس كثيرا عندما تسمى “الكانتونات” المتحاصصة على السلطة في العراق ولبنان بالاحزاب. انها في غالبها عبارة عن كانتونات نفعية هي اقرب في تكوينها الى زعامات عشائرالهنود الحمر منها الى احزاب سياسية بما يحمله مصطلح حزب سياسي في قاموس الشعوب المعاصر.

استغلت هذه الزعامات الطائفية والمذهبية الفراغ السياسي الذي خلفه الاحتلال في العراق والصراعات والاحترابات الداخلية التي فُرضت على لبنان لتُغيّب مفهوم المواطنة وتفرض مفهوم “المكونات” بديلاً مضارباً لها وكان بلدان لعالم التي سادت فيها الديمقراطية اللبرالية تتكون من عنصر قومي واحد وديانة واحدة ومذهب واحد. ففي الهند، على سبيل المثال هناك 180 ديانة معترف بها رسمياً لكن الدولة تتعامل مع مفهوم المواطنة ولا تتعامل مع المكونات المتعددة، ويقطن الولايات المتحدة الامريكية شعب تتعدد لغاته ودياناته واعراقه بعدد شعوب العالم لكن الدولة الامريكية التي تسمي شعبها بالـ “القدر المتجانس” ((melting pot تتعامل مع مواطنيها وفق قانون واحد ودستور واحد.

ورغم ان المادة 14 من الدستور العراقي تنص على ان العراقين متساوون أمام القانون دون تمييزٍ بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي، الا ان المحابات الطائفية والعرقية ادت الى انفصام خطير بين المواطن وبين اؤلاءك المتسلطين على ادارة شؤنه العامة.

والحالة مشابهة الى حد بعيد في لبنان. فالمادة 7 من الدستور اللبناني المعدل تنص على ان كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمعتون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم.

وللتحايل على هذه النصوص الدستورية تشكل ما يعرف ما يعرف بـ “تحالف الاضداد” فليس في دستور جمهورية العراق، على سبيل المثال، رغم ما فيه من مثالب والغام، ما يقول ان رئيس الجمهورية يجب ان يكون كردياً ورئيس الوزراء شيعياً ورئيس البرلمان سنياً. لكن تحالف الاضداد ثبيت هذا الواقع وفرضه على الشعب كعرف ثابت. وتحالف الاضداد هذا هو الكارثة التي اسست للفساد والرشوة وتعطيل القضاء وايقاف التنمية وسرقة الاموال المخصصة لمشاريع البنية التحتية. هذه المحاصصة المتخلفة حرفت الهيئات الرسمية في الدولة عن مهامها المطلوبة وحولتها الى حوانيت جباية ونوادي سمسرة مهمتها الاثراء الشخصي وتوزيع مناصب الدولة على مريديها من خلال الكذب والتزوير دون مراعات للكفاءات او لسلامة السيرة الشخصية.

السيدعبد الباسط تركي، مدير عام سابق في البكَ العراقي المركزي يخرج على الملأ في ندوة متلفزة ليتحث عن عدد معلوم من المصارف الاهلية المسجلة برعاية عناصر السلطة، عملها اليومي هو تهريب الملايين من العملة الصعبة من العراق لقاء “ستميات” كاذبة ووصولات استيراد مزورة باسم شركات وهمية. هل عرف التاريخ حكومة تسرق وتهرب اموال شعبها؟ ويؤكد السيد عبد الباسط انه قدم هذه المعلومات للقضاء دون ان يحرك القضاء ساكناً لماذا؟ لان القضاء في العراق اصبح جزء من منظومة تحالف الاضداد الفاسدة.

اصبحت الوظائف النفعية والمقاعد النيابية تباع وتُشترى في سوق النخاسة علناً ودون اي روادع قانونية او اخلاقية. اصبح توزيع الهبات والعقارات الاميرية واملاك الغائبين على افراد ومريدي المتحالفين المتحاصصين دون حساب. كما وضعوا في دوائر الدولة لجان متخصصة لجباية الاموال عن طريق الابنزاز والرشوة علناً بدون روادع. شكلو لجان وزارية ثلاثية من جهة واحدة تصدر بيانات بدون اسماء قي تحدي واضح للتعليمات الادارية تلغي فيها حقوق مناضلين واستحقاقاتهم في التقاعد والفصل السياسي بعد ان ثبتت محاكم قضائية استحقاقاتهم لتلك الحقوق، هذا في الوقت التي اخذت تلك اللجان تغدق الاموال الطائلة على المقربين دون تقنين او تدقبق.

فصلوا قانون الانتخابات وفق مقاساتهم وعززوها بالتزوير واحداث الحرائق المقصودة كي يوفروا لازلامهم فرصة التلاعب بصناديق الاقتراع دون روادع قانونية او قضائية. ومع ذلك فقد ظهر واضحاً في الانتخابات الاخيرة في العراق ان هناك عزوفاً شعبياً عن المشاركة الجماهيرية في تلك الانتخابات اذ لم تتجاوز نسبة العراقيين الذين ادلوا باصواتهم الـ 20% من مجموع الناخبين المؤهلين للتصويت. هذا دليل على فقدان تقة الشعب بجدية ونزاهة تلك الانتخابات. اصبحت السرقة والرشوة والتزوير حقاق مألوفة يمارسها اصحاب السلطة دون خوف او حياء. واقع متدني فاق ما كان يحدث في جمهوريات الموز وادغال افريقيا المظلمة.

رئيس وزراء سابق يقف ليقول باعلى صوته، معتقداً انه اكتشف معادلة التوازن : – ان العراق يجب ان يحكمه الجميع. هذه هي حقيقتهم. يعتبرون الوظيفة العامة “حكم”. كتبتُ له رسالة مفتوحة ونشرتها في الصحافة العراقية ذكرته فيها بانه قضى 30 عاماً من عمره لاجئاً في دولة ديمقراطية تعتبر الوظيفة العامة خدمةً وليست حكم أردت بها ان اصحح مفاهمه المنغلقة لكني لم اسمع منه لا كلمة شكر ولا كلمة اعتراف، او ما يسمى باصول المراسلة ” acknowledgment”.

ان التجمعات الهلامية التي تمارس السلطة في العراق ولبنان المتكونة من تحالف الاضداد، رغم اختلاف التكوين السياسي والتضاريس، لم يدركوا بعد مسارات القرن الواحد والعشرين التي شبت عليها الاجيال المشرئبة نحو العدالة والحرية وسيبقون اسرى جشعهم ومدارسهم الملائية الغابرة. جيل الشباب الجديد له رؤى جديدة وقراءة مختلفة تحرك اليوم محتجاً ومتظاهراً من اجل حقوقه في الحياة، وسوف لن يزيده القمع ورصاص الغدر الا اصراراً على نيل تلك الحقوق. وسيكون حسابه مع السراق والقتلة دقيقاً وعسيراً.

نحيب القيثار قد ابتدأ وليس هناك ما سيُسكت نحيب القيثار.

ضرغام جواد كاظم

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here