بيان اقتصادي للعراق

الدكتور عامر كوركيس هرمز *
] ترجمة عن الإنكليزية – كتب في 7 نوفمبر 2019[

مقدمة
إن انتفاضة شباب العراق في أكتوبر 2019 هي تذكرة جديدة بحب العراقيين للحياة، وتفاؤل وأمل في الأفق لمستقبل أفضل، وإعادة بناء العراق بعد ستين عاماً من الدمار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والبيئي المستمر، من قبل الأنظمة المتعاقبة، على وجه الخصوص منذ عام 2003. هناك ضوء في أفق العراق يحول الظلام الناشئ عن البلوتوقراطية الثيوقراطية. من الواضح أن الانتفاضة تمهد الطريق إلى الحرية عبر الشهداء والدم والمعاناة والرغبة الجامحة لحياة أفضل لجميع العراقيين.
فعلياً، لقد احتوى الدين الدولة العراقية. لا يمكن لرئيس الدولة أو رئيس الوزراء في العراق اتخاذ قرار استراتيجي دون أن تتم المصادقة عليه أولاً من قبل السلطة الدينية و / أو الشخصيات الدينية البارزة. في خطابه في 7 أكتوبر 2019، بخصوص الانتفاضة، عرض الرئيس العراقي مرارًا وتكرارًا احترامه وتقديره للشخصيات الدينية، بسبب “توجيهها للدولة …” لم تعد حرفة الدولة في أيدي رئيس الدولة أو رئيس الحكومة. كل فكرة تقدمية، على سبيل المثال، المساواة بين الجنسين، والتعليم المختلط، والحداثة، والعلمانية، والديمقراطية الفاعلة قد تم انتقادها باعتبارها غير دينية، وغربية، وغير مناسبة للعراق. تذكرنا هذه الحالة في حكم العراق بأوائل حكام بلاد ما بين النهرين، باستثناء ملوك من أمثال سرجون الأكدي الذي فصل بنجاح الدولة عن الدين، خلال فترة حكمه.
يطالب الشباب العراقي، في انتفاضته، بوضوح وبصوت عالٍ وضع حد لهذه الحالة. كل من الزعماء الدينيين والطبقة السياسية متهمون بالإثراء المنظم المتفشي غير المشروع، والفساد، على حساب الفلاحين والعمال والفقراء والنساء والجماهير المسحوقة التي تعيش في فقر مدقع.
هناك ثلاثة أشياء يجب أن تحدث الآن في العراق:
1. تقبل الديمقراطية الفاعلة (وليس فقط الانتخابية) من قبل الغالبية العظمى من العراقيين، وهي السبيل إلى الأمام لإقامة نظام حكم ديمقراطي حقيقي، يديره الشعب العراقي؛
2. لقد حان الوقت لأن يكون لشباب العراق الصاعد قيادة سياسية وحكومة قوية بإرادة قوية وعزم على إجراء التغيير الأساسي وإحداثه: للتخلص من السحابة المظلمة التي تلحف العراق، والتطلع الى مستقبل أفضل من خلال مواجهة القبلية والثيوقراطية، وخلق اقتصاد قوي متنوع، والحفاظ على النسيج الاجتماعي الذي تمزق في العديد من مؤسسات الدولة، وإعادة الكياسة في العلاقات الاجتماعية، واحترام مساواة المرأة، وإعادة تنشيط المجتمع المدني، واستعادة البيئة المادية الخيرة، ومن بين أمور أخرى، جعل العراق دولة ذات سيادة حقيقية ترسي السلام والاستقرار داخل وخارج البلد؛
3. وعلى هذه القيادة، القائمة على تجمع سياسي ديمقراطي حقيقي، يجب أن تعمل على إرساء السلام والتنمية في العراق. يجب أن ترسخ الاستقرار والأمن وأن يكون لها بيان إيجابي واضح يستند إلى رؤية لنوع العراق الحديث والتقدمي الذي يرغبون في رؤيته في عام 2050، ويجب البدء على الفور بتنفيذ ذلك.
تحقيقًا لهذه الغاية، ما يجب إيقافه هو الانكسار الاجتماعي الذي يتم تنفيذه عمداً من أجل المصلحة الذاتية تحت عنوان الإيديولوجيات المشوهة، والادعاءات الكاذبة في “ممارسة الديمقراطية” والأسس الدينية. على القيادة الناشئة دعم رؤيتها لعام 2050 من خلال أهداف وسياسات واقعية وطويلة الأجل وأيضا قصيرة المدى وقائمة على الأدلة لتوحيد العراق بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والبيئي.
في مجال الاقتصاد
في وقت ما شهد العراق فترات متقطعة قصيرة من النمو الاقتصادي في الناتج المحلي الإجمالي على مدى السنوات الستين الماضية، لكن لم يكن هذا النمو شاملاً على الإطلاق. لم يشهد العراق أبدًا تطورًا اقتصاديًا تجاوز النمو الاقتصادي – ليس من الصعب ملاحظة أن نسبة عالية جدًا من الثروة الجديدة تتركز في أيدي النخب السياسية القليلة والأسر البارزة وقاعدتها الاجتماعية المباشرة، تاركةً الغالبية الشاسعة من العراقيين في حالة من اليأس لتوزيع أكثر إنصافا للدخل (بما في ذلك واردات النفط)، غالبية يائسة للبقاء على قيد الحياة، يعانون من نمط الاستهلاك الضعيف، وإنفاق معظم دخلهم الصغير المتاح على ضروريات الحياة، وبالتالي محرومون من المشاركة في العملية السياسية. لطالما كانت هذه سياسة متعمدة للأنظمة المتعاقبة في العراق، حيث تقوم بتحويل واردات النفط، بشكل أناني، لنفسها وليس للجماهير. لقد تركت القطاعات الإنتاجية للاقتصاد، مثل الصناعة والزراعة، تتقلص من حيث القيمة المضافة المطلقة والنسبية.
أصبح الاقتصاد غير النفطي في العراق الآن صغيراً للغاية ولا يمكنه استيعاب الخريجين من الجامعات أو مؤسسات التدريب المهني. باستثناء القطاع التجاري، يجد القطاع الخاص أنه من المستحيل فعليًا الاستثمار في مواجهة الإجراءات البيروقراطية والفساد المتفشي، مما يفرض تكلفة اقتصادية لا تطاق. يكاد يكون من المستحيل إيجاد مؤسسة في العراق اليوم تحترم الحكم الرشيد، وتلتزم بسيادة القانون، وتخضع للتنظيم السليم. ليس من غير المألوف في العراق أن يكون المشغل (operator) هو المنظم (regulator) في وقت واحد، أو أن يكون المتهم هو القاضي. وأخيراً وليس آخراً، على مدى السنوات العشر الماضية، كان البنك المركزي العراقي مؤيدًا نشطًا لجلب الدين بهدوء إلى جميع جوانب الاقتصاد. هذا مشروع سياسي وليس اقتصادي!
اليوم، الاقتصاد العراقي في حالة يرثى لها للأسباب التالية:
1. شكل قطاع النفط الخام 65 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من عام 2019، مرتفعًا من 52 في المائة في عام 2014 (بالأسعار الثابتة لعام 2007، انظر تقارير الدخل القومي المختلفة على موقع الجهاز المركزي للإحصاء cosit.gov.iq)؛
2. ساهم قطاع الزراعة بنسبة 1.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من عام 2019 (بانخفاض عن 4.12 في المائة في عام 2014)؛
3. ساهم التصنيع بنسبة 0.8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من عام 2019 (بانخفاض عن 1.2 في المائة في عام 2014)؛
4. شكلت صادرات النفط 99 في المائة من إجمالي الصادرات في عام 2018؛
5. باستثناء صادرات النفط، يعاني العراق من عجز تجاري مزمن؛ حيث أصبح استيراد السلع والخدمات طريقة سهلة لغسل الأموال، وفقط لكي تستثمر في الخارج. إن قطاع تجارة الجملة والتجزئة أكبر من قطاع الصناعات التحويلية بحوالي سبع مرات؛
6. الاقتصاد الموازي (السوق السوداء) في العراق منتشر، ويتجنب دفع الضرائب ولا يدرج في الناتج المحلي الإجمالي؛
7 – تبلغ مشاركة المرأة في سوق العمل 13 في المائة فقط، في الوقت الذي تشكل فيه المرأة نسبة 50 في المائة من السكان في سن العمل؛
8. يبلغ معدل البطالة حوالي 16٪ (و25٪ بين الشباب)؛
9. “القطاع” المتخم “للحكومة” أكبر بخمسة مرات من قطاع الزراعة وسبع مرات أكبر من قطاع الصناعة؛ و
10. 30٪ من العراقيين يعيشون في فقر مدقع.

كل ما سبق يمثل خصائص اقتصاد متخلف وريعي.
استراتيجية التنمية الاقتصادية ذات الأربعة محاور
ينبغي أن تنظر القيادة الجديدة للانتفاضة في العراق – ورئيس الوزراء الجديد في برنامج تنمية اقتصادية مدتها ثلاث سنوات، يتم وضعها في سياق استراتيجية شاملة ومتكاملة مع ميزانية واحدة وطنية مدتها ثلاث سنوات. يجب الموافقة على البرنامج والميزانية من قبل مجلس الوزراء الجديد والبرلمان الجديد. كما يجب تقديم مراجعة سنوية لكل منهما ومناقشتهما في البرلمان.
من الضروري أن تحل استراتيجية التنمية الاقتصادية ذات الأربعة محاور محل “خطة التنمية الوطنية” 2018-2022. وأن يتم تنفيذ الاستراتيجية من قبل مجلس الوزراء الجديد. على المدى القصير إلى المتوسط، ينبغي أن يتم تنفيذ العناصر التالية:
1. تطوير قطاع الصناعات التحويلية؛ هذه ضرورة مطلقة لتنويع الاقتصاد بعيدًا عن الاعتماد على النفط، مع زيادة التركيز على تلبية الطلب المحلي، وكذلك تطوير الصناعات الموجهة للتصدير، حيث يمكن للعراق تطوير ميزة نسبية في الأسواق المتنازع عليها خلال فترة زمنية قصيرة. على سبيل المثال، الصناعات البتروكيماوية والبلاستيك والأدوية والإسمنت والمعالجة الزراعية وما إلى ذلك؛
2. تنمية القطاع الزراعي، الأمر الذي يتطلب إدارة دقيقة للموارد المائية، وتنمية مهارات القوى العاملة وروابط أقوى مع التصنيع. إن تأمين أغذية بأسعار معقولة وذات جودة عالية للجماهير العراقية المنتجة بكفاءة أمر بالغ الأهمية. بدلاً من تقسيم غالبية الأراضي الزراعية إلى حيازات صغيرة، كما هو الحال في الوقت الحاضر، ستستفيد الاستراتيجية من إدخال “الشركات الزراعية” على نطاق واسع، وجني ثمار وفورات الحجم والاستثمار طويل الأجل؛
3. تطوير البنى التحتية المادية والاجتماعية. يعد بناء الطرق والجسور والمطارات والإسكان والمدارس والمستشفيات، وما إلى ذلك، مجالًا رئيسيًا لخلق وظائف بأجر جيد، والحد من البطالة، وتخفيف حدة الفقر، وكما هو الحال في القطاعات الأخرى، غرس أخلاقيات العمل المهني، والقضاء على الفساد والمحسوبية؛
4. العمل على إنشاء ممرات تنمية خارج المراكز الحضرية، لربط مختلف المحافظات بأراضيها الريفية، ووضع إستراتيجية موازية للإسكان، وبالتالي خلق مرونة في حركة العمالة ورأس المال في جميع أنحاء البلاد، مما يخفف الضغط على المراكز الحضرية الرئيسية، مثل بغداد والبصرة والموصل وإربيل.
يتطلب هذا وضع برنامج مفصل للعناصر الأربعة الرئيسية المذكورة أعلاه بالتشاور مع المنظمات الممثلة للقطاع الخاص، لإشراك القطاع الخاص منذ البداية في عملية التنمية. إن على الحكومة أن تلعب دوراً تمكينياً في تحفيز الاستثمار ضمن نظام منظم بشكل صارم، بناءً على سيادة القانون والحكم الرشيد ودراسة الجدوى الاجتماعية والاقتصادية القوية لكل مشروع استثماري رئيسي.
لا بد من تخصيص نسبة من عائدات النفط لعملية التنمية، وأن تزداد هذه النسبة تدريجياً، حيث يبدأ توسيع القطاعات الإنتاجية في استيعاب أعداد متزايدة من الموظفين، بمن فيهم الموظفون الحاليون في الحكومة والذين يجب نقل الكثير منهم الى القطاعات النامية الجديدة.
هناك حاجة ماسة الى إقامة روابط قوية بين استراتيجيات التعليم والتنمية الاقتصادية، من أجل إقامة توازن بين العرض من قطاع التعليم والطلب من القطاعات الاقتصادية لاحتياجات التوظيف.
على المدى القصير إلى المتوسط، على مدى السنوات السبع الأولى، على الحكومة الجديدة العمل لتحقيق ما يلي:
1. رفع مستوى العمالة؛
2. الحد من الفقر عن طريق خلق فرص عمل؛
3. رفع مستوى المهارات، وغرس أخلاقيات العمل المهني (professional work ethics)؛
4. خفض الدين العام؛
5. التعامل مع تجنب دفع الضرائب، وفرض ضريبة دخل متصاعدة تتناسب مع الدخل الفردي والارباح؛
6. مصادرة الممتلكات المكتسبة بشكل غير قانوني (سياسة من أين لك هذا)؛
7. زيادة عدد النساء العاملات؛
8. الاستثمار في الصناعة والزراعة، وتحفيز القطاع الخاص للقيام بذلك؛
9. الاستثمار في البنى التحتية المادية (الطرق والجسور والموانئ والسكك الخ..) والاجتماعية (التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية)؛
10. بدء برنامج قوي للاستثمار في الإنتاجية والبحث والتطوير وريادة الأعمال.
11. الحد من بطالة الشباب عن طريق التدريب وخلق فرص العمل؛ و
12. رسم وتنفيذ “استراتيجية صناعية” حديثة على المدى الطويل.

من الأهمية بمكان أن يكون لدى العراق، أولاً وقبل كل شيء، استراتيجية صناعية حديثة تدعم النمو والتنمية في كافة مفاصل الاقتصاد. من المهم أيضًا إجراء تغيير جوهري لمؤسسات الدولة / الحكومة لكي تعمل بطريقة منسقة ومتكاملة، خاصة في مجالات السياسات المالية والنقدية وسياسات العرض، لدعم نمو القطاع الخاص في طريقة منظمة بإحكام، تستند إلى حكم القانون.
لا يمكن تحقيق الأهداف المذكورة أعلاه لاقتصاد العراق دون بذل جهود كبيرة لمعالجة الجوانب المرتبطة بشكل لا ينفصم من حياة الشعب العراقي، لدعم الاستراتيجية الاقتصادية – وتشمل هذه الجوانب النسيج الاجتماعي / الثقافي والنظام السياسي والبيئي.
بخصوص النسيج الاجتماعي
إن المطلوب هو دعم قيادة الانتفاضة (بصيغتها الحالية) لإرساء السلام والتنمية في العراق من خلال الإصلاحات الاجتماعية وتعيين الموظفين المدنيين والوزراء وما إلى ذلك على أساس الجدارة، وتبني الاحتراف في السياسة والاقتصاد، والتخلي عن الممارسات الطائفية العرقية بشكل نهائي. يجب القضاء على التدهور الثقافي الذي يشهده العراق في مختلف جوانب الحياة، لفتح الأبواب أمام ازدهار الثقافة الحديثة.
منذ أكثر من ستين عامًا، شهد العراق مقتل المئات من أكاديميين وصحفيين وفنانين وكتاب ونشطاء مدنيين يدافعون عن “الحقيقة” في كشف الأخطاء والأفكار البغيضة وأعمال الأنظمة الشمولية والاستبدادية والدينية، التي كانت في السلطة بشكل فعال منذ عام 2004. على الرغم من أن الدستور العراقي لعام 2005 يضمن (على الورق) حرية الفكر والتجمع والكتابة والنشر، فإن أعمال القضاء الوحشي على “الآخر” هي ذات قائمة طويلة جدا للاستشهاد بها هنا. لقد أصبح العنف أسلوبًا لفرض “السلطة” وإظهار “الشرعية” لها.
عانت الثقافة في العراق كثيراً، خاصة منذ عام 2003؛ من أمثلة المعاناة الثقافية الهجمات المستمرة على التمدن والتي أصبحت أسوأ بكثير وضوحا مما كانت عليه في السنوات الأربعين ما قبل عام 2003. قبل عام 2003، شهد العراق انكماش الطبقة الوسطى المتعلمة، وهي المحرك الرئيسي للطلب الفعال في الاقتصاد. بعد عام 2003، شهد العراق انخفاضًا تدريجيًا في حجم الطبقة العاملة، والفلاحين على أيدي الزعماء القبليين، وصعود “الطبقات الاجتماعية” التي تضم أشخاصًا لهم ولاءات إثنية وطائفية قوية، الذين يعيشون على صدقات البلوتوقراطيين من خلال غسل الأموال أو مزادات العملة أو ببساطة عن طريق خدمة الأحزاب الدينية والشركات التابعة لها.
لقد أصبح الفساد في “الطبقات الاجتماعية الجديدة” بديلاً عن التعليم والعمل المهني والوطنية. لقد كان الدفاع عن ثقافتهم، وطريقة حياتهم، يتم بأي ثمن، شملت القتل بوحشية للتخلص من “الآخر”. بالنسبة للكثيرين ضمن هذه “الطبقة الاجتماعية” غير المثقفة وغير المتعلمة فإن حياة الانسان ليست لها قيمة عندهم.
إن المؤسسات التعليمية – على سبيل المثال الجامعات – يتم سحقها من خلال إنشاء مراكز دينية “لفرض الفكر” على جميع مستويات التعليم، وممارسة الضغط، خاصة على النساء لارتداء الحجاب، وهي ظاهرة آخذة في الاتساع في العراق؛ فتيات المدارس اللائي لا يتجاوز عمرهن سبع سنوات يجبرن على ارتداء الحجاب – وهو رمز واضح لإخضاع الفتيات (وحتى البنين) منذ سن مبكرة. غادر الآلاف من المثقفين العراقيين البلاد خوفاً على حياتهم. إن هجرة العقول هذه تمثل خسارة هائلة لرأس المال البشري. اضطهاد الأقليات العرقية / الدينية في العراق هو بمثابة “تطهير”؟ جماهير الأكراد والمسيحيين والأيزيديين، على سبيل المثال، غادرت العراق، على مدى السنوات الستين الماضية. وعلى الرغم من إسهامهم الهائل في الاقتصاد والثقافة، أصبح اليهود العراقيون، للأسف، جزءًا من تاريخ العراق، وليس الحاضر. وما تبقى من أخلاقيات العمل المهني في بعض المؤسسات يتناقص بسرعة؛ يتم إعطاء الوظائف على أساس الانتماء الطائفي أو العرقي أو السياسي، تاركين حرفية المؤسسات تتلاشى.
التعليم عن ظهر قلب هو استبدال لأساليب التعليم العلمي. إن مبدأ الحافظ يهزم الفاهم (المتخلف يهزم المتعلم) هو للأسف عملة مقبولة في الأوساط الدينية. ولكي تتمكن الأجيال المقبلة من العيش في عالم رقمي تنافسي متزايد، يجب أن يتوقف هذا السلوك.
اتخذ تشويه الثقافة في العراق أشكالاً عديدة. على سبيل المثال، تم حظر الموسيقى والغناء وشرب الكحوليات. يتعين على الأماكن العامة والمطاعم وما تبقى من الأندية الاجتماعية أن تحيط علماً بما يسمى الحظر الديني الذي يفرضه رجال الدين باسم الدين. متنكرين أم لا، فإن الشرطة الفكرية الدينية تجوب الشوارع والجامعات. لقد تم إجبار اللياقة الإنسانية وحب الحياة في العراق على شغل المقاعد الخلفية، فقط لإفساح المجال لبعض قواعد الممارسة الاجتماعية التي تعود للقرن السابع. يتم استبدال الحقيقة والعقل بالإيمان الأعمى والميتافيزيقيا. ظهرت تقارير مقلقة مؤخرًا من وكالات أنباء دولية تشير إلى ممارسات شريرة لإضفاء الطابع السلبي على النساء والقُصَّر الذين لا تتجاوز أعمارهم 12 عامًا، باسم زواج المتعة (نكاح المتعة/المسيار). ينظر العراقيون باشمئزاز إلى هذه “الثقافة” التي أصبحت مقبولة في بعض الأوساط، بإنها غريبة عن الثقافة العراقية والإنسانية، يجب أن تتوقف مثل هذه الممارسات.
حول النظام السياسي
توّلد التنمية الاقتصادية تدريجيا الديمقراطية الفاعلة. يجب على قيادة الانتفاضة إصلاح النظام السياسي المذهبي العرقي المعاق، حتى تشكل أساسًا قويًا لتحقيق الاستراتيجية الاقتصادية المبينة أعلاه.
على الانتفاضة أن تضع حداً لـ “التخريب السياسي” خلال السنوات الستين الماضية، والتي حلت محل السياسة المهنية. تم تفكيك الدولة العراقية بعد عام 2003، وتم تسليمها بشكل فعال إلى الأحزاب الدينية، بشكل رئيسي. وبالتالي، لا يزال إعادة بناء الدولة يمثل تحديًا كبيرًا في العراق. يكاد أن يكون الفساد والحكم السيئ والالتفاف على سيادة القانون وعدم احترام الدستور قد اكتمل. الفصل بين السلطات أيضًا – السلطة القضائية والتنفيذية والتشريعية – غائب تقريبًا. هناك كل الدلائل في الوقت الحاضر على أن قوة الدين قد تجاوزت سلطة الدولة، وخلقت دولة عميقة، هدامة، تخدم المصلحة الذاتية، بل القوى الإقليمية، وليس الشعب العراقي. للدين في الوقت الحالي قبضة قوية على السلطة والدولة في العراق. هناك أكثر من 250 حزبا سياسيا مسجلا، وأكبرها عددا لها توجهات دينية، هدفها تحطيم الدولة والحكومة. كل هذه تمثل نسخة متطرفة من الحكومات منذ تأسيس العراق الحديث عام 1921.
كل ما ذكر يوفر أسبابًا مشرعة لانتفاضة الشباب.
يتطلب من الانتفاضة إنهاء “التخريب السياسي”. يجب إقامة دولة علمانية في العراق للأجيال القادمة لكي تتاح لهم فرصة لبناء عراق حديث ومستقر وآمن وسلمي لأنفسهم وذريتهم.
في بداية نوفمبر 2019، رفضت الانتفاضة النظام السياسي القائم المبني على الدين (ولابسي العمائم من طراز كوديا – of Lagash Gudea)؛ لأن هذا النظام يبدو بأنه قد استنفد إية أمكانيات للبقاء. رثا أحد المتظاهرين الشجعان بصوت عالٍ “لا نريد أحزابًا، نريد وطن” كما لو كان العراق قد دُمر. يذكرنا هذا الرثاء بالرثاء على مدينة أور (حوالي 2000 قبل الميلاد)، الذي وصف البكاء على المدينة والتوسل بأن لا ينبغي تدميرها من قبل الآلهة.
إن “الديمقراطية الانتخابية” في العراق ليست ديمقراطية فاعلة، قائمة على نظام انتخابي دقيق ومدقق، للأحزاب السياسية التي تتنافس على أساس برنامج موثوق للإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية. إن النخب السياسية تعد النظم الانتخابية للبقاء في السلطة؛ لذا انخفض إقبال الناخبين من 80 في المائة في عام 2005 إلى 44 في المائة في عام 2018. نتيجة ذلك أصبحت الاحتجاجات متكررة. قام أشباه الرجال، وتابعيهم في الحكومة بتشكيل ميليشيات خاصة بهم ضمن شبكة ما يسمى بقوات الحشد الشعبي، والتي قيل إنها أطلقت نيران الأعيرة النارية على المتظاهرين، وهددت علنا الدولة.
إن الانتفاضة تطالب بحق بدستور جديد / معدل، وقانون / نظام انتخابي جديد وتعديل القوانين الرئيسية التي تضمن، على سبيل المثال، نزاهة القضاء والجيش وقوات الشرطة، إلخ. يجب دعم هذه المطالب بقوة من جميع القوى / الأحزاب الديمقراطية في العراق.
من المهم جدا أن تدعم الانتفاضة ضمن الوسائل المشروعة والسلمية، وفقًا للمعاهدات والقوانين الدولية؛ وتغيير الظروف الموضوعية الحالية التي أوجدها احتلال العراق في عام 2003 الذي أقام دولة دينية حتى يتم تهيئة الظروف المواتية للسلام والتنمية. أن التنمية الاقتصادية والتغيير الاجتماعي الذي ينتج عنها يمهدان الطريق لإقامة ديمقراطية فاعلة في العراق على المدى الطويل.
إن المهمات المطروحة هائلة. ومع ذلك، فإن الانتفاضة يمكن أن تؤذن ببداية نهاية نظام الدولة / الحكومة العرقي الطائفي الديني الفاشل في العراق.

عن البيئة المادية
تشير كل الدلائل في الوقت الحاضر على أن البيئة المادية للعراق تدهورت بشدة. تشمل أسباب التدهور تغير المناخ والحروب والعقوبات الاقتصادية وسوء إدارة البنى التحتية والصناعية والفساد، وفي جملة أمور، غياب سيادة القانون. كان تأثير العلاقات القبلية والقوانين الدينية على صنع القرار ضارًا بالبنى التحتية المادية والاجتماعية (الخدمات التعليمية والصحية على وجه الخصوص).
أدى سوء نوعية المياه، وإلقاء النفايات الصناعية ومياه الصرف الصحي في الأنهار، وملوحة التربة، وتلوث الهواء، وملوثات النزاعات (الناجم عن الحروب وداعش) إلى تدهور النظم الإيكولوجية الرئيسية وتأثيرات تغير المناخ والتهديد بنقص المياه. تسبب الجفاف المطول في خسائر فادحة في المحاصيل المطرية في شمال العراق. ومما يضاعف من هذا الموقف السياسات الضارة لبلدان الحوض (إيران وسوريا وتركيا). هذا يحتاج إلى التغيير. يمكن تحويل الأهوار الستة في الجنوب إلى مناطق جذب سياحي رئيسية، مما يعود بالفائدة على السكان المحليين والبلاد ككل.
في الجنوب، قلل قطع مئات الآلاف من أشجار النخيل، وتدمير البساتين لتحقيق مكاسب شخصية، من الاكثار في امتصاص ثاني أكسيد الكربون (CO2). حرائق آبار النفط، وإطلاق كميات هائلة من المخلفات السامة في الهواء الذي يستنشقه الناس. الغاز يحترق بملايين الأمتار المكعبة، مما يشكل هدرًا اقتصاديا كبيرًا للشعب العراقي.
انتشرت المئات من مدن الأكواخ في جميع أنحاء العراق، حيث يعيش ما لا يقل عن مليوني شخص. إن الآثار الصحية الناجمة عن هذا وغيرها من أشكال التدهور البيئي تعصف بالعراق؛ وإن آثارها السيئة سوف تستمر لفترة طويلة.
عادة ما تكون الكوارث البيئية، كالأمثلة المذكورة أعلاه، على رأس الأولويات السياسية والاقتصادية للحكومات، ولكن ليس على ما يبدو في العراق. يبدوا أن الطبقة السياسية البلوتوقراطية / الدينية في العراق مشغولة جدًا بتوزيع الثروة النفطية فيما بينها.
يجب على القيادة الناشئة للانتفاضة في العراق أن تغير هذا الوضع الأليم.

الخاتمة
إن انتفاضة أكتوبر تستحق كل دعم من كل أولئك الذين يرغبون في رؤية ديمقراطية فعالة تسود في العراق. يجب أن تتضافر جميع القوى الديمقراطية والتقدمية في العراق لتحقيق ذلك.
كما هو متوقع، فشلت الثيوقراطية البلوتوقراطية في العراق في تلبية مطالب العراقيين – فشلت في إعادة بناء الاقتصاد والبنية التحتية المادية والاجتماعية. لقد فشلوا في تقديم الخدمات الأساسية في بلد غني بالموارد الطبيعية والبشرية.
إن سوء الإدارة المتعمد للسياسة والاقتصاد ومحاولات تدمير النسيج الاجتماعي للبلاد في ظل نظام حكم عرقي طائفي قد جلب اليأس في العراق. ومع ذلك، فإن الناس لم يفقدوا الأمل في رغبتهم الواضحة في حياة أفضل.
لقد وصل النظام العرقي الطائفي في العراق إلى نهاية الطريق.
المستقبل هو للانتفاضة والنصر حليفها.
يحتاج العراق إلى حكومة قوية لتوجيه البلاد بعيداً عن الفساد المتفشي الذي استنزف البلد من الموارد اللازمة. تتطلب التنمية الاقتصادية استقرارًا سياسيًا ولن يكون هناك استقرار في العراق طالما أن القبلية والدين يفرضان ما يمكن وما لا يمكن القيام به، وطالما استمر الاستخفاف بسيادة القانون.
يحتاج العراق إلى البدء في بناء مستقبل مزدهر، يستند إلى بدء التنمية الاقتصادية وإقامة نظام حكم قائم على الديمقراطية الفاعلة.

* الدكتور عامر كوركيس هرمز هو المدير المفوض لشركة الاستشارات في المملكة المتحدة CBS. (منذ 2008). في شهر أكتوبر/تشرين أول من عام 2009، بدأ بمهمة لمدة 20 شهرًا كمستشار أول للتخطيط الإنمائي ((Development Planning بوزارة التخطيط في العراق (بتمويل من برنامج DANIDA لـ “السلام وإعادة الإعمار” في العراق).
الوظائف التي شغلها تشمل: كبير الاقتصاديين ورئيس السياسات الاقتصادية في غرفة تجارة لندن (1992-1995)، مستشار اقتصادي لوكالة التنمية الإقليمية لجنوب غرب المملكة المتحدة (1996-1998) والمدير المساعد ثم رئيس قسم الاستشارات والأبحاث (الشرق الأوسط) في شركة DTZ العالمية (1998 إلى 2007).
الدكتور عامر هرمز كوركيس مؤلف كتاب “اقتصاد العراق – من الماضي القديم إلى المستقبل البعيد” [https://www.amazon.com/Economics-Iraq-Ann-distant-future/dp/1999824105]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here