عن الشباب والشيوخ، في مسار الحركة الاحتجاجية الراهنة في العـراق

* رواء الجصانــي

———————————————————————-
يتشكل الوعي الوطني لدى الفرد، ويتشذب ويترسخ، متأثرا بجملة عوامل ومن اهمها على ما أزعم، النشأة الاولى والحال البيتية والاجتماعية، والظروف الثقافية السياسية التي يعيش في فترتها، محليا واقليميا وعالميا، دعوا عنكم التجربة الشخصية، والحياتية، وسعة المدارك والثقافة التي تتوفر امامه – اي ذلك الفرد المعني- وما يبذله من اهتمام ذاتي على تلكم الطريق..

وفي الحال العراقية، تكونّ، ويتكونّ، ذلك الوعي – ولنسمه الهمّ والشجن – الوطني في ظروف ووقائع استثنائية عديدة، وتراكم الاحداث، بمرّها الكثير، وحلوها العسير، بسبب ما مرت به الاحوال السياسية والاجتماعية من تعقيدات ومآسٍ طوال عقود وعقود، امتدت وأتسعت بلا حدود، وحتى يومنا الذي نعيش، مع بعض الفترات الزمنية الاستثنائية.. وقد شابَ ذلك الوعي ما شابه من تأثيرات وتداعيات نفسية، قاسية ومريرة ربما ليس من المجازفة القول بأنها لم تكن سائدة الا في العراق، بل وفقط في العراق..

ومناسبة هذه الكتابة/ الشهادة تأتي بعد انتشار ما قيل ويقال حول الاحتجاجات والتظاهرات الراهنة، وخاصة عن دور الشباب الحيوي فيها، و”عفويتهم” ورفضهم لأي “قديـم” في السياسة والمجتمع، والعزوف عن التيارات والتنظيمات الحزبية “التقليدية” وما شابه ذلك من تصريحات وتعابير وآراء.. والأشد سلباً في ذلك – كما ازعم ثانية – ان يشترك مثقفون وسياسيون عريقون (او شيوخ !) وغيرهم في مثل تلك الموجات والترويج لها، بقناعات حقيقية أو بعواطف جياشة، وردود افعال . وما علينا بذوي النوايا والمنافع والدوافع غير النزيهة …

ومن بين ما تم طرحه، بثقل في البدايات، ويطرح الآن بهذا القدر او ذلك، التأييد المطلق، ودون تبصّر أو تبصير، الدعوات لأن يُترك الشباب في حالهم و”نهضتهم” الجديدة، بل وتحريم التدخل بالنصح والارشاد والمشورة.. كما قيل، ويقال الى اليوم، بأن لاحاجة لأولئك المنتفضين، الغاضبين حتى الى تنسيقيات موحدة، أو تأطير مناسب، ولحين ان تتبلور لديهم قياداتهم !! (1). ومن مبررات تلك الاراء المعلنة، صراحة أو ايماءً، ان الماضي ملئ بالانتكاسات والعجز والترهل، والتجاريب غير الناجحة وسوى ذلك من مشابهات، وشيوع اليأس لدى متبني مثل تلك الاقوال والمفاهيم. وفي ضوئه فليس هناك، ولا حاجة لقيادة او ادارة او مفاوضين!! .

ولعل ما قد يبرر انحياز عدد من السياسيين والمثقفيـن “القدامى- الشيوخ” لمثل تلك الرؤى والاراء، الحالات الشخصية التي عاش بها اصحابها، او التي سمعوا عنها فصدقوها دون تروي وتمحيص، أو مشاهدات ومعايشات تبقى محدودة بالمقارنة مع ذلك الكم الغزير من الوقائع المقابلة، وكذلك النجاحات وأن لم تكتمل لاسباب وظروف ذاتية منها وموضوعية.. ونرى بأن حتى الانكسارات والهزائم هي تجارب “غنية” لمن يريد ان يتعظ منها، ويراها بعيّن العقل والمنطق.. وألا فهل يجوز ان تبدأ وتستمر، تلك الاحتجاجات – السلمية كما هو مطلوب ومرتجى- وتدوم بشكل ناجح وناجع، بعيدا عن العنف والتدمير، دون تأطير وتنظيم، ودون تحديد الاولويات، والاستفادة من وقائع واحداث الماضي والراهن؟ . وخلاف ذلك هاتوا باية تجربة في العالــم المتمدن خلت من مثل تلك الضرورات والحقائق عن اهمية الادارة والتنظيم والتأطير ؟!..

وفي ضوء ما تقدم لا أحد يستطيع ان يجزم بكيفية امتلاك الشباب، ذي الاعمار القصيرة نسبيا، لكل ذلك الفهم والوعي والادراك المطلوب، وتمكّنهم من اختيار الانسب، وهم – اي الشباب – لم يمروا بتجربة شخصية وحياتية كافية، ولا مشاركة عامة في نضالات ومسارات الحركة الوطنية، الوطنية، واحزابها وقواها النزيهة، وما قدمته من تضحيات جلى: استشهادا وعسفا وتنكيلا وسجنا ونفيا، وعلى مدى عقود وعقود في تاريخ البلاد الحديث على الاقل؟!.. بل وكيف يصحّ ان تتصادم تمردات وانتفاضات المحتجين، وحيويتهم، مع تجربة وحكمة الشيوخ النبلاء، وثقلهم التاريخي والمعنوي، خاصة وان كلا الجانبين يطمحان للتغيير الممكن، والتطلع الحريص للبناء، وللوطن ألآمن ؟! ..

وبظني – وليس كل الظنون، ممقوتة- ان التشبث بمثل تلكم الرؤى والاراء، الهادفة لفك التشابك المنطقي بين “الشباب” والشيوخ” في حالتنا العراقية الراهنة، قد اودى ويودي، بل وسيودي، الى فقدان فوائد الحكمة والتجارب الغزيرة، بمرّها وحلوها، مما يحتاج اليها الشباب اليافع، الحريص حقاً، أشد الاحتياج، ليكمل بها ما عنده من طموح مشروع وتوثب وعطاءات حيوية…

وبقناعة كاملة اقول بأن تلك الدعوات التي التي تصاعدت للتفريق بين الشباب والشيوخ، وأختلاق جدار فاصل بينهم، قد ساهمت بتحقق خسائر غالية – اضافية- في الارواح، وبسيّل دماء – اضافية- بريئة، تواقة للعدالة والوطن المزدهر، وقد كان بالمقدور – والى الآن- تحجيم تلكم الخسائر، على الاقل، بدلا من اشعال نيران الأثارة و”التثوير” والتأجيج غير الضرورية، والاندفاعات العجول، والعواطف الجياشة، وردود الافعال غير المسيطر عليها.. كما لا أستطيع إلا ان أشك بأن القادم سيكون أزيد عسراً ما لم يستمع الشباب لآراء وتجارب الشيوخ، واكرر النزهاء، لا بهدف الهيمنة والاستئثار، ولا بتبني اجتهاداتهم بشكل مطلق، ولكن للأستفادة

منها وهم في طريقهم ينشدون الرقي، والحرص على اقامة – وادامة – مجتمع العدل والرفاه، كما يُفترض ..

يقينا ان الموضوع الذي نتناوله في هذه الكتابة بحاجة للمزيد والمزيد من التوعية به، منعا لوقوع ما لا يريده المخلصون، والحد من صيحات وتأجيج “المترفين” ومبالغاتهم، التي ساهمت – وتساهم – بهذا القدر او ذلك بأضافة خسائر عزيزة لا حاجة جدية لها .. وكم هو جميل ان تُشاع وتترسخ مقولة “بالسلم والبناء – بدلا من بالروح والدماء – نفديك يا عراق” ..

اخيرا ربما توجز ابياتٌ معدودات للجواهري الخالد، وتعوضّ عن كل ما اردت التعبير عنه في السطور السابقات، حين قال مخاطبا الشباب قبل ستين عاما: (2)

أزفَ الموعدُ والوعدُ يعـِـنُّ.. والغدُ الحلـوُ لأهليه يَـحـِـنُّ .. والغدُ الحلوُ بنوه أنتـمُ .. فاذا كانَ لكم صُلْـبٌ فنحنٌ فخرُنا أنـّـا كشفناه لكمْ .. واكتشافُ الغد ِ للأجيال فـنّ يا شبابَ الغـدِ إنـّـا فتية ٌ.. مثلكُم فرَّقنا في العُمـْـر سِـنّ لم يزلْ في جانـِـحيْـنا خافقٌ .. لصُروف الدَّهر ثَبـتٌ مطمئنّ لا تلومونا لأنـَّـا لم نكنْ .. مثلـَـكمْ في ما تـُـجَـنـّـون نـُـجـَـنّ ولأنـّـا إذ ترُدّون الأذى .. بالأذى، نجزَعُ منه، ونـَـئنّ..

—————————————————* رواء الجصاني 2019.12.4

1/ من غير المعقول ان هناك من يعتقد الى اليوم، بأقتناع أو بأدعاء، بأن لا قيادة أو ادارة للتظاهرات، وانها بدأت حتى دون اتفاق على موعد محدد، مثلاً، وبتوجيه من الجـنّ !!!

2/ من قصيدة الجواهري القاها امام المؤتمر الثاني لاتحاد الطلبة العراقي العام، الذي انعقد ببغداد عام 1959..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here