السياسة وجنايات القتل والقنص والاختطاف والاغتيال في انتفاضة تشرين العراقية

جسار صالح المفتي

تنطلق التظاهرات والاحتجاجات في العادة لسببين:(الأول): موقف سياسي يحرك الشارع باتجاه التصدي له وإجهاضه,و(الثاني): عامل اقتصادي يتعلق برفع الأسعار، وتدني المستوى المعاشي بما يخلق حالة سخط لدى الجمهور يتسبب بانفجار شعبي ينتهي بثلاثة خيارات، هي: الاستجابة من قبل السلطات لمطالب المتظاهرين وإطفاء نيران غضبهم- التوصل لحلول وسطية تسحب صاعق الغضب الشعبي وتهدئ الشارع المشتعل- الإطاحة بالحكومة أو النظام الحاكم برمته.

في كثير من الأحيان تلعب الأحزاب والقوى السياسية المناهضة للنظام الساسي دورًا مهمًا في تحشيد الجمهور، وتعبئته لتحقيق مطالب بعينها، وتاريخ العراق حافل بهذا النوع من الاحتجاجات. لكن غير المألوف ولا المعروف هو أن يكون الشارع بكل فئاته ومستوياته وطبقاته وانتماءاته بالضد من الطبقة السياسية الحاكمة بجميع مستوياتها وانتماءاتها وتوجهاتها! وتزداد الغرابة حين يكون الماسكون بمقدرات البلاد لصوصًا لا يتورعون عن السطو على المال العام بكل الوسائل المتاحة.هذا هو العنوان الأبرز لانتفاضة تشرين العراقية؛ الجمهور يثور على اللصوص… الأحرار ينتفضون على سراق المال العام..المعوزون والعاطلون والجياع يزحفون لاستعادة حقوقهم المسروقة من قبل أحزاب تسلطت على رقاب الرعية، بالخداع والتضليل، ثم أحكمت قبضتها على السلطة لتجعل منها فرصة نادرة للمغانمة والإثراء، وإفقار الشعب برمته في (تجربة) غير مسبوقة في تاريخ الأمم والشعوب والدلالة الأكثر وضوحًا في انتفاضة تشرين العراقية هي أن دوافعها ليست سياسية، وجذوتها لم تتقد بسبب المنهج السياسي الذي تنتهجه الحكومة في التعامل مع قضايا الداخل والخارج إنما نتيجة الخراب الذي أحدثته الطبقة الحاكمة في البلاد وجعلتها كعصف مأكول.

في انتفاضة 29 أكتوبر (تشرين أول) عام 1956 شهدت بغداد تظاهرات عنيفة احتجاجًا على موقف الحكومة من العدوان الثلاثي على مصر.

كان الجمهور العراقي يتوقع موقفًا حكوميًا معبرًا عن الهوية العربية للعراق في لحظة تعرضت فيه أكبر دولة عربية إلى عدوان صريح، على العكس من ذلك ترجم النظام السياسي موقفًا متواطئًا مع دول العدوان بل وداعم لها أحيانًا، ما نتج عنه انفجار شعبي انطلقت شرارته من الإعدادية المركزية في بغداد وسرعان ما اتسعت مساحة الاحتجاج لتشمل ثانويات الأعظمية والكرخ وغيرهما ,لم يرفع الطلبة المتظاهرون شعارات تطالب بمحاربة الفساد المالي، لأن الدولة لم تكن آنذاك وكرًا للصوص، ومرتعًا للطائفية والجهل، ولم تكن الأحزاب دكاكين سياسية تعتاش على شعارات كاذبة تتخذ منها تجارة رائجة، بمعنى أن دافع التظاهرات كان وطنيًا سياسيًا وليس وطنيًا إصلاحيًا، وهكذا كانت دوافع معظم التظاهرات والانتفاضات التي شهدها العراق عبر تاريخه الحديث والمعاصر.وما يميز انتفاضة تشرين العراقية هو أن دوافعها تصحيحية اصلاحية، وإن السبب الرئيس وراء انفجارها هو الفساد واللصوصية التي صارت السمة البارزة في سلوك الطبقة السياسية الحاكمة لا يصنف سخط الشارع المنتفض على الطبقة الحاكمة في خانة (الصراع السياسي) ذلك لأن الطبقة الفاسدة لا تمتلك منهجًا واضح المعالم لإدارة البلاد يمكن أن يكون موضع رفض واستهجان من الجمهور كما كان الحال مع الأنظمة السياسية التي توالت على حكم العراق منذ تأسيس الدولة العراقية في أغسطس (آب) 1921 وحتى أبريل (نيسان) 2003، الطبقة الحاكمة تمتلك فقط أذرعًا أخطبوطية، ومنظومة شيطانية مسخرة لسرقة ثروات البلاد، وحرمان أجيال كاملة من فرص العيش الكريم بحده الأدنى، فضلًا عن سعيها المفضوح لمسخ الوطنية العراقية، وتمزيق النسيج المجتمعي العراقي، وإحلال التبعية بديلًا عن الاستقلال والسيادة…!

هنا يطغى البعد الجنائي على السياسي بوضوح في رسالة المتظاهرين وأهدافهم ومطالبهم، فالحاكم سارق والشعب مسروق، الطبقة السياسية مجموعة من اللصوص، أما المنتفضون فهم جمهور عريض يمتد عمقه المجتمعي على امتداد الجغرافية العراقية عموديًا وافقيًا تم تهميشه وسرقته وتضييعه وحرمانه من فرص الحياة والازدهار والتطور والمطالب لا تقتصر على تصحيح الانحراف وإصلاح منهج الحكم، بل يشمل إزاحة الطبقة السياسية برمتها تمهيدًا لمحاكمتها كــ(فريق) من اللصوص الذين مارسوا السطو المسلح بابشع وأوضح صوره!

لا يبدو الحوار مجديًا وليس ذا معنى أصلًا بين اللص والضحية، ولا تبدو الدعوات للإصلاح ذات معنى إذا انطلقت من إماكن مدنسة، فالفضيلة لا يدعو لها الأبالسة، ولا يحققها الشياطين قتل المتظاهرين بأدوات السلطة وأذرعها عمق البعد الجنائي للصراع، وجعل الجانب الجنائي فيه مركبًا ومزدوجًا، فمن كان مجرد لص (حكومي) قبل الانتفاضة أصبح بعدها قاتلًا عن قصد وسبق إصرار! القصاص لا يقتصر بعد اليوم على الفاسدين بصفتهم لصوصًا بل سيطالهم كمجرمين وقتلة أيضًا

تتفاعل الأحداث الميدانية في العراق وتتصاعد وتيرة التظاهرات الشعبية العارمة التي شكلت روح وضمير الشعب العراقي وأتحدت جميع مكوناته وأصبحت أداة قوية راسخة ضد الظلم والتعسف الإجتماعي رافضة للعملية السياسية التي أصبحت تشكل ثقلا وكاهلا يرهق حياة وإستقرار المواطن العراقي ،وأدركت هذه الجموع البشرية الصادقة في عطائها وتضحياتها وإستمرار كفاحها عمق جذورها وإنتماءها الحقيقي لتربة وأرض العراق معبرة عن صيحة الحق التي أصبحت سمة واضحة في حياة العراقيين وكلمة تطلقها الحناجر الثائرة الرافضة للوضع السائد في بغداد وباقي المحافظات والمدن العراقية وأطلقت العنان لصيحاتها الجهادية في وجه الظالمين والمتجبرين من أدواتالعملية السياسية والعاشقين لها وفضحت توجهاتهم وإرتباطاتهم وألقت الأضواء على مكنوناتهم وتدافعهم لتحقيق مصالحهم الذاتية ومنافعهم المالية بعيدا عن حقوق وأمال الشعب العراقي بل أعطت الصورة الحقيقية التي طالما تخفت وراءها قيادات الأحزاب والحركات والكتل السياسية التي سعت طيلة (16) سنة من بداية الغزو والإحتلال الأمريكي للعراق على خداع وتضليل أبناء العراق الذين أدركوا حقيقة هؤلاء السياسيون التابعون لمشاريع دولية وإقليمية تسعى لتحقيق مصالحها على الأرض العراقية .

جاءت صيحات المتظاهرين والمنتفضين من الشباب الواعي المدرك المتلاحم مع كافة فئات الشعب المكافح الرافض للذل والخنوع والعبودية وسعى بمواجهة حقيقية ميدانية تصدت لها صدور وأجسام المتظاهرين الأشاوس الذين شكلوا مشاعل للحرية ووقودا لنيل الكرامة وإسترداد عزة وعنفوان العراق عندما تحدوا بكل عزيمة وإصرار العنف والتعسف الممنهج والرد القاسي الغاشم من قبل القوات الحكومية التي ساهمت في التصدي للجموع الحاشدة من المواطنين الشجعان الذين خرجوا مطالبين بحقوقهم والحفاظ على ثروات بلدهم والمناداة بالإستقلال السياسي الذي أصبح بيد الإحتلال الأمريكي والنفوذ الإيراني داعين للإنعتاق من الظلم والتعسف والاضطهاد اليومي رافضين الوجود المليشياوي للجماعات المسلحة الولائية المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس الداعمين للمشروع السياسي الإيراني في العراق .

جاءت الصيحات التي نادت بخروج هذه المليشيات ورفض التدخلات الإيرانية في القرار السياسي والأمني والإقتصادي ودعوة المتظاهرين لرفض هذه التبعية المذلة التي ساهمت حكومة بغداد في إتساعها وزيادة مساحة نفوذها بسبب تبعية هذه الحكومة والأحزاب السياسية الموالية للنظام الإيراني ،كما عبرت هذه التظاهرات عن حقيقة وانتماء الشعب العراقي وروحه الوضاءة المحبة للحرية وبروح عفوية وباتحاد وتلاحم شعبي أدى الى إحداث إختلال التوازنات السياسية والأمنية للحكومة وأفزعتها القدرة القيادية التي تمكنت من تحشيد هذه المجاميع الشعبية في ساحات وميادين العاصمة الحبيبة بغداد وباقي مراكز المدن والأقضية في محافظات الفرات الأوسط والجنوب العراقي الباسل وكانت مفاجأة أقضت مضاجع الدوائر السياسية والأمنية بل أوجعت جميع الكتل والأحزاب التي نظرت الى هذه التظاهرات بعين صغيرة فإذا بها تهابها وتخشاها بل تذهب الى معاداتها وتوجيه سهام الغدر لها وتوسيع دائرة القمع الممنهج ضد القائمين عليها والمشاركين فيها .

تميزت الإنتفاضة الشعبية التي إنطلقت في ميادين وساحات وأزقة ومحلات مدينة بغداد والمدن العراقية الأخرى بعدة صفات أهمها أنها جاءت من رحم الشعب العراقي ومعبرة عن حقيقة الغضب العراقي من العملية السياسية والمواقف اليومية لحكومة بغداد وعدم قدرتها على التعامل مع الأزمات التي يعيشها ويكابدها المجتمع العراقي في كافة الميادين ومنها موضوعة الفساد السياسي والإقتصادي الذي أصبح السمة الأساسية التي تتصف بها حكومة عادل عبد المهدي بل هي إمتداد واضح لجميع حكومات الإحتلال الأمريكي بعد التاسع من نيسان 2003 ، أي أنها تشكل إمتدادا واضحا لمشروع كبير يستهدف أمن وسلامة ومستقبل العراق بالعمل على إستنزاف ثرواته وضياع مستقبل شعبه وسرقة أمواله وجعل العراق ضعيفا بين الأمم والشعوب .

ولكن هناك أمرا أكثر أهمية ووضوح هو خروج العديد من أبناء الشعب العراقي وبهذا الغضب العارم الذي أفصحت عنه الجموع الشعبية وعبر تنسيق شبابي على مواقع التواصل الإجتماعي للتعبير عن إحتجاجها على الفساد الحكومي والمطالبة بتنحية عادل عبد المهدي وجميع واجهات النظام السياسي الحاكم في بغداد الذي جعل القرار السياسي مرتهنا بأوامر النظام الإيراني وأدواته ووكلائه في العراق ،ولهذا فهي نادت بصورة صريحة وواقعية بإسقاط النظام السياسي والأحزاب والكتل السياسية الداعمة له وإعتبار هذا الهدف من أهم الركائز الأساسية التي خرج من أجلها المنتفضون ،فكان الرد من قبل القوات الأمنية مزيدا من العنف وإستخدام الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين في إشتباكات متواصلة أوقعت العشرات من الشهداء والمئات من المصابين ومزيدا من المعتقلين بسبب المطالبة بحقوقهم ومناداتهم بإيجاد الحلول لأسباب البطالة والفساد وسوء إدارة شؤون البلد وضعف الخدمات العامة وعدم توفير فرص للعمل وتحسن الخدمات والتدهور الواضح في قطاعات التعليم والصحة والأمن والإعمار والبناء وتحسين البنية التحتية للبلاد .

إتسمت هذه التظاهرات بشموليتها العفوية التي حاكت الضمير العراقي والوجدان الإنساني الذي إلتحم في وقت واحد وبصوت هادر انطلق من جميع المدن والمحافظات الجنوبية والوسطى ليعانق صدى صيحات الحق التي انطلقت من حناجر الشباب الثائر في بغداد وميادينها ،وفضحت هذه الإحتجاجات الأساليب المتبعة من قبل الأجهزة الأمنية في مواجهتها للجموع الغاضبة عندما أمعنت في توجيه أدواتها وأساليبها في التعنيف والإرهاب واستخدام جميع الوسائل القمعية في محاولة لوأد هذه التظاهرات وإيقاف الحشود الجماهيرية ومنعها من التواصل في انتفاضتها .

جاءت رسالة عادل عبد المهدي التي ألقاها فجر يوم الرابع من تشرين الأول 2019 لتؤكد عدم فهم وإدراك لحقيقة المشهد السياسي ولتبين عمق الإبتعاد عن حقيقة مكابدة ومظلومية الشعب العراقي وأحتوت على عبارات مستفزة وفضفاضة لا تحمل حلولا جذرية بل سعت إلى مقترحات ترقيعية ولكنها لم تنطل على الجماهير المنتفضة التي رفضت الرسالة وتوجهت مع ضياء وشروق الشمس إلى الإعلان عن إستمرار التظاهرات ومواجهة إجراءات منع التجوال والثبات على الأهداف والمطالبات والمناداة بالحقوق والدعوة المستمرة لإسقاط حكومة بغداد التي أثبت هي وجميع الأحزاب السياسية أنها لا تمثل روح وإنتماء الشعب العراقي .

لقد كشفت هذه الانتفاضة بشكل جلي طبيعة الصراع التناحري بين كتلة التحالف البيروقراطي الكومبرادوري الطفيلي، أي الأحزاب والتيارات التي تمثل كبار الموظفين المدنيين والعسكريين وأصحاب المصارف وغالبية التجار والسماسرة الذين ترتبط مصالحهم بمصالح الراسمال العالمي وبين غالبية أبناء الشعب العراقي من الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة من الفئة الوسطى والعمال والفلاحين والحرفيين والمهمشين ومنظمات المجتمع المدني. بين اللاهثين وراء المشروع الاقتصادي والسياسي الأمريكي الذي حول اقتصادنا الى اقتصاد ريعي توزيعي تابع لعجلة العولمة الراسمالية، وافقد العراق استقلاله السياسي وحوله الى كرة تتقاذفها القوى الدولية والإقليمية وبين غالبية أبناء شعبنا الساعين الى الاستقلال الاقتصادي والسياسي الحقيقيين من خلال المشروع الوطني الديمقرطي المستند الى التنمية المستدامة وبناء دولة مدنية تحقق العدالة الاجتماعية واستقلالية القرار العراقي, رغم االنتائج الكارثية التي تمخضت عن نظام المحاصصة الطائفية والاثنية من فساد استشرى عموديا وافقيا، وبطالة، وفقر وانهيار المنظومة القيمية فان الاحتلال الأمريكي والكتلة المهيمنة على القرار السياسي في العراق حولت الصراع الاجتماعي الحقيقي الى تمظهرات عديدة على راسها الصراع الطائفي والمناطقي والاثني والعشائري، مستغلة وجود قوات الاحتلال وتفشي الإرهاب للتغطية على الصراع الحقيقي في العراق بين اقلية استحوذت على مقدرات بلدنا بمساعدة الاحتلال وبين الأكثرية الساحقة من أبناء شعبنا. لقد نجحت تلك القوى في خداع غالبية أبناء الشعب لعقد من الزمان في ترسيخ الاحتراب الطائفي والتخلف الفكري والاجتماعي، لكن حجم الضيم الذي لحق بالعراقيين والدور المشرف الذي لعبته القوى المدنية في شحذ الهمم ورفع درجة وعي الشعب العراقي بالكارثة التي المت بهم حققت نتائج انعكست باتساع الحراك الاجتماعي منذ عام 2011 ليشمل قطاعات واسعة من أبناء شعبنا، تم تتويجه بانتفاضة تشرين الشعبية التي اتسمت بالفرادة والتميز سواء بتاريخ الانتفاضات في العراق او العالم في عصرنا الحديث. ومن ابرز سمات الانتفاضة انها جعلت من الوعي الشعبي العفوي وشعاراته قوة كبرى دفعت بالملايين الى الشارع وحقق هذا الوعي تفوقا واضحا على الوعي النقدي من حيث القدرة على تعبئة الجماهير لتحقيق الخلاص من نظام المحاصصة المقيت كما أصبحت هذه الانتفاضة خيمة وطنية يرفرف عليها العلم العراقي خفاقا، وتستظل تحت فيئها كافة مكونات الشعب العراقي، وسحقت الى الابد بسرفتها الشعبية المهولة كوارث النزعات الطائفية والمناطقية ووحدت أبناء العراق لاستعادة وجه وطنهم المشرق الذي سلبته الايادي المرتبطة بمشاريع التبعية والنكوص ومثلما كان عليه المشهد الثوري في وثبة كانون عام 1948 وانتفاضة تشرين عام 1952، فقد لعب الشباب الدور الأساس في اذكاء شعلة انتفاضة تشرين عام 2019 المجيدة، والذي اذهل العالم اجمع هو الشجاعة الفائقة والاستهانة بالمخاطر واستمراء التضحية حد العشق الصوفي لها. ان مئات الشهداء والاف الجرحى من الشابات والشباب ومرابطتهم ميادين التظاهر والاعتصامات ليل نهار تؤشر تحولا في مستوى الوعي الثوري لدى هؤلاء الثوار وقدرتهم على المطاولة والمجابهة لحين تحقيق اهداف الانتفاضة في احداث التغيير الجذري للمنظومة السياسية التي افرزها الاحتلال الأمريكي والاثار المدمرة التي خلفتها الكتل الفاسدة المهيمنة على المشهد السياسي في العراق منذ 2003.
احدث دخول الحركة الطلابية تحولا نوعيا في مجرى حركة الانتفاضة كما ونوعا، فهي من جهة اضافت الى سوح الثورة الشعبية عشرات الالاف من الدماء الشابة التي تسعى الى ترسيخ القيم المدنية والديمقراطية في المجتمع العراقي، ومن جهة أخرى ساعدت على إزالة القشرة البغيضة التي غطت على دور المراة العراقية المشهود في السجالات الوطنية المختلفة، فتجدها طبيبة وممرضة معالجة في الخيم الطبية او في المناطق الخطرة التي تتعرض للقنابل المسيلة للدموع، او جامعة للنفايات او في طليعة المواكب التي تجوب الشوارع المؤدية الى سوح التحرير، وحفز هذا الوجود للطالبات قطاع النساء من خارج الوسط الطلابي للمساهمة الفاعلة في ميادين الاعتصام والتظاهر فقد اصبح وجود المراة من مختلف الشرائح الاجتماعية من طالبات وربات بيوت وموظفات وعاملات ظاهرة ملازمة لحركة الانتفاضة اليومية ومنحها فرصة ذهبية للانعتاق والتحرر من القيود الكثيرة التي كانت تكبل حركتها وتؤثر على موقعها الاجتماعي التنويري الحقيقي من اهم الميزات التي طبعت انتفاضة تشرين هي التاييد الشعبي الواسع لها من مختلف طبقات ومكونات الشعب العراقي. تجسد هذا التعاطف والتاييد باشكال متعددة مثل جمع التبرعات وشراء مواد طبية و غذائية ولوجستية أخرى وارسالها الى مواقع التظاهرات، و تطوع عدد من العوائل للإقامة في سوح الانتفاضة والمشاركة في طبخ وجبات الطعام لثوار الانتفاضة، وقيام العوائل بزيارات متكررة للتعبير عن حماستهم في التاييد والتعاطف، ولم يقتصر التاييد الشعبي في داخل العراق، وانما حظيت بتاييد ودعم واسع من قبل الجاليات العراقية في مختلف دول العالم واخذ هذا الدعم اشكالا ووسائل متنوعة من تبرعات وتجمعات وتظاهرات مناصرة للانتفاضة، وضغط على المنظمات الدولية لتلعب دورها في ادانة استخدام العنف مع المنتفضين وكسب التاييد الدولي للانتفاضة ورغم اشتراك مئات الالاف من المنتفضين ذوي المستويات العمرية والتعليمية والطبقية المختلفة فان أجواء التسامح والاحترام والفرح الطاغي على الوجوه هو الذي ساد خلال ساعات طويلة من التظاهر، كما انعدمت وبشكل لافت حالات مثل التحرش او المناكفات او النزاعات الشخصية، وتم التعامل مع بعض حالات الاندساس من قبل اشخاص مدفوعين باجندات مختلفة بارقى أساليب التعامل اذ تم اخراج قسم منهم من التظاهرات، وتسليم اخرين الى الجهات الأمنية القريبة من التظاهرات.تواجه الانتفاضة مصاعب عديدة أولها هي ان التحالف المهيمن على مقاليد السلطة السياسية في العراق يحول إبقاء النظام السياسي في العراق على نفس الأسس التي اعتمدها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، يساعده في هذا التوجه قوى إقليمية ودولية، لذلك لن يستسلم امام الهدف الأساس للانتفاضة وهو التغيير الجذري لاسس النظام السياسي في العراق، وليس غريبا ان تلجا السلطة الى اقسى الأساليب لضرب الانتفاضة او الالتفاف عليها. والعامل الاخر الذي يعرقل فعاليتها رغم التضحيات الجسيمة التي تقدمها هو عفويتها وعدم وجود قيادة توحد نشاطها واتجاهاتها الامر الذي يفرض عليها صناعة هذه القيادة من خلال نشاطها اليومي الغزير والمتنوع لكي تتوجه بقوة لتحقيق هدفها النبيل الذي تتعلق عيون العراقيين بحماسة وشوق الى ذلك اليوم المجيد

كشفت ردود الفعل الحكومية لمواجهة الحراك الشعبي الشبابي الأخير عن الوجه الحقيقي للاحزاب القابضة على السلطة باعتبارها سلطة دكتاتورية تحكم بالحديد والنار، وما الشعارات الديمقراطية التي تبجحت بها خلال الاعوام التي أعقبت التغيير في نيسان 2003 سوى بهرجة وظفتها لاخفاء الوجه الحقيقي لهوية السلطة التي تعيد إنتاج سلوكيات النظام السابق في القتل والقمع والترهيب.

في الاول من تشرين الاول 2019 انطلق الحراك الشبابي العفوي المتحرر من سلطة أو نفوذ أو قيادة الاحزاب السياسية وبضمنها تلك التي تصدت لقيادة الحراك والتظاهرات التي انطلقت في الاعوام الماضية. ومنذ لحظة ولادته، زرع الحراك الرعب في أوصال العملية السياسية برمتها، التشريعية منها والتنفيذية. وفي لحظة فارقة في تاريخ القمع العراقي، اعتقدت الحكومة ان تفريق المتظاهرين الشباب بالقوة في ساحة التحرير، مركز ولادة التظاهرات السابقة، سيكون كفيلا بوأد الحراك، لكنها بهذه الخطوة ساعدت على ولادة ساحات تحرير في كل مدينة سواء في العاصمة بغداد أو في محافظات وسط وجنوب العراق. لم يجد الحراك الشعبي إستجابة لدى بعض النخب التي اعتقدت انه لن يكون مؤثرا من حيث عدد المشاركين نتيجة غياب تنسيقيات تقوده، غير انه جوبه بحملة منظمة من نخب أخرى، هي نخب السلطة وأحزابها الاسلاموية التي استهدفت الشباب الغاضب عبر محاولة ربطه بجهات خارجية تريد تقويض التجربة (الديمقراطية) في العراق، فيما ذهب آخرون أبعد من ذلك من خلال التماهي مع الموقف الايراني الرسمي الذي صور الحراك الشبابي الغاضب بانه مجرد استهداف للعلاقة (التاريخية) بين الشعبين العراقي والايراني.

بُعيد اليوم الخامس للحراك، أي في السادس من تشرين الاول، استشعرت الاحزاب الشيعية حجم الخطر الشعبي الذي يهدد وجودها، كما اكتشفت انعدام قدرتها على اقتراح برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي يحتفظ بحد أدنى من العلاقة مع الشارع الغاضب نتيجة غموض رؤيتها، فعمدت الى خلط الأوراق عبر اتهام شباب تشرين الغاضب بالعمل تحت تأثير أجندات خارجية، أمريكية وسعودية على وجه التحديد، ولجأت الى اسلوبها القديم الجديد بتفعيل أذرعها العسكرية التي أخذت تلاحق الشباب الثائر ووسائل الاعلام التي غطت التظاهرات من خلال الهجوم على قنوات فضائية ومضايقة الصحفيين، واعتقال الشباب الذين يحتفظون بصور وأفلام عن الحراك بهواتفهم النقالة. كشفت التظاهرات حجم الهوة بين الاحزاب التي تدعي تمثيل “الطائفة الشيعية” عبر المتاجرة بمظلوميتها وبين أبناء هذه الطائفة من المسحوقين، ولم تكتشف تلك الاحزاب ان الحراك هو أقرب الى الصراع الطبقي بين أغلبية مسحوقة ومحرومة من أبسط حقوقها، واقلية سلطوية طفيلية مهيمنة على ثروات البلد ومقدراته، من أي صراع، طائفي أو مناطقي، حاولت تلك الاحزاب امتطاؤه خلال العقد ونصف العقد الماضيين، وتكاد جغرافية الحراك في بغداد ان تفك الاشتباك في زيف ذلك الادعاء، حيث تركزت الاحتجاجات والتظاهرات في مدن مكتضة بالسكان الذين تنتمي غالبيتهم المطلقة الى “الطائفة الشيعية” مثل مدن الصدر والشعلة وحي العامل والزعفرانية، وبذلك أجهض مشروع الدولة الثيوقراطية المستمدة من مفهوم دولة ولاية الفقيه، كما انحسرت بالتزامن مع ذلك سطوة الكهنوت الديني الذي يكاد عبر خطابه “الجمعوي” ان يقف على الحياد أحيانا، وأن يكون وسطيا ويقف في المنطقة الرمادية من الصراع أحيانا أخرى.

عرف العراق الحراك الجماهيري منذ عام 2006، وتنامى الحراك فيما بعد خصوصا في الأعوام 2011 و2015، غير ان المفاجأة كانت هذه المرة بحجم الحراك واتساع رقعته الجغرافية وتحرره من نفوذ الاحزاب واللجان التنسيقية التقليدية، وعلى الرغم من الرشا التي قدمتها الواجهات الرسمية للاحزاب السياسية الماسكة بمقاليد السلطة و تعاطيها مع الحراك بالمسكنات، لكن الشباب الغاضب سيرغم هذه الاحزاب وواجهاتها الرسمية على مواجهة الأسئلة الصعبة التي تحايلت على الاجابة عنها منذ عقد ونيف. فقد تسابقت الرئاسات الثلاث، الجمهورية ومجلس الوزراء ومجلس النواب، في تقديم مقترحات المشاريع التي تصب جميعها في حل أزمة المعيشة اليومية للشباب الغاضب. بمعنى آخر، تسابقت في تقديم الرشا لهؤلاء الشباب ثمنا لكسب المزيد من الوقت الذي سيمنح هذه الرئاسات، الممثلة للاحزاب السياسية، فسحة لالتقاط الانفاس والتعافي من هول الصدمة، وتجهيز ما تستطيع من أدوات العنف بغية القضاء على مكتسبات الحراك الجماهيري، وهو ما دشنته بالفعل أثناء سير الحراك عبر اطلاق الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه الساخنة ما أودى بحياة المئات من المشاركين بالحراك ومن بعض عناصر الأجهزة الأمنية بالاضافة الى إصابة أكثر من ستة الاف شاب بجروح بعضها خطيرة جدا.انفجار الغضب الكامن في الايام المقبلة سيجد الاجابة الشافية عن السؤال الذي شغل الشارع والمتابعين للشأن العراقي والذي مفاده؛ هل النظام السياسي في حاجة إلى إصلاح أم إلى نسف من الجذور؟.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here