مقدمة الكافي للشيخ الكليني الرازي ( ت 329هـ)،

مروان خليفات

عاش الشيخ الكليني في القرنين الثالث والرابع الهجريين ، وفي كتابه الشهير (الكافي) قدم لنا شيخ الامامية مقدمة بديعة، لم أجد نظيرا لها في كلمات المحدثين ومصنفي الحديث قاطبة !

تعكس هذه المقدمة ثقافة هذا العالم، وعمقه ودقته، واتقانه لكتاب الله، وفهمه لآياته ، كما تبين نظرته لتوحيد الله، والمامه باللغة العربية، وقدرته على البيان وتأثره بأحاديث وخطب أئمة العترة الطاهرة…

هذه المقدمة تحتاج إلى دراسة تحليلية، لعلي أشجع أهل الفهم والارادة لولوج هذا الميدان.

هذه مقدمته أضعها هنا، ليقتطف من ثمارها الناضجة أصحاب الأذواق السليمة، ثم أضع في التعليق الأول قراءة الشيخ حسن فرحان المالكي ( فرج الله عنه ) لها وتعليقاته عليها.

قال الشيخ الكليني رحمه الله : ( بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المحمود لنعمته المعبود لقدرته ، المطاع في سلطانه المرهوب لجلاله ، المرغوب إليه فيما عنده ، النافذ أمره في جميع خلقه ، علا فاستعلى ودنا فتعالى ، وارتفع فوق كل منظر ، الذي لا بدء لأوليته ، ولا غاية لأزليته ، القائم قبل الأشياء ، والدائم الذي به قوامها ، والقاهر الذي لا يؤوده حفظها والقادر الذي بعظمته تفرد بالملكوت وبقدرته توحد بالجبروت ، وبحكمته أظهر حججه على خلقه . اخترع الأشياء إنشاء ، وابتدعها ابتداء ، بقدرته وحكمته ، لا من شئ فيبطل الاختراع ولا لعلة فلا يصح الابتداع ، خلق ما شاء كيف شاء ، متوحدا ” بذلك لإظهار حكمته ، وحقيقة ربوبيته ، لا تضبطه العقول ، ولا تبلغه الأوهام ، ولا تدركه الأبصار ، ولا يحيط به مقدار ، عجزت دونه العبارة ، وكلت دونه الأبصار ، وضل فيه تصاريف الصفات . احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور ، عرف بغير رؤية ، ووصف بغير صورة ، ونعت بغير جسم ، لا إله إلا الله الكبير المتعال ، ضلت الأوهام عن بلوغ كنهه ، وذهلت العقول أن تبلغ اية نهايته ، لا يبلغه حدوهم ، ولا يدركه نفاذ بصر ، وهو السميع العليم ، احتج على خلقه برسله ، وأوضح الأمور بدلائله ، وابتعث الرسل مبشرين ومنذرين ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ، وليعقل العباد عن ربهم ما جهلوه ، فيعرفوه بربوبيته بعدما أنكروه ، ويوحدوه بالإلهية بعد ما أضدوه .

أحمده ، حمدا ” يشفي النفوس ، ويبلغ رضاه ويؤدي شكر ما وصل إلينا ، من سوابغ النعماء ، وجزيل الآلاء وجميل البلاء . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إلها ” واحدا ” أحدا ” صمدا ” لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ” وأشهد أن محمدا ” صلى الله عليه وآله عبد انتجبه ، ورسول ابتعثه ، على حين فترة من الرسل وطول هجعة من الأمم وانبساط من الجهل ، واعتراض من الفتنة وانتقاض من المبرم وعمى عن الحق ، واعتساف من الجور وامتحاق من الدين . وأنزل إليه الكتاب ، فيه البيان والتبيان ، قرآنا ” عربيا ” غير ذي عوج لعلهم يتقون ، قد بينه للناس ونهجه ، بعلم قد فصله ، ودين قد أوضحه ، وفرائض قد أوجبها ، وأمور قد كشفها لخلقه وأعلنها ، فيها دلالة إلى النجاة ، ومعالم تدعو إلى هداه . فبلغ صلى الله عليه وآله ما ارسل به ، وصدع بما أمر ، وأدى ما حمل من أثقال النبوة ، وصبر لربه ، وجاهد في سبيله ، ونصح لامته ، ودعاهم إلى النجاة ، وحثهم على الذكر ودلهم على سبيل الهدى من بعده بمناهج ودواع أسس للعباد أساسها ومنائر رفع لهم أعلامها ، لكيلا يضلوا من بعده ، وكان بهم رؤوفا ” رحيما ” .

فلما انقضت مدته واستكملت أيامه ، توفاه الله وقبضه إليه ، وهو عند الله مرضي عمله ، وافر حظه ، عظيم خطره ، فمضى صلى الله عليه وآله وخلف في أمته كتاب الله ووصيه أمير المؤمنين ، وإمام المتقين صلوات الله عليه ، صاحبين مؤتلفين ، يشهد كل واحد منهما لصاحبه بالتصديق ، ينطق الامام عن الله في الكتاب ، بما أوجب الله فيه على العباد ، من طاعته ، وطاعة الإمام وولايته ، وواجب حقه ، الذي أراد من استكمال دينه ، وإظهار أمره ، والاحتجاج بحججه ، والاستضاءة بنوره ، في معادن أهل صفوته ومصطفى أهل خيرته فأوضح الله بأئمة الهدى من أهل بيت نبينا صلى الله عليه وآله عن دينه وأبلج بهم عن سبيل مناهجه وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه ، وجعلهم مسالك لمعرفته ، ومعالم لدينه ، وحجابا ” بينه وبين خلقه ، والباب المؤدي إلى معرفة حقه وأطلعهم على المكنون من غيب سره . كلما مضى منهم إمام ، نصب لخلقه من عقبه إماما ” بينا ” ، وهاديا ” نيرا ” وإماما ” قيما ” يهدون بالحق وبه يعدلون ، حجج الله ودعاته ، ورعاته على خلقه ، يدين بهديهم العباد ، ويستهل بنورهم البلاد ، جعلهم الله حياة للأنام ، ومصابيح للظلام ومفاتيح للكلام ، ودعائم للاسلام ، وجعل نظام طاعته وتمام فرضه التسليم لهم فيما علم ، والرد إليهم فيما جهل ، وحظر على غيرهم التهجم على القول بما يجهلون ومنعهم جحد ما لا يعلمون ، لما أراد تبارك وتعالى من استنقاذ من شاء من خلقه ، من ملمات الظلم ومغشيات البهم . وصلى الله على محمد وأهل بيته الأخيار الذين أذهب الله عنهم الرجس [ أهل البيت ] وطهرهم تطهيرا ” .

أما بعد ، فقد فهمت يا أخي ما شكوت من اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة وتوازرهم وسعيهم في عمارة طرقها ، ومباينتهم العلم وأهله ، حتى كاد العلم معهم أن يأزر كله وينقطع مواده ، لما قد رضوا أن يستندوا إلى الجهل ، ويضيعوا العلم وأهله . وسألت : هل يسع الناس المقام على الجهالة والتدين بغير علم ، إذا كانوا داخلين في الدين ، مقرين بجميع أموره على جهة الاستحسان ، والنشوء عليه ، والتقليد للآباء ، والأسلاف والكبراء ، والاتكال على عقولهم في دقيق الأشياء وجليلها ،

فاعلم يا أخي رحمك الله أن الله تبارك وتعالى خلق عباده خلقة منفصلة من البهائم في الفطن والعقول المركبة فيهم ، محتملة للأمر والنهي ، وجعلهم جل ذكره صنفين : صنفا ” منهم أهل الصحة والسلامة ، وصنفا ” منهم أهل الضرر والزمانة ، فخص أهل الصحة والسلامة بالأمر والنهي ، بعد ما أكمل لهم آلة التكليف ، ووضع التكليف عن أهل الزمانة والضرر ، إذ قد خلقهم خلقة غير محتملة للأدب والتعليم ، وجعل عز وجل سبب بقائهم أهل الصحة والسلامة ، وجعل بقاء أهل الصحة والسلامة بالأدب والتعليم ، فلو كانت الجهالة جائزة لأهل الصحة والسلامة لجاز وضع التكليف عنهم ، وفي جواز ذلك بطلان الكتب والرسل والآداب ، وفي رفع الكتب والرسل والآداب فساد التدبير ، والرجوع إلى قول أهل الدهر ، فوجب في عدل الله عز وجل وحكمته أن يخص من خلق من خلقه خلقة محتملة للأمر والنهي ، بالأمر والنهي ، لئلا يكونوا سدى مهملين ، وليعظموه ويوحدوه ، ويقروا له بالربوبية ، وليعلموا أنه خالقهم ورازقهم ، إذ شواهد ربوبيته دالة ظاهرة ، وحججه نيرة واضحة ، وأعلامه لائحة تدعوهم إلى توحيد الله عز وجل ، وتشهد على أنفسها لصانعها بالربوبية والإلهية ، لما فيها من آثار صنعه ، وعجائب تدبيره ، فندبهم إلى معرفته لئلا يبيح لهم أن يجهلوه ويجهلوا دينه وأحكامه ، لأن الحكيم لا يبيح الجهل به ، والانكار لدينه ، فقال جل ثناؤه : ” ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ” وقال : ” بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ” ، فكانوا محصورين بالأمر والنهي ، مأمورين بقول الحق ، غير مرخص لهم في المقام على الجهل ، أمرهم بالسؤال ، والتفقه في الدين فقال : ” فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ” وقال : ” فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ” .

فلو كان يسع أهل الصحة والسلامة ، المقام على الجهل ، لما أمرهم بالسؤال ، ولم يكن يحتاج إلى بعثة الرسل بالكتب والآداب ، وكادوا يكونون عند ذلك بمنزلة البهائم ، ومنزلة أهل الضرر والزمانة ، ولو كانوا كذلك لما بقوا طرفة عين ، فلما لم يجز بقاؤهم إلا بالأدب والتعليم ، وجب أنه لا بد لكل صحيح الخلقة ، كامل الآلة من مؤدب ، ودليل ، ومشير ، وآمر ، وناه ، وأدب ، وتعليم ، وسؤال ، ومسألة . فأحق ما اقتبسه العاقل ، والتمسه المتدبر الفطن ، وسعى له الموفق المصيب ، العلم بالدين ، ومعرفة ما استعبد الله به خلقه من توحيده ، وشرائعه وأحكامه ، وأمره ونهيه وزواجره وآدابه ، إذ كانت الحجة ثابتة ، والتكليف لازما ” ، والعمر يسيرا ” ، والتسويف غير مقبول ، والشرط من الله جل ذكره فيما استعبد به خلقه أن يؤدوا جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة ، ليكون المؤدي لها محمودا ” عند ربه ، مستوجبا ” لثوابه ، وعظيم جزائه ، لأن الذي يؤدي بغير علم وبصيرة ، لا يدري ما يؤدي ، ولا يدري إلى من يؤدي ، وإذا كان جاهلا ” لم يكن على ثقة مما أدى ، ولا مصدقا ” ، لأن المصدق لا يكون مصدقا ” حتى يكون عارفا ” بما صدق به من غير شك ولا شبهة ، لأن الشاك لا يكون له من الرغبة والرهبة والخضوع والتقرب مثل ما يكون من العالم المستيقن ، وقد قال الله عز وجل : ” إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ” فصارت الشهادة مقبولة لعلة العلم بالشهادة ، ولولا العلم بالشهادة ، لم تكن الشهادة مقبولة ، والأمر في الشاك المؤدي بغير علم وبصيرة ، إلى الله جل ذكره ، إن شاء تطول عليه فقبل عمله ، وإن شاء رد عليه ، لأن الشرط عليه من الله أن يؤدي المفروض بعلم وبصيرة ويقين ، كيلا يكونوا ممن وصفه الله فقال تبارك وتعالى : ” ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ” لأنه كان داخلا ” فيه بغير علم ولا يقين ، فلذلك صار خروجه بغير علم ولا يقين ، وقد قال العالم عليه السلام : ” من دخل في الإيمان بعلم ثبت فيه ، ونفعه إيمانه ، ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه ” ، وقال عليه السلام : ” من أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله زالت الجبال قبل أن يزول ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردته الرجال ” ، وقال عليه السلام : ” من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكب الفتن ” .

ولهذه العلة انبثقت على أهل دهرنا بثوق هذه الأديان الفاسدة ، والمذاهب المستشنعة التي قد استوفت شرائط الكفر والشرك كلها ، وذلك بتوفيق الله تعالى وخذلانه ، فمن أراد الله توفيقه وأن يكون إيمانه ثابتا ” مستقرا ” ، سبب له الأسباب التي توديه إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله بعلم ويقين وبصيرة ، فذاك أثبت في دينه من الجبال الرواسي ، ومن أراد الله خذلانه وأن يكون دينه معارا ” مستودعا ” – نعوذ بالله منه – سبب له أسباب الاستحسان والتقليد والتأويل من غير علم وبصيرة ، فذاك في المشيئة إن شاء الله تبارك وتعالى أتم إيمانه ، وإن شاء سلبه إياه ، ولا يؤمن عليه أن يصبح مؤمنا ” ويمسي كافرا ” ، أو يمسي مؤمنا ” ويصبح كافرا ” ، لأنه كلما رأى كبيرا ” من الكبراء مال معه ، وكلما رأى شيئا ” استحسن ظاهره قبله ، وقد قال العالم عليه السلام : ” إن الله عز وجل خلق النبيين على النبوة ، فلا يكونون إلا أنبياء ، وخلق الأوصياء على الوصية ، فلا يكونون إلا أوصياء ، وأعار قوما ” إيمانا ” فإن شاء تممه لهم ، وإن شاء سلبهم إياه . قال : وفيهم جرى قوله : فمستقر ومستودع ” .
وذكرت أن أمورا ” قد أشكلت عليك ، لا تعرف حقائقها لاختلاف الرواية فيها ، وأنك تعلم أن اختلاف الرواية فيها لاختلاف عللها وأسبابها ، وأنك لا تجد بحضرتك من تذاكره وتفاوضه ممن تثق بعلمه فيها ، وقلت : إنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع [ فيه ] من جميع فنون علم الدين ، ما يكتفي به المتعلم ، ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام والسنن القائمة التي عليها العمل ، وبها يؤدي فرض الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وآله ، وقلت : لو كان ذلك رجوت أن يكون ذلك سببا ” يتدارك الله [ تعالى ] بمعونته وتوفيقه إخواننا وأهل ملتنا ويقبل بهم إلى مراشدهم .

فاعلم يا أخي أرشدك الله أنه لا يسع أحدا ” تمييز شئ مما اختلف الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه ، إلا على ما أطلقه العالم بقوله عليه السلام : ” اعرضوها على كتاب الله فما وافى كتاب الله عز وجل فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردوه ” و قوله عليه السلام : ” دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم ” وقوله عليه السلام ” خذوا بالمجمع عليه ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه ” ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله ولا نجد شيئا ” أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم عليه السلام وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله عليه السلام : ” بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم ” .

وقد يسر الله – وله الحمد – تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخيت فمهما كان فيه من تقصير فلم تقصر نيتنا في إهداء النصيحة ، إذ كانت واجبة لإخواننا وأهل ملتنا ، مع ما رجونا أن نكون مشاركين لكل من اقتبس منه ، وعمل بما فيه دهرنا هذا ، وفي غابره إلى انقضاء الدنيا ، إذ الرب عز وجل واحد والرسول محمد خاتم النبيين – صلوات الله وسلامه عليه وآله – واحد ، والشريعة واحدة وحلال محمد حلال وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، ووسعنا قليلا ” كتاب الحجة وإن لم نكمله على استحقاقه ، لأنا كرهنا أن نبخس حظوظه كلها . وأرجو أن يسهل الله عز وجل إمضاء ما قدمنا من النية ، إن تأخر الأجل صنفنا كتابا ” أوسع وأكمل منه ، نوفيه حقوقه كلها إن شاء الله تعالى وبه الحول والقوة وإليه الرغبة في الزيادة في المعونة والتوفيق . والصلاة على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين الأخيار .

وأول ما أبدأ به وأفتتح به كتابي هذا كتاب العقل ، وفضائل العلم ، وارتفاع درجة أهله ، وعلو قدرهم ، ونقص الجهل ، وخساسة أهله ، وسقوط منزلتهم ، إذ كان العقل هو القطب الذي عليه المدار وبه يحتج وله الثواب ، وعليه العقاب ، [ والله الموفق ]) .
الكافي ، ج 1 – ص 2 – 9.

مع تحيات
مروان خليفات

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here