دراما قراقوشية عبد الزهرة عراقي…أم لا؟

عادل حبه

جلس عبد علي في باحة داره الكائنة في محلة الصدرية وسط بغداد في أحد أيام أواخر تموز القائظ وهو ينصت إلى مارشات عسكرية تخرش الأذنين ومنبعثة من جهاز الراديو. وبعد حين لعلع صوت المذيع بحماس غير معهود وكأنه يريد ان يخرج من بطن الراديو ليزف إلى المستمعين الضجرين بشرى استمرار الثورة المباركة وإقدام حلفاء الامس على الاطاحة احدهم بالاخر بذرائع العمالة لاسرائيل والعمل لتحرير فلسطين واعلاء شأن الثورة القومية البيضاء، التي اصبح اسمها اطول من سابقاتها لتسمى ثورة 17-30 تموز العقائدية!!. انقطعت انفاس عبد علي بعد سماعه الخبر وإصفّر لونه، ثم تنهد وجر نفساً عميقاً قبل ان يطرح على نفسه السؤال التالي:

– يبدو ان الثورة هذه المرة قد طالت. لقد عودتنا الثورات السابقة أن تحسم أمرها خلال دقائق او ساعات مع إعلان بيانها الاول، ثم تزف بشرى الانتصارات والوعود بتحرير فلسطين. فماذا يحدث اليوم؟ الله الساتر. هل سيعاودون الكرة مرة ثانية ليكرروا ما قاموا به من بشاعات في شباط من عام 1963!! اللهم هو الحافظ.

تمتم مع نفسه بهذه الكلمات، وقد أرجعته الذكريات إلى تلك الايام الثقيلة من أيام شباط عام 1963، عندما تحول حي الأكراد ومحلة باب الشيخ في بغداد الى ميادين للمجازر. ففي تلك الفترة شن الحرس القومي هجماته على حي الصدرية وحي الأكراد والاحياء المجاورة وشرع باعتقال المئات من شباب هذه الاحياء بتهمة مواجهة الانقلاب والعمالة لقاسم والشعوبية والشيوعية والعداء للوحدة العربية!!. وقتها اعتقل هو الآخر دون ان يعرف سبباً لذلك. فهو ليس شيوعياً ولا شرگاوياً ولا شعوبياً، حتى أنه لا يعرف معنى الشعوبية. وتذكر عبد علي كيف نقل مع المئات من أبناء وبنات المحلة إلى معسكر خلف السدة ليلقى هناك التعامل “المناسب” والعبث المطلوب. انتابته قشعريرة رغم قيض تموز وهو يتذكر تلك الايام الشباطية، وتمنى ان لا تعود هذه الغمامة مرة اخرى وتخيم على درابين الصدرية. وبينما كان عبد علي غارقاً في هذه الدوامة وهو يرتشف تباعاً الشاي من القدح المنتصب امامه لعله يسكّن من القيظ التموزي اللعين حتى سمع ضجيج وصراخ غير عادي ظنّه للوهلة الاولى صراخ رجال الحرس القومي في تلك الايام الشباطية اللعينة. ولكنه سرعان ما صحى وأدرك إن هذا الصراخ ماهو إلا صراخ زوجته زنوبة الحامل بطفلهم الاول المرتقب. وسارع باتجاه الغرفة ولمح زوجته ممدة على السرير رافعة بطنها المنتفخة وهي تتلوى ألماً ومطالبة إياه بالبحث عن القابلة والأتيان بها على وجه السرعة. أرتبك قليلاً… فهذه تجربته الأولى، إلا أنه سرعان

ما استعاد زمام الأمور ليتجه إلى غرفة والدته الحاجة بسعاد ليخبرها بالأمر لعلها تسعفه وهي الخبيرة والعارفة بشؤون المرأة وأسرارها.

خرجت الحاجة بسعاد بقامتها الفارعة وجسمها المتين من غرفتها إلى الباحة وهي تسبّح بمسبحتها الطويلة وتسير الهويدا بإتجاه غرفة زنوبة. وما أن لمحتها حتى أيقنت وهي الواثقة من نفسها إن ساعة المخاض قد حانت وما على عبد علي إلا أن يسرع باستدعاء القابلة العلوية زهوري التي اشرفت على ولادة غالبية أولاد وبنات الحارة. وبألتفاتة ذات مغزى أصدرت الحاجة بسعاد أوامرها الصارمة إلى ابنها لكي يسرع بإستدعاء العلوية زهوري بعد ان سخرت من “دلع” كنّتها. وأنطلق عبد علي كالصاروخ وخرج من الباب الضيق لبيتهم البغدادي القديم ليتجه بلمح البصر إلى بيت القابلة زهوري.

وقف وهو يلهث أمام بيت القابلة، وبدأ بقرع الباب بقوة. وكرر ذلك عدة مرات ثم سمع صراخاً مصحوباً بالتأنيب من داخل البيت بسبب استمراره في قرع الباب الذي اخذ يهتز من شدة الطرق. فُتحت الباب العريضة على مصراعيها ليظهر جسم ضخم وبدانة غير معهودة وخدود حمراء كالطماطم لامرأة تلف بدنها بعباءة سوداء وتحمل بيدها حقيبة متوسطة. إنها القابلة العلوية زهوري وقد حملت جميع معدات التوليد، فهي الخبيرة بنوع الطرقات على الباب وتفرق بين من يأتي لطلب المساعدة للتوليد وبين طرقات بائع الخضرة اللعين جمولي الاگرع الذي يلح في اصراره على طلب الزواج منها. وما أن لمحت الطارق حتى عرفته، فهي تتابع الزيجات والحوامل وعدد شهور الحمل لكي ترتب مصروف البيت وأمورها المعاشية تبعاً لذلك. بدأ عبد علي يهرول صوب البيت ويدير رأسه بين الفينة والأخرى ليلمح القابلة تسير بخطى بطيئة بسبب كتل الشحم المترسبة في جسمها. وكان عبد علي يدعوها بين الفينة والأخرى لكي تحث الخطى لإنقاذ المسكينة زنوبة وتلد له الوريث الأول. إقتربا من البيت وسبقت العلوية زهوري عبد علي محاولة الدخول الى البيت، ولكنها واجهت صعوبة في اقتحام الباب الضيق. وما كان على عبد علي الا أن يدخل أولاً لكي يفتح الشق الآخر من الباب بحيث يتسع لهذا الجسم البدين و تتمكن القابلة من الولوج إلى باحة البيت. وهكذا إستطاعت القابلة التسلل الى الباحة بعد شق الانفس، وقد غرقت في عرقها وهي تردد سورة “قل هو الله أحد” المرة تلو الاخرى.

أقتحمت العلوية زهوري غرفة زنوبة بدون انتظار إذن من عبد علي، فقد كان دوي صراخ الزوجة الحامل خير مرشد للقابلة ليقودها إلى الغرفة. كانت الحاجة بسعاد قد أعدت كل شئ بانتظار العلوية، التي بدأت فور ولوجها الغرفة إلى ممارسة عملها وبمهارة فائقة. راح عبد علي يصول ويجول في الباحة، ويلتمس الدعاء من الخالق الرحمن الرحيم والرسل المعصومين والأئمة الأطهار لكي يرزقه بوريث يحمل اسمه واسم العائلة. ومرت لحظات ثقيلة ومتعبة وهو ينصت الى صراخ زنوبة الذي تحول الى أنين من شدة تعبها. وفجأة انطلق صوت غريب وبكاء خافت وضجيج غير معهود في الغرفة لتخرج الحاجة بسعاد وبسمتها العريضة على

وجهها النوراني لتعلن النتيجة إلى عبد علي مصحوبة بالزغاريد المعهودة التي تتجاوز في دويها تلك التي رددتها خلال يوم زواجه.

نعم أنه صبي، لقد رزقنا الله بولد!!!. رددت الحاجة هذه الكلمات عدة مرات وتدفقت قطرات الدمع من عيني عبد علي وأمه فرحاً بهذه المفاجئة السارة. راح عبد علي يطوف في الباحة بدون وجهة أو قصد وهو لم يصدق الحدث ولم يستوعب بعد مغزاه. بعد حين من الوقت نودي عليه واذا به يواجه بقطعة لحمية اشبه بجرو الكلب عند ولادته، وانتابته الدهشة من هذا الهيكل الصغير. نظر بعطف إلى زنوبة التي كانت غارقة في عرقها وهي اقرب الى جثة هامدة منها إلى موجود حي، وطبع على جبينها عدة قبلات دافئة. وما ان لامس عبد علي بدن ظناه بتردد ومسح خدي الوليد حتى سمع صوت والدته لتخبره بصرامة بإسم الوليد الجديد وحفيدها الاول.

نسميه عبد الزهرة…..هكذا قالت الحاجة بسعاد وبلحن ينم عن الإصرار وعدم الاستعداد لسماع أي رأي معارض. وافق عبد علي على الاسم، فهو لا يريد أن يرد طلباً لوالدته التي اوصى رب العالمين بني البشر بحب الوالدين ووالإحسان لهما وطاعتهما.

خرج من الغرفة وهو في أتم الانشراح والاحساس بالرجولة والابوة. وبدأ يفكر بمستقبل الوليد الجديد ودراسته ثم ذهابه إلى الكلية. وانتابته الحيرة عن المهنة التي سوف يتقنها الوليد الجديد. هل سيصبح طبيباً أو مهندساً أو محامياً؟ ولكن سرعان ما تنبه إلى ضرورة الاحتفال بهذه المناسبة التاريخية وأن يوزع شربت ماء الورد المهيّل على الأقارب والمعارف والجيران. وما كان عليه إلا ان يذهب الى بقالية داود الحشاش الواقعة في محلة القاطرخانة، لانه افضل من يبيع ماء الورد في المنطقة. كما كان عليه ان يسرع نحو محلة الهيتاويين ليشتري “البقصم” و”الچرك” من محل عبودي الچركچي الواقع مقابل جامع المصلوب. وهكذا شد الرحال وأسرع الى مقصده، ثم عاد وهو محمل بكل ما يحتاجه من وسائل الاحتفال بالمناسبة السعيدة. بالطبع عرج على عزيز ابو الثلج لكي يحصل على قالب من الثلج لاضافته إلى الشربت لعله يطفأ حرارة صدور المحتفلين. وبدأت مراسيم الاحتفال بتوزيع شربت ماء الورد وسط زغاريد نساء الحارة. ولم ينس عبد جيرانه في العمل مثل حمودي الطرشجي والرگاع احمد شمه وبقية جيرانه الطيبين.

أخذت حياة العائلة وتأمين حاجة الطفل مجراها. وأحس عبد علي بقدر من الاستقرار والسعادة خاصة وقد بدأ الوليد ينمو وشرع يناغي ويهدي الوالدين ضحكاته الطفولية البريئة. إلا أن زنوبة كانت تفكر بمستقبل الطفل، بدراسته ثم تخرجه وزواجه وهو لم يبلغ بعد شهره السادس. وبدأت الزوجة تلح على عبد علي يومياً بضرورة تسجيل عبد الزهرة في دائرة النفوس حتى يتم الحصول على جنسية له. وبالرغم من مشاغل عبد علي في ورشته المتخصصة بتأجير وتصليح الدراجات الهوائية، إلا أنه وبسبب من اصرار زنوبة، غلق ورشته في صبيحة أحد الايام وذهب إلى دائرة النفوس للحصول على جنسية للطفل عبد الزهرة. ولم ينس أن يأخذ معه جنسيته وجنسية زنوبة وجنسية امه والمرحوم والده. وكالعادة كانت

الدائرة مزدحمة بالمراجعين الذين تعالت توسلاتهم وصيحاتهم هنا وهناك مما ذكره بسوق الهرج أو ضجيج سوق الصفافير.

وبعد ساعات من الانتظار وتلقي الرفسات واللكمات من جموع المراجعين، وجد نفسه فجأة امام الموظف المسؤول. كان الرجل قد قارب الستين من العمر…. أصلع الرأس ويضع على عينيه نظارات سميكة بحيث تثير عينيه لدى الناظر الخوف والرهبة. سأل الموظف المراجع عبد علي عن حاجته، ورد على الفور:”أريد جنسية لأبني عبد الزهرة”. قالها بسرعة وبتلهف ووضع الأوراق وشهادة الميلاد أمامه. سأله الموظف هل جلبت معك العثمانية؟؟

إندهش عبد علي من هذا السؤال الغريب وقال له: إنني عراقي أبن عن جد ولست عثمانياً لكي احوز على الجنسية العثمانية!!

ضحك الموظف من بلاهة عبد علي او ربما شيطنته، وخمن أنه يسعى الى إخفاء تبعيته الإيرانية وقال: آه …. لابد انك من التبعية الأيرانية!!؟.

عاد عبد علي وأقسم بالمقدسات والاولياء بأنه عراقي من اب عن جد ويعود نسبهم الى الصنايعية العباسيين.

دعنا نرى… وندقق.!! قالها الموظف بتهكم وثقة ونهض من على كرسيه بعد أن ألقى نظرة على الأوراق، واتجه نحو رفوف السجلات المتربة. وبعد مضي وقت ليس بالقليل عاد ومعه السجل الذي تعالت منه موجات الغبار والأتربة العالقة. فتح الموظف السجل وبحث عن القيد ثم فغر فاه بدهشة وخاطب مراجعه بعصبية ونهره قائلاً:”انت اتيت تطلب شهادة جنسية لشخص متوفى …؟. إن هذا تزوير في تزوير”.

وبدأ الموظف بتوجيه الاتهامات تلو الإتهامات التي وصلت إلى حد التهديد بالشرطة والأمن العام والخاص والمخابرات ووو..وغيرها من الاجهزة المرعبة الجديدة والتي لم يسمع بها قبلئذ والتي تزايدت أعدادها في الآونة الاخيرة وفي ظل الحكم العقائدي. ما أن تلقف عبد علي كل هذه التهديدات حتى ارتعدت فرائصه من الرعب وكش جسمه من الخوف، وجمع الاوراق وانسل بسرعة من وسط الجمهرة التي إجتذبها الفضول ولاذ بالفرار.

وصل إلى البيت وهو يلهث من شدة الرعب والتعب مما أثار القلق والفضول لدى زوجته وأمه. وبعد إصرار الزوجة والام بدأ عبد علي يشرح بالتفصيل الممل رحلته إلى مديرية السفر والجنسية وما صادفه من تعامل وإمتناع عن منح جنسية إلى الوليد الجديد. وما أن إستمعت زنوبة إلى رواية زوجها حتى تعالى صراخها وهي التي لم يكن يهمها سوى ان يحصل عبد الزهرة على الجنسية لكي يدرس ويدخل كلية الطب ويتحقق حلمها. فاق عبد علي بعد حين من هول الحدث واخذ يتمتم: رب ضارة نافعة. نعم رب ضارة نافعة. مالنا والمدرسة. إذا ذهب عبد الزهرة الى المدرسة فلربما سيعاشر الشيوعيين ومن ثم يتحول البيت الى محل للإجتماعات ويصبح هدفاً لرجال الامن ليفتشوا البيت على الدوام ويلقوا القبض على عبد الزهرة وأبو عبد الزهرة، ولربما حتى أم عبد الزهرة وجدته. اللعنة على المدارس ومن أبتدعها، قالها عبد علي بحقد دفين. ثم تذكر عبد علي أمراً لم تقوده فطنته

إليه وهو أن بقاء عبد الزهرة بدون جنسية هو أفضل له لكي يتحرر من الخدمة العسكرية والذهاب الى الشمال ليلقي حتفه.

غمرته الفرحة من هذا الاكتشاف، وتمتم عبد علي قائلاً: من الأفضل أن يعمل عبد الزهرة معه في ورشة الدراجات الهوائية ويحصل على لقمة العيش ويحافظ على ورشة والده…!! مالنا والخدمة العسكرية وكلية الطب والعلوم والهندسة التي لا تجلب لنا سوى وجع الرأس.

ساد الوجوم أجواء البيت، وزاد بكاء ومنغصات زنوبة ومشاكساتها مع زوجها بسبب ماآلت اليه مشكلة جنسية الطفل عبد الزهرة. مرت على الطفل الشهور والسنوات ولكنه بقي بدون هوية تثبت عراقيته وتعينه على الدراسة والسفر والزواج وكل ما يحتاجه مواطن اية دولة. ومما ضاعف من المنغصات هي تلك المظاهر التي عمت البلاد خلال تلك السنوات. فقد تتابعت محن ساكني محلة الصدرية خاصة بعد موجة التهجير والتغييب والاعتقال لدوافع سياسية أو بحجة التبعية الايرانية وهم الذين خدموا الدولة وجيشها وشرطتها ودوائرها من أب عن جد. ومما زاد الطين بلة هي موجة الإعتقالات العشوائية التي كانت تثير الرعب لدى سكان الحي تارة بدعوى الشيوعية او الدعوة او الإحتجاج مهما كان بسيطاً على الوضع حتى ولو كان ذلك يمس عطل المجاري وإنقطاع الكهرباء.

في تلك الفترة ظهر نمط جديد من الاحداث لم يعهدها أو يشهدها أهالي بغداد…انها موجات الرعب ومسلسل الاعدامات في الشوارع وآخرها وليس أخيرها حادثة الجزار أبو طبر الذي أثار الرعب لدى سكان العاصمة. إن هذا الشرير كان يجوب الأحياء في الليل ويداهم البيوت على غرار مداهمات رجال الأمن، ويقطع رؤوس وأوصال ساكنيها بدون أية دوافع معلومة. وتفنن أهالي الحارة في اساليب حماية بيوتهم وعوائلهم. وراح البعض منهم يخرج السيوف والقامات القديمة الصدئة التي كانت تستخدم في تشابيه عاشوراء، أوغدارات “السفر بر” وحتى لعب الأطفال التي تصدر اأصواتاً تشبه اطلاقات المسدسات والبنادق الحقيقية لكي يخففوا من رعبهم ويواجهوا به هذا الطاغوت الجديد. وراجت سوق الإشاعات حول هوية هذا الشرير جراء عدم قدرة الحكومة بكل اجهزتها المخيفة وافرادها من ان يعترضوه ويقبضوا عليه. وكان الجواب جاهزاً لدى اللبيب رحومي الحلاق وهو العارفة والاكثر خبرة من سائر افراد الحارة بالأخبار والاشاعات وببواطن الحياة واسرارها ليعلن بهمس ولكن بثقة العارف ان هذا من فعل الحكومة لكي تزرع الخوف بين الناس. عندها اصبح الصمت والسكوت على أبي طبر ومن يقف ورائه شعار اأبناء الحارة المرعوبين وسيد الموقف.

ثم بدأت تظهر نماذج جديدة من الشرطة السرية والامن اكثر قسوة، وغالباً ما كانت شواربهم تتدلى على جانبي افواههم على شاكلة عدد 8. واشاع رجال السلطة آنذاك إن هذا النمط من الشوارب هو مظهر من مظاهر التيمن بيوم 8 شباط البغيض لتصبح بديلاً عن تلك الشوارب الملتوية إلى الاعلى كشارب رحومي الحلاق والتي كانت تعبر عن الرجولة والعنفوان والشهامة والمروءة والمعرفة. ولم يعد عبد علي يسمع في الحارة سوى اختطاف فلان واعدام علاّن. ولم يسلم من هذا العبث حتى

أولئك المتزلفين للمتسلطين الجدد. وكان رجال الأمن يطلبون هذا الشخص او ذاك مرافقته لمدة خمس دقائق لا غير ثم يزول أي اثر لمن يذهب معهم. وشرع أهل الحارة يطلقون على هؤلاء اسم “جماعة الخمس دقائق”. ولم يفلت من “جماعة الخمسة دقائق” حتى العديد من قادة الثورة القومية التي قيل عنها بيضاء وناصعة البياض. وما كان على عبد علي عندما يدخل “صناديد” السلطة الا ان يخبأ عبد الزهرة في زاوية من زوايا الورشة أو يختلي بواحد من هؤلاء “الصناديد” ويدفع له قدراً من ما رزقه الله ليغضوا النظر عن ورشته ويحمي أبنه من أية أحتمالات غير متوقعة وغير سارة. وفي الحقيقة فقد تغير كل شئ بحيث طال التغيير القيم والجغرافيا بل وحتى التاريخ أيضاً..نعم التاريخ القديم والحديث. فقد شاع في الحارة أن الإمام الحسين لم يتم الغدر به على يد يزيد الأموي وغلامه الشمر بل صعق بأحد صواعق الرعد الكهربائية وفارق الحياة!!! لم يصدق عبد علي هذا الأمر العجيب وهو الذي كان يلطم أيام عاشوراء ويلعن يزيد. وإلتجأ الى عارفة الحي رحومي الحلاق ليستمد منه المدد والعون. ضحك رحومي من هذه الحكاية وقال إن السبب في هذا التغيير هو وصول أرتال من الاخوة السوريين اللاجئين. ولكي لا يتم الإخلال بآداب الضيافة والإساءة الى أجدادهم، فقد تم فبركة هذه الحكاية الاسطورية المثيرة للضحك. وهكذا شرح رحومي لعبد علي جوهر القضية وضحك الإثنان ضحكات صامتة ذات مغزى.

مرت الأيام وحدثت الطامة الكبرى عنما دوت في أحد أيام الصيف صفارات الانذار، وهي ظاهرة جديدة لم يعهدها ساكني محلة الصدرية. ثم سمع دوي انفجارات هائلة على مرمى قريب من الحارة. انتاب الرعب الجميع وبدأت الاسئلة تطرح نفسها في الحارة عن مصدر هذه الانفجارات. هل هي ثورة جديدة أم إنقلاب جديد أم ماذا؟ هرع عبد علي الى الراديو لعله يسمع ما يشفي غليله، الا انه لم يسمع الا اهزوجة “هلهوله للبعث الصامد”. وبعد حين عاد وأدار قرص الراديو وسمع اصوات الموسيقى العسكرية والمارشات التي قطعت على حين غرة ليعلن المذيع عن بيان هام من القيادة العامة للقوات المسلحة. كان البيان مزيجاً من الشتائم والسباب وعبارات المجوس والقادسية والبوابات الشرقية والوسطى والغربية والقعقاع والخاسئون والبائسون بحيث لم يستطع ان يدرك الأمر إلا بعد ان ختم البيان باعلان عن شن القوات الجوية هجماتها على الاراضي الايرانية وما تبعها من قصف متبادل بين الطرفين. أدرك عبد علي أن طبول الحرب المخيفة قد دقت ولا يعلم إلا الخالق الى أين ستؤدي ومتى ستنتهي. دارت هواجس وكوابيس مرعبة في رأس عبد علي، ولكنه رفع يديه شاكراً الرحمن الرحيم على إن عبد الزهرة سوف لا يتم استدعاءه للذهاب إلى الجبهة لأنه لا يحمل جنسية عراقية على الاطلاق مما أثار لديه قدراً من الأمل وخفف من رعبه وقلقه على وحيده.

في الأيام الاولى من الحرب ما كان عبد علي يسمع من الراديو او يشاهد على شاشة التلفزيون الا الدبكات والهوسات المملة والمكررة “ما أحلى النصر بعون الله”. ولكن الدوائر دارت واشتد رحى الحرب الضروس لتنقلب بعد شهور على مشعليها. وبدأت توابيت ضحايا هذه المجزرة تتوافد على أزقة الصدرية وهي تحمل

جنائز شبيبة الحي وسط أصوات بكاء وعويل أهالي الحارة. وفي أحد الايام جلبت جنازة الابن البكر لجاره حمودي الطرشچي. وما أن جلب الانضباط العسكري ومعهم شلة من الحزبيين الذين يرتدون ملابس زيتونية حتى أخذ حمودي يلطم على رأسة وسط ولولة الام المسكينة. كان رحومي الحلاق وسط هذه الجمهرة يتابع المشهد وتوجه بحذر إلى مسؤول الفريق الذي جلب الجنازة، وسأله:هل ستعطون أهل الشهيد سيارة وقطعة أرض سكنية؟.

ورد عليه الانضباط العسكري بغضب: ليش السيارة وقطعة الارض تعطى لمن هب ودب من الشهداء؟؟ السيارة وقطعة الارض تعطى للضباط والرفاق وأعضاء فرق الاعدام فقط. وطلب من رحومي الكف عن فضوله وعدم التدخل بما لا يعنيه. وأنسل رحومي من وسط اللمة ليتجنب ما لا يحمد عقباه.

قام الجمع بإدخال الجنازة إلى داخل البيت وسط العويل والبكاء. وبادر أحدهم برفع غطاء التابوت. ووسط دهشة ورعب الجميع بمن فيهم اؤلئك الذين جلبوا الضحية، فقد لاحظوا ان للجثة ثلاث سيقان… نعم ثلاث سيقان!!. عندها أصاب الرعب حتى الانضباط العسكري الذي كاد يلوذ بالفرار. وتوقف البكاء والعويل على حين غرة وساد الصمت الذي تتخلله بعض التعليقات اللاذعة. اقترب حمودي الطرشجي من التابوت ليحسب عدد السيقان ويتأكد بنفسه. وهنا تدخل عبد علي ليطرح على الإنضباط العسكري وملتحفي الزيتوني السؤال التالي:

الولد عندما ذهب الى الجبهة كان لديه ساقان رأيتهما بأم عيني، فمن أين جاءت الساق الثالثة؟.

استعاد رئيس الفريق أعصابه، واخذ زمام المبادرة وقال بعنجهية وبثقة واضحة:الساقان تعودان إلى الشهيد، وأما الثالثة فهي مكرمة من القائد المنصور!!

تباينت ردود الفعل ازاء هذا التوضيح لدى الجمع بين مندهش وساخر من الجواب. وانبرى عبد علي قائلا ببلاهةً واضحة: يعني مكارم الرئيس تنوعت من توزيع التلفزيونات، لكي يشاهد الخلق طلعة الرئيس، لتشمل اشلاء البشر أيضاً!!. قالها بلحن أقرب الى الجدية والفضول، ولكنه أثار الضحك والسخرية والدهشة لدى الجمهور الفضولي من جرأة عبد علي غير المقصودة.

ارتبك المسؤول من تعليقات وتساؤلات عبد علي ولكنه رمقه بنظرات تنم عن التهديد والوعيد مما دفع عبد علي إلى السكوت، وترك الساحة ليتفادى غضب أولى الامر. تولى الأب وعدد من أهالي الحارة أمر التابوت لكي يدفنوا الضحية. أما البقية فقد راحت تهرول مغادرة المكان لكي تتجنب طغيان موفدي الرئيس القائد. في الطريق إلى البيت كان جل هواجس وتفكير عبد علي منصباً على هذه المكرمة والهدية العجيبة من السيد الرئيس. حقاً انه رئيس عجيب… ردد عبد علي هذه الكلمات مع نفسه لكي لا يسمع به أحد. نعم أنه رئيس غريب فهو الذي يعلم العراقيين كيفية تحضير الشاي وتناوله وكيفية ترتيب الثلاجة المنزلية وطريقة تعدد الزوجات بحيث يساعدهم في اختيار الزوجة الثانية والثالثة والرابعة، ويتدخل في صنع صواعق القنبلة الذرية وفي إدارة العمليات الحربية، وهو ضليع في القانون والكيمياء والفيزياء والهندسة المعمارية والعولمة وكتابة الحكايات، وتجاوزت

ألقابه اسماء الله الحسنى، وأصبح بقدرة قادر سليل النبي!!! حقاً إنه شخصية عجيبة وفلتة هذا الزمان.

وصل إلى البيت مذهولاً وهو يروي لزوجته وأمه ذلك المشهد الغريب الذي شاهده. كان في قرارة نفسه مرعوباً من احتمال ان تدور الدوائر على وحيده عبد الزهرة ايضاً وتشمله موجة التجنيد التي أخذت تشمل اوساطاً واسعة من شباب الحارة وحتى شيوخها، خاصة بعد أن أخذت الاذاعات الخارجية تتحدث عن المعارك الطاحنة ونزول القوات الايرانية على ضفاف شط العرب. هذا الاحساس تضاعف عنده رغم إن عبد الزهرة لايحمل الجنسية العراقية، ورغم تطمينات القائد المنصور وأجهزة دعايته بالانتصارات التي يحققونها.

وفي صبيحة أحد الايام استيقظ عبد علي من نومه على دقات قوية تعصف بباب بيته. استيقظ الجميع وراح عبد علي يهرول إلى الباب. ما أن فتح الباب حتى بان هيكل الحاج فتحي الضخم مختار المحلة ومعه شلة من الانضباط العسكري وعدد من مرتدي الملابس الزيتونية. كان المختار بعقاله الغليض وزبونه البغدادي المذهب وكرشه ووجه المدور وكأنه يقطر دماً مرتبكاً بعض الشئ وهو يسلم عبد علي رسالة مطبوعة على الآلة الكاتبة. وقبل ان يسلمها، قرأ المختار نص الورقة وفهم عبد علي أنها ورقة استدعاء عبد الزهرة إلى الخدمة العسكرية.

ارتبك عبد علي وقال للوفد بلهجة تنم عن الاعتراض: إن عبد علي ليس لديه جنسية عراقية وامتنعت دائرة النفوس عن اعطائه الجنسية، إضافة إلى أنه لم يبلغ بعد سن الخدمة العسكرية؟؟

أجابه الحاج فتحي بلهجة آمرية: الجنسية غير ضرورية والعمر غير مهم لمن يريد تأدية واجب الدفاع عن الوطن المقدس وقادسية السيد الرئيس، سندبر له كل شئ في الجبهة.

عقب عليهم عبد علي والألم يعتصر قلبه: لكن الوطن لم يعط لعبد الزهرة الجنسية حتى يدافع عنه. وأن موظف الجنسية اكد بأن عبد الزهرة في عداد الموتى. وراح عبد علي يهذي، ولكن هذه الحجج لم تسعفه في إنقاذ فلذة كبده. توجه عبد علي والخيبة تغمره إلى داخل البيت ليخبر زنوبة وأمه بالمصير الذي ينتظر عبد الزهرة. عليه ان يذهب إلى الجندية….بهذه الكلمات أخبر زوجته التي ما أن سمعت كلامه حتى انهمرت دموعها، وأصبح النحيب والأنين واللطم سلطان المشهد المأسوي.

مرت الايام بسرعة ولم تعد العائلة ترى ابنها إلا ما ندر. غيبة الوحيد أشاعت الوحشة في البيت خاصة وانها ترافقت مع تواتر أخبار مقلقة عن جبهة الحرب وخسائرها البشرية والمادية وتزايد استياء الناس من هذه الحرب واستمرارها.

وحصل ما كان عبد علي يخشاه عندما سمع طرقات الباب في أحد الأمسيات. وما أن فتح الباب حتى لاحت وجوه يغطيها الوجوم والارتباك. نفر من العسكريين بوجوههم الصارمة وأمامهم تابوت لنقل الموتى. خاف ان يستفسر منهم، غير أنه أدرك ان المصيبة قد حلت. وأخيراً ها هو يفقد وحيده الذي غادر الدنيا بدون جنسية عراقية. ساد الحزن وارتفعت أصوات النحيب واللطم وتجمع الجيران ليشاركوا جارهم بالمصاب الجلل. أخذ عبد علي يولول بعتابة شجن على ولده وعلى هذه

الدنيا التي لم ير منها إلا المحن والمصائب. نظر إلى زنوبة وكانت في حالة من شبه الاغماء لفقدان أعز مالديها. كاد الجمع أن يهاجم من جلبوا الضحية، إلا أن هؤلاء أدركوا الخطر وتركوا الساحة بعد ان رموا بشدة من الاوراق النقدية على التابوت. أحس عبد علي أنه قد فقد الكثير برحيل وحيده، ولم يعد يعرف كيف يتصرف في هذه تلك اللحظات وما يتوجب عليه فعله. لم يكن يفكر بمراسيم الدفن ولا بالإجراءات الأخرى وأضحى بلا حول ولا قوة على فعل شئ. أحس الجمع بمشاعر الأب المنكوب وتقدم الواحد تلو الآخر للتخفيف عنه وإخراجه من هذه الدوامة.

تطوع أحمد شمه الرگاع للتوجه الى الجهات المعنية للحصول على شهادة الوفاة. ولكنه رجع بخفي حنين لأن المرحوم لم يكن لدية جنسية عراقية. خيم الوجوم على الجميع وحاروا في كيفية تذليل هذه العقبة. قام آخرون بتهيئة لوازم السفر لدفنه في وادي السلام إلى جانب قبر جده في النجف الاشرف. لم يرافق عبد علي إلا أحمد شمه بهيكله القوي وحمودي الطرشچي الذي كانت لديه خبرة في دفن ولده الشهيد. إتجهت السيارة في البداية نحو كربلاء والى المغيسل لتطهير الجثة ثم الطواف بحضرة الأمام الحسين وأخيه العباس. ثم انطلقت السيارة بسرعة نحو النجف حيث طافوا بضريح الامام علي، وساروا بعدئذ بإتجاه وادي السلام لدفنه. وما ان دنت السيارة حتى تراكض الدفانون كعادتهم لكي يفلح أحدهم في إقتناص الغنيمة وقبض ثمن أتعابه. ما أن تم انزال التابوت حتى طالب الدفان كالعادة بشهادة الوفاة. وكان الجواب إن الشهيد ليس لديه شهادة وفاة!! إمتنع الدفان من انجاز مهمة وضع الجثمان في مثواه الاخير، وانتابته الشكوك، فلربما كانت الجثة تعود لمعارضي النظام مما سيسبب للدفان عواقب غير محمودة. حاول أحمد شمه بإصرار تقديم المغريات للدفان ولكن دون جدوى. وأخيراً استقر رأي الثلاثة على النزول من هضبة وادي السلام نحو بحر النجف والقيام بدفن الضحية في الصحراء بعيداً عن أعين الدفانين ووكلاء السلطة.

إنحدر الثلاثة ومعهم الجثمان نحو بحر النجف. وما ان ساروا بضعة مئات من الأمتار حتى لاح طابور من السيارات محملة بالرجال والشباب والنساء والأطفال. وكانت شلة من العسكريين ورجال المخابرات تحرس الطابور مستخدمين عدد من البلدوزرات. توقف الثلاثة عند مشاهدتهم الطابور الغريب عن بعد واختفوا وراء أحد الكثبان الرملية، وراحوا يتابعون المشهد بفضول. بدأ سائقوا البلدوزرات بحفر الخنادق حال وصول الموكب. وبعد حين تم انزال الركاب من الناقلات تباعاً. وإثر ذلك حدث مشهد مرعب لا يمكن تصديقه ارتعدت خلالها فرائص الثلاثة من وحشية ماجرى. فقد شرعت شلة من الحرس بإطلاق النار عشوائياً على كل الذين جلبوا بالناقلات. كان المنظر بالنسبة لعبد علي ومرافقيه أشبه بمناظر افلام العنف الامريكية. وبعد حين عم السكوت وبدأ أزيز البلدوزرات من جديد لتردم الخنادق بضحاياها. في غمار هذا المشهد المرعب إنتابت احمد شمه فكرة أيصال جثمان عبد الزهرة الى الحفرة ليدفن مع المساكين المغدورين. وبدون استشارة مرافقيه، حمل الجثمان بسرعة نحو الخندق ليضعه على الحافة وليرقد في مثواه الاخير. وعلى

حين غرة لمحه احد العسكريين ووجه السلاح نحوه مهدداً. ولايدري احمد شمه من اين نزلت عليه كل تلك الفطنة واللباقة لينبري مخاطباً العسكري بلغة صارمة وبيقين ويخبره أن الجثة تعود لأحد المخربين في الأهوار، وطلب من العسكريين دفنها مع الآخرين. بعد فترة من السكوت اقتنع العسكري بالحجج، ولربما ظن أن المتكلم هو أحد وكلاء اسلطة، وأمر سائقي البلدوزرات بالاستمرار بردم الحفر.

عاد الجميع إلى ابناء محلتهم وهم يرتجفون من هول الحدث، ولكنهم جميعاً شعروا بقدر من الطمأنينة والأمان لأن المرحوم عبد الزهرة قد رقد أخيراً في ارض الاجداد رغم انه لم يحصل على الجنسية العراقية.

1-

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here