كارمين لا تخشى غير الأدميين

برشلونة : مصطفى منيغ

للإسبان قصة عشق مع شمال المغرب عامة ومدينة العرائش خاصة ، ربما لتقارب عادات المنطقة مع جنوب الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط حيث الأندلس من الأسطورة تتربَّع أروع قصة ، مهما تنوعت مآسيها المُدَوَّنة بالدموع والحسرة ، ظل مضمونها عِبْرَة على العرب مُقتصرة ، تُرْوَى بينهم بإسهاب غير مُختصَرة ، وإن كانت الحقائق المرتبطة بها مُرَّة ، صالحة ستكون لأجيال مهما أنساها الزمن الجذور ستحيا على ذكراها المُرصَّعة بنتاج اختلاط أدميٍّ حَوَّلَ ذوات العيون السود لزرق الحُسْنِ أو بهاء أخْضَر ، كالعزيزة كارمين تُفرش الآونة أمامي لجسدها المُرْمُري الأبيض المزيَّن بما يَسْرِي بين خلاياه من أحمر خافت بقياس يفتن الناظر إليه كل يوم أزيد من سابقه بمؤشر يُصَعِّد رغبة الخاطر ، ليدوم تعلق صاحبه وهو مدرك استحالة استمرار الحالة لأحداث واقعة آجلاً أو عاجلاً لها مُنتَظِر، تُفرش لجسدها رمال شط “سيدي عبد الرحيم” وتغطيه بسكون تعزف له مويجات بحر لحن حب ساكن صداه بين روابي المكان الراقصة له أشجار لم تنقطع جذورها المدفونة بين صفحات تاريخ العشاق من قدماء الفنيفيين والقرطجنيين والرومان المنهوبة عبر السنين بقايا رسومهم لمسح وجودهم في هذا الحيز الراسخ اللحظة في دهن الجميلة كارمين لدرجة الانبهار ، ملقاة بجانبي تجذب رأسي في حنان امرأة مخلصة في عشقها شاباً في سنها مستعدة لترك مستقبلها في شبه الجزيرة الإيبيرية والمكوث معه حيث شاء قدره دون شرط ولا حساب ولا إعادة النظر، جاذبة رأسي ليرتاح على مِخَدَّتَي صدرها النابض بالحياة لأقصى شعور بالمتعة الحلال الزارعة في الأرض استمرارية الحركة ليوم موعود للمؤكد من الاندثار، وفي لحظة هَزَّ انتباهي ريح ناقل رائحة ليست غريبة على أنفي حوله تتطاير ، لأرى بوضوح وجه رجل يطلب منى الإصغاء للرسالة التي جاء من أجل القائها علىَّ لآخذ ما فيها بعناية ملحوظة ورعاية بالجد مختومة ، تأكَّدتُ ومعي كارمين أن الرجل لم يكن سوى سائق “السيدة”المعروف لدينا معا ، لم يمهلني للتيقُّن أكثر حتى قال بصوت مغاير بعض الشيء ، “انها دعوة موجَّهة لك والمرأة التي معك، لتحضرا لمدينة القصر الكبير، حيث والدتي أمّ “السيدة” (المتروكة في مدينة “مرتيل” رفقة عائلتك) تنتظركما ، هناك ترتيبات خاصة ستتعرَّفان عليها في عين المكان ” ، دون أن ينتظر الجواب غاب بطريقة جد غريبة .

قبل الرحيل تمسَّكت كارمين بمرافقتي رغم جو الرُّعب المحيط بموضوع مقابلة غير الآدميين ، لكنها صمَّمت قائلة:” عاهدتُ نفسي (التي لا تساوي شيئا بدونك) أن التصِقَ بك طول العمر، ما يَسْرِي عليكَ ينطبق عليَّ دون مواربة أو تفضيل أو اختيار يفرزه كل موقف على حِدة ، إن حصلَ لك مكروه أفضِّلُ أن أسبقكَ إليه، وإن تمكَّنْتَ من معروف أقاسمك إياه بتوازن كفتي الميزان”.

… دخلتُ ومعي كارمين القصر الكبير، مدينة “مولاي علي بوغالب”، منشرح الصدر ، منعش البال ، متحمساً في سعادة خفية لاسترجاع الذكريات وما أكثرها تقرُّباً لذاكرتي منشِّطة لخيال مستعد لتشخيص الوقائع بحلوها ومُرِّها الباعثة الحزن في كياني أو السرور المفعم بالراحة لما جرى على طريق أولى خطواتي كطفل يسبق سنه لظروف لا زالت محطة دراستي المعمَّقة لحد الساعة تغري بالمعرفة العلمية إن كنتُ في تلك البدايات من عمري مسيَّر أو مُخَيَّر مقرونة كل منهن بالاسباب والمسببات ، القصر الكبير أتشرف بمعرفة كل ركن فيه، متابعاً بامتياز مجريات معظم سكانه مشاركاً تطلعات كل أفراد جيلي داخله ،على امتداد سنوات عرفت ما عرفت منها مراحل النِّضالين، ما قبل الاستقلال وما بعده، خاصة تلك المجموعة الواعية التي استطاعت تكوين قوة أدبية فكرية جعلت الانتماء لهذه المدينة المجاهدة ذي طعم تَذَوَّقْتُهُ عزاً وكرامةً واجتهاداً غير منقطع ، من أجل مستقبل يجعل من المدينة في طليعة المدن المغربية كما كانت طليعة المدن السبعة في المغرب وقد أصبح دولة.

… قاربت الساعة نصف النهار فتوجهتُ بالعزيزة كارمين صوب أكل أحلى لحم مفروم مشوِي على نار فحم خشبي مُطعَمٍ ببهارات معدة بطريقة أختص بها صديقي الراحل السيد عبد العزيز، ممَّا يضفي عليها لذة لا ينمحي مذاقها بيسر وبخاصة إن كانت تلك الوجبة القَصْرِيَّة التقليدية مصحوبة بشرب شاي نعناعه قصْرِي مُصَدَّر وطنياً وأوروبياً لنكهته جد الطيبة ، بعد ذلك أردتُ أن أفاجئ كارمين بسماعنا اسكافي وهو يغني لنا ما جعلها تخاطبني بإعجاب أنه صوت المغني الاسباني الشهير “أنطونيو مولينا” تماماً دون ادني فرق، إن صديقكَ هذا جد موهوب فلو كان في اسبانيا لكان له شأن عظيم لدى عشاق “الفلامنكو” الأندلسي الغني بالنغمات الجميلة الحالمة بالحب الصادق.

(يتبع)

مصطفى منيغ

Mustapha Mounirh

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here