أمن العراق…رؤية مستقبلية مابعد مظاهرات تشرين 2019.

حكمت مهدي جبار

ظل الجانب الامني في العراق يعاني من مشاكل كثيرة سيما وهو يرضخ تحت هيمنة الاحتلال الاجنبي منذ عام 2003 ومابعدها.تعقدت تلك المشاكل وتحولت الى معضلات صعبة الحل حتى صارت مصائب وكوارث لايعاني منها سوى الشعب وطبقاته المسحوقة.ففقد الامن والاستقرار وهدرت الكثير من طاقات البلد وثرواته في الارواح والمنشآت والبنى التحتية المهمة..وعندما يفقد الأمن يضيع الناس وتتحول الحياة الى مايشبه غابة يأكل فيها القوي الضعيف.

وبعد تلاحق السنين وتعاقب الحكومات وما عاشه العراق من فترات سلام شعر المواطن بشيء من الطمأنينة عندما تمكنت القوات المسلحة والقوات الامنية من القضاء على مصدر الارهاب المتمثلة بداعش بعد تحرير المدن العراقية التي احتلتها تلك القوى الارهابية.وعلى اية حال يمكن اعتبار فترة مابعد داعش هي فترة استقرار امني وسيادة الهدوء على مختلف مدن ومحافظات العراق..غير ان الحكومة ظلت تعاني من آفة آخرى هي آفة الفساد الحكومي والاداري والتي ظلت تنهش من عضد الدولة حتى كادت أن تنهكها لتبقى مشغولة في معالجة هذا الداء الخطير الذي مازال مستفحلا في كل مفاصل الدولة العراقية..

لم يتحمل الشعب العراقي ثقل الفساد حتى انطلق في مظاهرات امتدت طيلة السنوات التي استشرى فيها وظل يرفض ويرفض كل مظاهره وعناوينه ومسمياته .وكانت آخر تلك المظاهرات هي مظاهرات تشرين خلال العام 2019 ..والتي مازالت تتواصل في ساحات بغداد والمحافظات الاخرى..

ماهو مستقبل الامن في العراق.؟وهل هناك في الافق ما يبسط الاستقرار ويعيد الحياة الطبيعية بعد أنطلاق مظاهرات تشرين 2019؟ وهل يمكن تأشير أهم التحديات التي تعوق عمل المؤسسة الأمنية ووضع الحلول المناسبة لها، فضلاً عن توضيح أبرز المهام التي تقع على عاتق من سيتولى رئاسة الحكومة بعد عبدالمهدي بوصفه رئيسا للوزراء والقائد العام للقوات المسلحة..ثم هل هناك من توقعات بعودة الاحزاب السابقة او من قادة سابقين ورجال يمتلكون القوة في تفكيك أمن الدولة والحكومة ثم سيادة الاضطراب من جديد؟

أنها أسئلة منطقية تطرح نفسها بقوة في الساحة السياسية فيما يتعلق بالجانب الامني لاسيما بعد الهزة القوية التي تعرض لها النظام السياسي الجديد في العراق بفعل قوة المظاهرات وفعاليتها ومدى تأثير ذلك على قوات الامن ومؤسساته بمختلف صنوفها المخابراتية والاستخبارية والتي تشكل الجانب المهم والاخطر في حياة المواطن العراقي.حيث لم يشهد حالة استقرار منذ سقوط البلاد ولتستمر حالة القلق لدى الشعب عدا في بعض الفترات التي يرافقها الحذر واليقظة.

أن المنظومة الامنية الجديدة في العراق بعد كل تلك المتغيرات والتقلبات قد ترتبت عليها أمورا كثيرة تتعلق بطبيعة تعاملها مع الظواهر الامنية التي تظهر على الساحة خاصة بعد أن انهارت اكبر مؤسسة امنية عراقية في عهد البعث والتي حكمت البلاد باقوى وسائل الحكم واعتى طرلئقه واصلب عناصره.وعندما سقطت تلك المنظومة سقطت معها اشياء مثيرة ولم تستطيع ان تنهض من جديد الا ببعض حالات الدعم للجماعات المسلحة وهي تصبوا للعودة الى حماية السلطة الحاكمة.

سعت بعد ذلك المؤسسة الامنية الى إصلاح القيادة الامنية من خلال العمل على بناء مؤسسات جديدة وتطوير المؤسسات الحالية، وإعداد استراتيجية أمنية وطنية عراقية جديدة، إضافة الى دور وزارة الدفاع المتمثل بمحاسبة الضباط الذين يثبت تقصيرهم في مهامهم العسكرية، فضلاً عن مكافحة الفساد والمحسوبية داخل المؤسسات الامنية، واستحداث أساليب حديثة في تدريب قوات الأمن العراقية والمحافظة على أساليب التدريب العسكري الأساس، فلم تعد الجيوش في الوقت الحالي تعتمد كلياً على الأساليب التقليدية، وإنما أصبحت تعتمد على الجهد الاستخباري والمعلوماتي المرادف للأساليب التقليدية.

أن جميع المشكلات الأمنية في العراق لاتنبع من فشل العناصر والافراد انما من فشل القادة في استباق الأزمات، والتخطيط لها، وتخصيص الموارد، ومكافحة الفساد. كما يمكن للقادة السياسيين العراقيين الاستمرار في إعادة رفد المؤسسة الامنية بالعناصر مع توفير القيادة النظامية القادرة. ويمكن أيضا للقادة السياسيين والعسكريين دفع الإصلاحات لمكافحة الفساد الحقيقي والتطبيق الصارم للقوانين العسكرية. يمكن للقادة الأذكياء مقاومة الضغط لبناء مؤسسات جديدة، ودعم تطوير المؤسسات الحالية مثل وزارة الدفاع ووزارة الداخلية. يمكن للقادة المستبصرين استكمال ما تبقى خاصة ألآثار التي تركت بعد الحرب ضد تنظيم داعش، بطريقة من شأنها أن تدعم المصالحة الوطنية، وذلك باستعمال أدوات مثل اللامركزية في صنع القرار على المستوى المحلي للأمن والتجنيد.

والحقيقة شكل سقوط مدن عراقية مثل الموصل والانبار واجزاء من صلاح الدين وديالى ومدن وقصبات على ايدي داعش وقوى الارهاب الاخرى شكل منعطفا كبيرا في امن المواطن العراقي.وتأثرت المنظومة الامنية فيها كثيرا بل حتى القوات المسلحة بمختلف صنوفها ابان تلك السنوات التي تمكن فيها داعش من تحقيق نتائج لصالحه.

واليوم يقف العراق على مفترق طرق،بعد اندلاع المظاهرات وبعثرة الاوراق السياسية والهزة العنيفة التي ضربت السلطة في العراق حكومة ودولة ومؤسسات.فهل بمقدوره كبلد له سيادته ان يختار الحلول الناجعة للحفاظ على الامن وتعزيز مؤسساته ودوائره المتخصصة وكذلك اختيار الأشخاص المناسبين لتولي مسؤولية الأمن ومنحهم الصلاحيات المناسبة، أم أننا سنشهد المزيد من التدهور في استقراره وامنه ووحدته.وخاصة فيما يتعلق بالمرحلة التي ستلي مرحلة مابعد المظاهرات وما سيترتب عليها من تداعيات سياسية وأمنية.

فهل ستتعاظم سطوة الجماعات المسلحة وألأحزاب السياسية التي ابعدت عن الساحة السياسية او التي عارضت النظام الجديد.وهل ستجرأ بعض الأنظمة السياسية الأقليمية وحكوماتها على أستهلال فوضى البلاد لتدس انفها وتمارس اعمالها الامنية والاستخبارية والمخابراتية عدا الضغوط السياسية، من قبل جهات مختلفة.

أن إقامة استراتيجية أمنية وطنية عراقية جديدة ضرورة ملحة جدا في هذه المرحلة وأن رئيس الجمهورية او رئيس الوزراء ورئيس البرلمان تقع عليهم مسؤولية جسيمة حول هذا الموضوع.ويترتب على لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي مهمات كبيرة وفاعلة لدعم الوضع الامني في العراق.

وليس غريبا ان تخلق المظاهرات فضاءات متنوعة لحركة تيارات وخلق جبهات داخلية وخارجية تلعب بالورقة الامنية وتلوح بها سيما تلك التي تمتلك قوة سياسية وعسكرية سواء كانت دول او اقطار او تنظيمات.اذ ان اكثر التدخلات سواء كانت داخلية او اقليمية كانت تدخلات امنية استخدمت فيها الادوات العسكرية فضلا عن العنف والقوة.وبالتأكيد يقف وراء ذلك غايات اكبر من الوسائل العسكرية تتمث في ما تدعي فيه تلك القوى من دفاع عن النفس او رفض لمنهج سياسي او نظام حكم وماشابه بما يؤثر عليها دوليا وأقليميا.

انه من الطبيعي ان تتحسب الحكومة العراقية من امكانية عودة التنظيمات السياسية والسياسية المسلحة السابقة او التي عارضت نظام الحكم العراقي الحالي.فالتنظيمات السياسية السابقة وخاصة تنظيمات حزب البعث المحظور والمنحل والذي ربما مازال يعمل تحت عناوين واسماء شتى ربما يستغل اعضاءه وانصاره ومن يؤيده هذا الحراك الشعبي ليشغل فسحة سياسية يسعى للعودة للعمل من جديدة في محاولة لقلب الحكم او باية طريقة أخرى.حيث انتشرت اشاعات عبر وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي بوجود قوى اخترقت المظاهرات السلمية قسم منها يعمل خلف عناوين ومسميات وقسم آخر ظل عائما تتحدث فيه الناس.

غير اننا لم نعتقد بوجود مؤشرات لاأمنية ولاأستخبارية تشير الى وجود حركة او نشاط للبعث لافي صفوف القوات المسلحة العراقية ولا في المجتمع المدني.فضلا عن أن المجتمع لم يعد يحتمل عودة حزب البعث باي حال من الاحوال.اما ما يحدث من انباء عن تحركات اجنحته التي تتمثل في تحركات قيادات بعثية سابقة كما يشاع عن وجود عزة الدوري او يونس ا لاحمد او رغد صدام حسين وغيرهم من اركان البعث..

انه حتى لو كانت هناك بعض الحواضن التي ربما تستقبل بقايا قيادات البعثيين فأن الغالب الأعم لانعتقد انه سوف يتقبل عودة فكر ومنهج لايمكن ان يتناسب مع ظروف ومناخات حالية في الوقت الحاضر.حتى وان استخدمت تلك التنظيمات العنف والعمل المسلح والتي تلبسها ثوب التدين وشعارات الاسلام وخاصة حركة النقشبندية والتي يقترن أسمها باسم عزة الدوري.

حاولت ذيول داعش القيام ببعض المحاولات التعرضية لقطعات الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي والتشكيلات الامنية العراقية من خارج الحدود وداخلها.لكنها لم تتمكن من تحقيق اي نتائج لصالحها فتلوذ بالفرار او تلقى مصرعها اثناء المواجهات..فأكثر الخبراء الامنيين لايعتقدون امكانية عودة تنظيمات داعش تحت اي اسم او أي بديل..ولكن ربما يعتقد بعض الخبراء ان تواصل المظاهرات وتزايدها في بغداد والمحافظات قد ينتج اشكالا اخرى من الرفض او يسمح بولادة قوة قد تستغلها تحركات سواء في داخل العراق او خارجه بنفس الوقت الذي تمتلك فيه تلك المظاهرات شرعيتها الدستورية والتي أيدتها الحكومة كونها حق دستوري شعبي مكفول.

ظلت الحكومة العراقية تعاني من قضية المظاهر المسلحة لبعض الاحزاب والتيارات التي تمتلك ميليشيات بشكلها العسكري المفرط.وبقيت تدعوا الى نزع كل انواع الاسلحة وحصره بيد الدولة.لكنها لم تجد في ذلك آذانا صاغية لدعواتها وأوامرها.لأن هذا الامر فيه من التعقيد مايدعوا الحكومة الى الحيرة والاضطراب كون اغلب تلك الاحزاب مقربة جدا من المنظومة الحكومية ان لم تكن اغلبها تحمل الصفة الرسمية في عمق الدولة؟! وظل الضابط العراقي والجندي والمنتسب يتهيب من تلك الميليشيات ولايستطيع ان يمارس صلاحياته القانونية الشرعية معتبرالا أياها خطا احمر لايسمح بتجاوزه!! ومن هنا لابد من ان تشعر القوات المسلحة العراقية بأنها ضعيفة في اتخاذ قرارتها وتنفيذ واجباتها الرسمية.

والسؤال الذي نود طرحه هو:

هل ستبقي المظاهرات البلد على مدنيته وأستقراره الحالي ولم ينتج عنها حال ربما يتخذ موقفا سلبيا منها؟ وبالتالي هل سيتأثر الوضع الامني بما ستؤول اليه نتائج المظاهرات لاسيما ما ستتخذه السلطة من اجراءت وتعديلات في المسارات الحكومية ومنها انتخاب رئيس وزراء جديد او تغيير كابينة الحكومة او الحد من سطوة الاحزاب المتنفذة ام تلبية طلبات المتظاهرين الكثيرة والتي لانعرف كيف ستتمكن الحكومة من تلبيتها وتنفيذها ويأية وسيلة وبأي طريق.من ثم كيف سيكون الوضع الامني في العراق وأن هناك قوى كبرى تتحين الفرص وتراقب من بعيد ماذا سيحدث.؟

أننا نعتقد أنه اذا بقيت المؤسسة العسكرية ومنها الامنية محافظة على تنظيمها المهني والمدني القائم على كوادرها وعناصرها من ضباط ومراتب وافراد وخاصة الحرفيين منها من ذوي الامكانات الفنية والادارية دون تدخل الاحزاب والميول السياسية فيها مدنية كانت أم اسلامية فأن ألأمن في العراق سيكون قويا رصينا طالما بقيت المنظومة العسكرية الامنية متماسكة تنطلق من هويتها الوطنية وعملها المهني التخصصي ولاتتأثر بأيديولوجيات الاحزاب والتيارات الاخرى..لكن مايخشى منه هو تدخل الاطراف الاقليمية ذات الشأن العسكري الفاعل في المنطقة وكذلك استغلال المؤسسات والدوائر الاستخبارية الاجنبية وخاصة الاميريكية منها فذلك بحث آخر قد يبعثر الموازين ويقلق الامن العراقي ويزعزع استقراره.

وعلى هذا الاساس فأن الدولة سوف تبقى ظعيفة والحكومة واهنة ان لم تتمكن من تحقيق مايلي:

• الاصرار على أن تنزع كل الميليشيات اسلحتها مهما كانت انتماءاتها ومرجعيتها وتسلمها الى الدولة.

• أن يدمج كل عناصر الميليشيات في مؤسسات أمنية تحمل الهوية العسكرية والامنية الوطنية.على أن يراعى في ذلك سيرة كل عنصر منهم.

• تفرض هيبة الجيش في كل مكان في العراق وان يكون هو سور الوطن وهو الوحيد الذي يتحمل مسؤولية حل القضايا الوطنية التي تتطلب الحزم والقوة والحرب.

• ان يكون رئيس الوزراء هو القائد العام للقوات المسلحة ويتحمل مسؤولية اية حرب تندلع او اية معركة وان تكون هيئة اركان عامة من ذوي الاختصاص العسكري المحترف.

• ان يفعل دور الأمن بالطريقة المهنية الخالصة لا المتأثرة بالمحسوبيات والانتماءات الضيقة.

• ان تعتمد الحكومة على ذوي الخبرة الامنية والعسكرية القائمة على العلم والثقافة والتجربة.والاستفادة من ضباط الجيش السابق بغض النظر عن كونه كان من ضباط النظام السابق او كان حزبيا ام من من احدى مؤسساته الامنية.المهم هو ان تتم الفائدة من خبرته الفنية في الجانب الامني.

• الاستعانة بالخبراء سواء من العرب او من الاجانب. واشراك الكوادر الامنية في دورات تخصصية من شأنها أن ترفع العلم الامني والاستخباري وتعزز من ثقافة الضابط او الجندي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here