علي الأمين.. ليت العمائم عمامته

وُلدت في السنة التي رحلت بها عِمامة مرجع الشام المعروف السيد محسن الأمين(1952)، عِمامة أمينية تحمل منهج الأولى، في المواقف الجريئة، تأكيد نقاوة المذهب مع مذاهب الآخرين، وحياة الدين مع أديان بقية البشر. ما زال الحيّ الدّمشقي يحمل اسمه «حي الأمين»، كان ذلك قبل أن تنفجر الطّائفية مِن خارج الحدود، وقبل شعارات «زينب تسبى مرتين»، عندما حُشرت الميليشيات بالشام، والعذر دفاعاً عن مقام السيدة زينب.
قبل ذلك، كان المذهب أقرب إلى العقل والحياة بوجود عِمامة الأمين، وعمائم آل كاشف الغطاء، وآل ياسين، وآل المظفر، الأسر العراقية العربية، التي تولت دور المرجعية والأستاذية في أكثر مِن زمن، حتى حل زمن العمائم المسلحة، وهي إشارة رعب وتخويف إلى الأتباع قبل غيرهم، عَمائم فتكت بمراجع عظام في مذهبهم وأمام مقلديهم، والسبب لأنها مِن نسيج عِمامة الأمين وما ذكرنا مِن كبار المذهب.
ظل السيد علي الأمين، الذي ولد في عام رحيل محسن الأمين، شوكة بوجه الطائفية، ومحاولات الهيمنة على الطائفة الشيعية اللبنانية، فموقفه الذي أوضحه في فبراير 2008 عن عدم الحق لحزب ما أن يُصادر الطائفة لأجنداته والإيديولوجيا التي ينتهجها حزبه، مما دفع إلى عزل علي الأمين من الإفتاء بمدينة صور، وظلت الحملات تُشن ضده، ولو فكر تفكيرهم الحزبي لكانت له ميليشيا ومصادر أموال، وحمايات قد لا يحظى بها الملوك والرؤساء.
قبل أيام عُقد مؤتمر لحوار الأديان بالمنامة عاصمة البحرين، حضره مسلمون ومسيحيون ويهود وبوذيون وآخرون، وحضره سفير فلسطين، وسفير لبنان بالمنامة، ووفد مَثلَ مفتي القُدس، ووفد من الكنيسة القُبطية بمصر، ورجال دين مِن لبنان، مع حضور حاخام القدس السابق شلومو موشي عمار (10/12/2019). مِن هذا المؤتمر تجدد الاتهام للأمين، على أن حضوره في مناسبة شارك فيها الحاخام عمار ما هو إلا تطبيع ضد فلسطين. لكن السؤال لماذا «علي الأمين» بالذات، وسفير فلسطين كان حاضراً، ورجال دين مسلمون كانوا مشاركين؟!
أقول: ليست الحكاية فلسطين المُتاجر بها، وبذريعتها هيمنت قوى دينية خارجية تُفاخر بالنفوذ علانيَّة، إنما الحكاية تتعلق بخطر عمامة الأمين على العمائم المسلحة، فلم يكفوا عن إيذائه بأيِّ تهمة أو موقف، وإلا فمثل هذا المؤتمر لا يعني بالعلاقة بين البلدان، ولا عُقد لطرح تطبيع أو اعتراف، أنه مؤتمر أديان، الحاجة ماسة لمثله في ظل هياج بالكراهيّة.
إنهم يرون في عِمامة الأمين راية معارضة لنهجهم في زج الطائفة في الحروب، فما يطرحه يُعد تطاولاً على العسكراتية المذهبية والانتماء إلى الخارج، غير مؤمن بنظرية دينية في الحكم، ولا بحزبية الدين والمذهب، لا يقرُّ للإسلام السياسي بحقٍّ في الوجود، بل يعتبره مدمراً للدين والدنيا، محاضراته وكتبه تقول هذا.
لا يتفق الأمين مع تقديس رجال الدين، ولا يقرّ لهم بولاية على البشر، بل لا يقرّ توظيف فاجعة الإمام الحسين(قُتل61هجرية). في كلِّ مناسبه يظهر داعياً إلى استخدام العقل، فالحسين ليس مع تشكيل ميليشيات، ولا الهيمنة على مصالح الدولة والنَّاس، والحسين لا يُختصر بمناسبة وضريح، وليس سائلاً عن أضرحة تُشيد باسمه كي تكون مراكز للأحزاب. مثل هذه المواقف لا تتفق مع مصالح الجماعات، التي تُنشئ الضريح ليكون وقفاً لجمع العواطف حولها، ثم التلاعب بها.
منذ سنوات والأمين يعمل مِن أجل إنقاذ طائفته مِن الحزبية، ومِن الميليشيات، والتي أصبحت بها غريبة عن أوطانها. كذلك لم يترك منبراً ولا محفلاً لم يدع به إلى التسامح الديني والمذهبي وإلى «التفكير لا التكفير»(كتاب له)، وبالمقابل كُفَّر على ألسنة فقهاء مِن طائفته، لأنه يحاول إنهاض المشتركات بين المذاهب والأديان، وما حضوره في هذا المؤتمر إلا بهذه النّية.
أعرف صاحب العِمامة السَّوداء، عن قرب، مخلصاً في دعوته إلى التسامح، وفي دفاعه عن وطنه لبنان، وكذلك يُريد للعراق مثل ذلك، حيث اعتمر العِمامة بالنَّجف. مازال الأمين محارباً مِن داخل المذهب والدِّين لأجل العيش المشترك بسلام، وهذا لا يتحقق بظل الحزبية الدينية. لكلِّ هذا أصدروا البراءة منه، وأحسبها فتوى قتل: «التبرؤ كممثلي بلد ودين ووطن مقاوم من هذا الصنف الطاعن ببلده وقيمه وحقوق وطنه وجيشه وشهدائه ومقاوميه، بخلفية التطبيع والتسويق والاتصال والتحريض على السلام مع عدو يعمل ليلاً نهاراً، لتدمير لبنان بل لسحق الأمة»! إنها عقيدة «الولاء والبراء»، عند «داعش» والقاعدة، والبراء يعني الخروج مِن الملة، مِن حقِّ أيّ جاهلٍ سفك دمه!
أقول: إن العِمامة التي ترفض تسيّس الدِّين، وتحزب المذهب، وعسكرتهما، بالتأكيد يُفتى بالبراء منها، مع دعوة صاحبها: «أخرجوا من أسوار الطائفية وسجون المذهبية إلى رحاب العيش المشترك»(كلمةٍ له). كلمة تُخلَّدُ الأديان وتُعَمر الأوطان. هذا هو الدافع وراء محاولات تسقيط صاحب هذه الدَّعوة وإيذائه، لا حضور مؤتمر أديان حضره حاخام يهودي، بوجود السفير الفلسطيني، وحصل مِن دون عِلمه ولم يلتق به شخصياً.
لا يُجيد «الأمين» المتاجرة بفلسطين أو بأيّ قضية، ولا يُزايد عليه بها أيضاً، فليت العمائم التي خونته كعمامته. لا أتردد في الإنشاد لعمامتك يا علي الأمين وأمثالها: «فجاءت به سِبط البنان كأنَّما/عِمامتُه بين الرِّجال لواء»(أبو تمام، ديوان الحَماسة). إنه لواء التَّسامح والتَّعايش المريح، لا القتل بالقنص والاغتيال بكاتم الصَّوت.

الكاتب
رشيد الخيّون
رشيد الخيّون

أرجو مراسلتي على هذا البريد الالكتروني :
[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here