بين اإلستعمار الديني األموي واإلستعمار الديني القسطنطيني

د. علي المؤمن
قسطنطين ومعاوية، مؤسسا ديانتين وضعيتين كبريين، التزاالن تحظيان بعدد هائل
جداً من الكهنة واألتباع والفدائيين واألنظمة السياسية والمعابد والطقوس والتقاليد
هاتان الديانتان تحت المسميات األصلية التي اختطفتاها، إمعاناً اإلجتماعية. وتتستر في
الخديعة التاريخية الكبرى التي مارسها اإلمبراطوران المؤسسان بحق أتباع الديانتين
المسيحية واإلسالمية.
اإلمبراطور الروماني قسطنطين األول ) 272 ـ 337 م ( اختطف الديانة المسيحية،
وقضى عليها تقريباً، واستحالت مدرسته العقدية الطقسية الممثل الرسمي الحصري لدين
اليوم بين
السيد المسيح. وربما يكون أتباع الديانة القسطنطينية األرضية هم األكبر عدداً
األديان على مستوى العالم، وإن كانوا اليعلمون أنّهم أتباع قسطنطين، ويعتقدون أنهم أتباع
المسيح.
أما السلطان معاوية بن أبي سفيان ) 608ـ 680 م (، فقد عمل على اختطاف الديانة
اإلسالمية، و حاول القضاء عليها عبر فرض تعاليمه البديلة، لكنه – وإن لم ينجح بمستوى
بديالً نجاح قسطنطين- للدين اإلسالمي،
ّال أن ديانته األرضية استحالت ديناً رسمياً حاكماً
إ
أن أتباعها
منذ تأسبس الدولة األموية وحتى اآلن في بعض بلدان المسلمين. والمفارقة أيضاٌ
ال يعلمون – غالباً- أنهم أتباع دين معاوية، وليسوا أتباع دين محمد بن عبد هللا.
2
وقد اقترنت الديانتان األرضيتان القسطنطينية واألموية بظواهر ستراتيجية مشتركة
كبرى، أهمها ظاهرة شن الحروب على الشعوب وإكراهها على اتباع الديانة الغازية،
واالستيالء على أراضيها وضمها الى إمبراطورية الديانة الغازية.
و يمكن القول، أن اإلستعمار القسطنطيني هو الحركة التوسعية اإلستعمارية التي بدأها
اإلمبراطور الروماني قسطنطين األول، بعد اعتناقه المسيحية، واختطاف تعاليمها،
وتحويلها الى الركيزة العقدية لحركتة اإلستعمارية. وقد أطلق قسطنطين على نفسه ألقاب
القديس و الرسول وخادم المسيح، وهو في الوقت نفسه اإلمبراطور الحاكم ورجل الدولة
ومالك األرض والناس. كل ذلك لتسويغ أهدافه في استعباد الشعوب و احتالل أراضيها
وإكراهها على اعتناق المسيحية القسطنطينية بالقوة؛ لكي يشكل ذلك بيعة دينية
لإلمبراطور في أعناق الشعوب المحتلة والمستعبدة، وضماناً الستمرار استعباد الشعوب
بسلطة الدين.
و سار خلفاء قسطنطين على سيرته، وكانت وسيلتهم في تحقيق أهدافهم اإلستعمارية،
شن الحروب وذبح الناس واضطهادهم ومصادرة أموالهم و سبي نسائهم باسم المسيحية
أو القسطنطينية بالمعنى الصحيح. حتى تمكنت اإلمبراطورية الرومانية من إحتالل معظم
أوروبا وكثير من شمال أفريقيا وغرب آسيا، تحت شعار نشر المسيحية. كما سار على
نهج قسطنطين جميع أباطرة أوروبا والغرب وملوكها من بعده. وباتت الديانة المسيحية
ديانة أوروبية سلطوية، وركيزة من ركائز اإلستعمار األوروبي. في الوقت الذي تتعارض
تاماً مع تعاليم السيد المسيح
ممارسات إستعباد الشعوب ومصادرة أراضيها تعارضاً
وشريعته المتمثلة بالمحبة واألخوة والتسامح والسالم، ورفض العدوان وإراقة الدماء، و
عدم التجاوز على أعراض الناس وممتلكاتهم.
أما اإلستكبار األموي، فهو اآلخر استعار منهجية الرومان في أساليب اإلستيالء على
أراضي الغير، واستعباد الشعوب، بحجة نشر الدين اإلسالمي، وتحت عناوين الفتوحات
أو وحدة الدولة اإلسالمية. وهو ما لم يفعله الرسول محمد. بل أن المنهج اإلستكباري
3
اإلستعبادي هذا يتعارض مع ما أوصى به النبي من مبادئ إحترام عقائد األديان والعطف
والرحمة تجاه جميع البشر، بل تجاه الحيوان والنبات .
وبعد أن حارب معاوية اإلسالم طويالً، ثم اعتنقه كيداً، تم ّكن من اإلطاحة بالشرعية
الدينية السياسية، واإلستيالء على السلطة في دولة المسلمين. وحينها كّرس مشروع
تحريف عقيدة اإلسالم وشريعته وسلوكياته، وعمل على تحويل اإلسالم الى دين تلفيقي،
محمدي في ظاهره، و أموي في جوهره. كما أعطى لنفسه ألقاباً دينية، ككاتب الوحي
وأمير المؤمنين وخليفة رسول هللا، لتكتمل حلقات المؤامرة على اإلسالم والعدوان على
بديانة السيد المسيح
الشعوب األخرى. كما فعل قسطنطين تماما . ً
وبات الدين األموي هو الدين السلطوي اإلستكباري لإلمبراطورية األموية، والشعار
الذي ظل يرفعه اإلستكبار األموي و اإلستكبارالعباسي و اإلستكبار العثماني في حروبهم
المستمرة ضد اآلخرين، من أجل إكراه الناس على اعتناق الدين االموي، و ذبح األبرياء
واستعبادهم ونهب ثرواتهم وسبي نسائهم ومصادرة أراضيهم وضمها لدولهم. وهو دين
يختلف عن دين الرحمة واإلنسانية ومكارم األخالق ورفض اإلكراه الذي ب ّشر به رسول
هللا محمد، وتمسك به آل بيته من بعده.
وبعد اإلمبراطور المؤسس معاوية بن أبي سفيان، سار على النهج نفسه ملوك األمويين
والعباسيين واأليوبيين والمماليك والعثمانيين والوهابيين.
إن النجاح األساس الذي حققه الدين القسطنطيني هو أنه استطاع إقناع عموم المسيحيين
بأنه هو الدين الرسمي المسيحي، وأنه يمثل عقيدة السيد المسيح وشريعته وتعاليمه، وأن
الخروج عليه هو خروج على المسيحية. وبالتالي؛ بات الخروج على الملك وعلى الدولة
والسلطة وعلى اإلحتالل واإلستعباد، هو خروج عن الدين. وهنا مربط الفرس.
بيد أن مشكلة الديانة اإلسالمية أقل تعقيداً من مشكلة الديانة المسيحية في موضوع
التحريف واإلختطاف، ألن النبي محمداً وضع ضمانتين أساسيتين للحيلولة دون إختطاف
4
ِّران عن إسالم رسول هللا.
نهائياً، وهما القرآن الكريم وآل البيت، المعبّ
اإلسالم إختطافاً
وهي خاصية ال تتوافر في الدين المسيحي.
وقد عملت نهضة اإلمام الحسين بن علي وما أعقبها من ثورات علوية ضد الحكم
األموي، والجهود العلمية والدينية والتبليغية التي قام بها أئمة آل البيت، ثم انهيار السلطة
األموية، على تقويض كثير من معالم الدين األموي.
كما استطاع كثير من فقهاء مدرسة الخالفة النأي بأنفسهم عن الدين األموي، والتأسيس
لمذاهب فقهية مستقلة عنه، وهو ما تمظهر بالمذاهب المالكية والحنفية والشافعية، برغم
احتفاظ هذه المذاهب بمنظومة الفقه السياسي السلطاني الوراثي للدين األموي. وفي
استثن
المقابل، مارس ابن تيمية وتالمذته، وصوالً ائية الى محمد بن عبد الوهاب، جهوداً
للحفاظ على الدين األموي بكل تفاصيله، ونجحوا بشكل كبير خالل القرن التاسع عشر
الميالدي وحتى اليوم من إعادة الدين األموي الى سابق عصر ازدهاره خالل حكم معاوية
ويزيد ومروان بن الحكم.
ولذلك ظل الصراع على أشده بين دين معاوية ودين النبي محمد، بل اليزال هناك
بين تيارات التمسك بدين معاوية
صراع مستعر داخل أتباع دين معاوية أنفسهم، و تحديداً
األموي وتيارات العودة الى دين محمد، والتي باتت تتك ّشف لها في كل زمان ومكان
الفروقات بين دين معاوية ودين محمد.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here