أحجيات سعيد

أحجيات سعيد

سعيد لم يتذكر مذ ولادته أنه عرف السعادة، لم يعلم لِمَ أطلقت والدته عليه هذه الأسم؟ مرة قال في نفسه ربما كي تشعر هي نفسها بالسعادة التي لم تعرفها او تراها، لم أرى والدي تربيت في بيت جدي بعد ان استشهد والدي في حرب ضروس لم ننل منها سوى قطع سوداء على جدران بالية… عافرت والدتي الحياة فأمتهنت صناعة الخبز الذي تخبزه الى الجيران الذي كان جدي احيانا يبيعه الى بعض المطاعم او على قارعة طريق… احتفظت بوصية والدي كعهد عليها ما دامت حية ترزق كما جدي بأن تجعلني متعلما أحمل شهادة عليا… هما الحافزان اللذان كانا عبارة عن ريح صرصر تدفع بالأيام لتسبق السنون… كنت شغفا بالتعلم بارعا في جميع المواد، فرحة أمي ودموع جدي عندما حضرا حفل التخرج كان بالنسبة لهما بوابة السعادة… كثيرا ما أتذكر في صباي وأنا ارى النخيل الذي فقد حيويته وقطع سعفه إما بالحرق او بالجرافات أو الإهمال وسألت جدي لم نقتل الحياة في ما اعطانا الله وما خلقه؟ لم ننافق؟ لم نلبس رداء الورع والدين سترا لعاهات؟ لم السلطة تقمع حرية الرأي والتعبير؟ لم الموت يقف على أعتاب البيوت ويترصد في الازقة بخنجره الأفكار؟ اجده يقف طويلا أمامي بمعرفته الدنيوية ثم يقول إن سؤالك كالاحاجي قد يكون لها ألف جواب البعض من الاجوبة قد يودي بحياتك وحياتنا، إننا نعيش زمن الطاغوت والموت بحجة التحرير، عالمنا يا سعيد مليء بالكوابيس التي يمكنها ان تخنقك وأنت نائم او حتى وانت تسير، ولدي لا تسأل أسئلة تجعل الاعين تسقط عليك وتكون مهددا لأفكارك…

سعيد: لكن يا جدي لم أسأل إلا لأني اشعر أن ما يحصل حرام، بعد ان حدثني صديقي حامد بما اخبره والده عن والدي الذي كان معه في الحرب المصطنعة وبعد ان تعرضوا الى القصف والهجوم بكثافة مما جعله يستميت ويجود بنفسه من اجل صحبه… مات والدي مضحيا من أجل الآخرين، الوحيد الذي خسر هو أبي, امي وأنا وأنت، هاهو العالم لم يتوقف، الشر تبرثن ويزداد، عالمنا مخيف، كل شيء فيه مراقب حتى الاحلام فأي عالم نعيش..

الجد: سعيد جدي يبدو أن مداركك تتفتح قبل أوانها وعقلك أكبر من سنك

سعيد: لست صغيرا يا جدي فأنا بلغت مرحلة أن أكون أو لا أكون، ولي من المعرفة الكثير لكن تبقى هناك أركان معتمة بداخلي وابواب موصدة عليها طلاسم لا اريد لها ان تفتح الآن خوفا على أمي وعليك، أني لا اريد البقاء في هذا الوطن الذي لا يرتوي إلا بالدماء والحروب كأن الانسان فيه منكب على وجهه في الجحيم، الاحلام لا تتعدى محيط رأسه، اي مستقبل يمكنك ان تحياه في وطن سياساته أحزاب وكتل شعارها القمع وعيون أمن تلاحقك في كل مكان؟؟؟ جدي ارجوك اريد ان تساعدني في مسألة صعبة جدا على أمي وعلي.. اريد أن اخرج بعيدا عن العراق حيث الحرية والأنسانية، هناك يمكنني تحقيق أحلامي واعدك سارسل في طلب أمي وطلبك فما هي سوى سنين قليلة استقر فيها أرتب اوضاعي بعدها سنكون اسرة بمعنى الكلمة، اريح أمي من تعبها وأريحك انت ايضا سأجازيكما على تعبكما سأحيطكما بالرعاية بعيدا عن رائحة الدخان وضرب الإنفجارات والعبوات الناسفة بعيدا عن الرعب الذي يقطن معنا كالظل…

الجد: كأن صاعقة نزلت على رأسه!!!

فقال: أي حلم هذا الذي تريد وقد تقوس ظهري يا سعيد فما عدت احتمل، أملي و والدتك ان تجد وظيفة تكفل لك العيش ولنا يمكنها بعد ذلك ان تجعلك تعيل أسرة، تريد والدتك ان ترى أبناءك قبل ان تموت، فقد وهنت كما أني لا أعلم كم بقي لي من العمر، خاصة أني مصاب بالعديد من الامراض عن أي جنون سفر تتحدث!؟ والله لو سمعت والدتك لماتت، أترك هذا الخبال ولا تعكر فرحتنا

كانت صافرة القطار كفيلة بإيقاظه من بطن افكاره وهو ينتظره على دكة في لوكسنبورج، خرج مع الذين استطاعوا الهروب غرباء في أوطان اوربية، يعرجون الى سماء الحرية بعد ان يدفعوا ضريبتها الغربة والوجع والخطورة… ظن سعيد ان الحياة ليست بهذه الصعوبة التي يراها، الابواب شبه مغلقة المخيمات التي يسكنها اللاجئين عبارة عن قيود بلاستيكية توهم نفسك أنها سهلة الفكاك لكنها تجعل منك مثل الكلب الذي

يحمل رقما في رقبته ينتظر في كل يوم مواعيد الطعام او التربيت على الظهر.. مرت الشهور صعبة وهو يرى عالم الطبيعة، الثلج يجثو ببراعة فوق جبالها يمتطيها كفارس من القرون البائدة، حتى اوديتها يمد يده ليخنق الزهور التي تريد ان تتفتح كي تحظى بالحياة، فالبرد وتساقط الوفر بكثافة يجعل من الارادة متيبسة بسبب الصقيع… ظن أن الحظ إلتفت له بعد ان أعطوه غرفة مع مجموعة ما من المهاجرين، مختلف الجنسيات في منطقة نائية بعيدة عن عالم المدينة… شبه قرية يحتاج احيانا للسير ساعتين كي يرى وجوه غير الوجوه التي فاح حمضها بعد ان اتضح له أنها تحمل الأنا لنفسها.. كثيرا ما حدث نفسه أمام زجاج واجهة يرى الناس تنظر إليه كحيوان غريب وقد بدا عليه أنه ليس منهم… قفص كبير وضع فيه يتحرك بحرية من خلال قيود تربطه رغما عنه فيعود الى تلك الغرفة القاسية، نزيل معه همه الشرب والحبوب بخلسة خلق له عالما دون معرفة السجان… حتى جاء اليوم الذي وصل الاحتقان الى حد ان يصرخ سعيد، استعدى المسئولة طالبا منها العودة الى وطنه… كانت ترى حاله وقد أنطفئ بريق حلمه الذي قال لها في مقابلته الأولى… أنه سعيد بلا سعادة جئت ابحث عن طعمها هنا في بلدكم.. ربما هنا استطيع أن اعيش دون احاجي أو ألغاز، كثيرا ما طرقت على مسامع جدي أحاجي حياتنا فكان جوابه دائما واحد.. إننا في وطن فك اللغز ومعرفة الحقيقة عبارة عن فتح باب جهنم لا يمكن معارضة السلطة او الحكومة، هي من تفصل وهي من تُلبس، هي من تقسم الأرزاق مثل الله… اعترضت على ما قاله حاولت النزعة غير دموع أمي واصابعها المحترقة من كثرة لفح نار التنور لها أذاب التساؤلات بل حولها الى لغز مخيف أكبر دفع بي الى الهروب…

غريب أمرك يا سعيد تقول لي هيلينا، كيف لشاب مثلك يحمل كل هذا السواد والحزن؟ كيف سمحت لتلك الأحاجي ان تتلبس وجه سعادتك وتعكسها ضجر وملل وإحباط؟ إن الحياة مقبلة لك ما عليك إلا الصبر سيأتي دورك في المقابلة وأنا سأكون معك وأؤكد لك بأن ستنال البطاقة الخضراء ستعيش بحرية، قد تتطول المدة لكن بالتأكيد ستنال حلمك إنك شاب ذكي لماح وهذا ما كتبته في التقرير الابتدائي عنك..

سعيد: لا يعنيني ما كتبت وما تقولين إني أشعر بحنين الى حضن أمي ورائحة عرق جدي، الى طعم خبزها الى وجهها الأسمر المتلفح بنار التنور، أريد ان اسمعها تهدهد وهي تفرك فروة رأسي على رجلها اشم رائحة أرض وطني التعيس بمن يمسكه من عتاة وطغاة، وطن يشعرك بالفخر رغم ضآلة حجمك، أرنمو ، حمورابي، جلجامش، سومر، آشور، بابل وجنائنها المعلقة، التأريخ نعم التأريخ هو العراق مثل الكون كهل يحمل على ظهره أوجاع أحقاب حروب ضروس وتحديات عالم، أرض خصها الله بنهري دجلة والفرات.. وطن موجع لكن الآه فيه باتت بلسم، والبسلم هنا آه غربة طويل، قد يعارضني الكثير لكنه العراق، عشقي له كلعنة الفراعنة لا أنفك أطلبها وإن كان فيها موتي، ارجوك هيلينا عيديني الى وطني…

هيلينا: لا شك انك مجنون أو مصاب بحمى الهذيان، سأعود لأراك في الغد او بعد غد علك تكون قد غيرت رأيك..

سعيد: أبدا هيلينا لن أغير رأيي، أقسم سأمتنع عن الطعام والشراب حتى توافقي على طلبي

هيلينا: لا تفعل يا مجنون سأعمل على ترتيب طلبك ورغبتك.

أمي سامحيني لقد خنت حليبك، لم أكن الولد البار بك وبجدي، لكن ارجوك أمي هل مات جدي غضبان علي.. كيف لي ان اطلب السماح منه والعذر؟

أمه: لا عليك يا ولدي لقد كان حتى آخر رمق يذكرك ويدعو لك… لقد كان يحبك كثيرا، فأنت من رائحة إبنه الوحيد

سعيد: أمي ستتغير الامور أعدك بذلك، سيكون لي كما الشباب عناوين جديدة سنفتح بوابات الحرية، سنعيد الحياة لنخيل العراق سيثمر رطبها حتى يتساقط عطاء كما الشهداء الذين سقطوا من اجل الوطن، سيلبس العراق زهو الديمقراطية وتقرير المصير… سنعيد للدنيا حديث السندباد، سيجلس شهريار ينصت الى شهرزاد ألف ليلة وليلة جديدة، سيعزف الموصلي من جديد، سيطرب الناس على شعر ابي النؤاس، سيعود متنبي

الشعر الى شوارع بغداد، تروي كهرمانه عطشى الحرية روافد دجلة والفرات بعيدا، سيمسك حمورابي بقوانين مسنة العدالة بعيدا عن علي بابا والاربعين حرامي.

القاص والكاتب

عبد الجبار الحمدي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here