د. ماجد احمد الزاملي
لسنا هنا في معرض بيان الحاجة الحيوية إلى الايديولوجيا في الاجتماع الانساني، وفي الاجتماع السياسي، وخاصة في المجتمعات الحديثة حيث التنظيم الاجتماعي، ونظام اشتغال الدولة والسلطة، والعلاقات بين الطبقات والفئات الاجتماعية او بين المؤسسات، تقتضيها بما هي فاعلية اجتماعية او اداة من ادوات الدينامية الاجتماعية، فذلك مما بات مسلما به في ميدان علم الاجتماع السياسي وعلم السياسة. كما لسنا في معرض بيان تزايد الفعالية الايديولوجية في المجتمعات الانسانية في عالم اليوم، بنشوء وسائط جديدة لنشر او توزيع الخطاب الايديولوجي في اوساط الرأي العام من اعلام فضائي وانترنيت، ولا في معرض دحض المزاعم الذاهبة إلى زوال الحاجة إلى الايديولوجيا وبيان بطلان تلك الدعوات، وانما يعنينا – في المقام الأول – الحديث في النتائج السلبية التي يمكن ان تنجم عن التمسك بايديولوجيا ما من قبل من تمارس عليهم تلك الايديولوجيا تأثير في الوعي والسلوك فتوجه افعالهم وادراكهم العملي وجهات محددة. استخدام مفهوم الأيديولوجية كأداة تحليلية يتطلب تعدد مستويات البحث بوصف منطقها الداخلي وحتى ادعاءتها عن نفسها وسماتها الأساسية كجانب معبر عن الواقع. ودراسة الأيديولوجيا تتطلب الجمع بين مدخلين محاوِلة الوصول لأنماط عامة بالمفهوم العلمي ومدخل دراسة المنحنى الخاص للظاهرة في تعيينها، أو بعبارة أخرى: دراسة الشكل الخاص للعلاقة بين البناء الفوقي والبناء التحتي وهي علاقة جدلية تبادلية التأثير، فكلا البنائين الفوقي والتّحتي يكتسب هويته المتعينة من خلال الآخر آخذاً في عين الاعتبار أن البناء التحتي ليس وجوداً مادياً فحسب بل وجوداً مادياً وحضارياً وفكريا. تعتبر عملية تحديد العوامل المكونة لأيديولوجية ما مسألة صعبة ولا تخلو من المجازفة ويصبح الأمر أكثر صعوبة عندما يتعلق بالأيديولوجية الأمريكية. وذلك لأن مثل تلك العوامل عادة ما تكون غير واضحة وغالبا ً ما تكون هناك صعوبة في التمييز بين الأسباب ونتائجها ، ومع ذلك فإن أي محاولة لاستكشاف القوى التي ساهمت في صياغة الأيديولوجية السياسية الأمريكية يمكن أن تكون ذات فائدة في تعميق فهمنا لها. ويبدو أن هناك خمسة عوامل رئيسية قد ساهمت بشكل أو بآخر في صياغة وبلورة الأيديولوجية السياسية الأمريكية. مع أن الولايات المتحدة لم تشهد صراعا ً أيديولوجيا ً حادا ً كالذي يميز المجتمعات الأوروبية إلا أن ذلك لا يعني أن السياسة الأمريكية ليست متأثرة بالأيديولوجية . فعلي الرغم من تقارب وجهات النظر بين الاتجاهين الليبرالي والمحافظ حيال معظم القضايا المطروحة إلا أن الفترة الأخيرة قد شهدت بعض التباين حيال عدد من القضايا وخاصة ً تلك المتعلقة بالسياسة الخارجية والسياسة الاقتصادية.
و المفكر الماركسي الإيطالي أنتونيو غرامشي، قد رفض المعنى السلبي المُفترض من قِبل الماركسيين لمفهوم الأيديولوجيا، إذ ينظر إليها باعتبارها عامل محدد للحس المشترك، وضرورة تاريخية لتنظيم وتوجيه الجماهير. وأكد على قدرة البروليتاريا على تحديد شروط وعيها، منتقداً الطرح الذي يتعامل معها باعتبارها مجرد أداة سلبية وتابعة للأيديولوجيا المهيمنة، أو اعتبار تأثير الأيديولوجيا ذو مسار واحد من الأعلى إلى الأسفل، فالطبقة العاملة –كما يراها- قادرة على خلق أيديولوجيتها المضادة للأيديولوجيا المهيمِنة؛ وذلك من خلال بناء مؤسساتها الثقافية الخاصة وإنتاج مثقفيها العضويين. معتبراً الهيمنة استراتيجية ضرورية لأي مشروع يهدف لتغيير الهيكلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة. ولا يمكن التخلص من هيمنة الطبقة السائدة، إلا عن طريق بناء طليعة ثورية لدى الطبقة الخاضعة أو التابعة قادرة على إنتاج وتشكيل هيمنتها المضادة. ولابد من تبيان مأثرة ماركس بأنه من الفلاسفة القلة الذي مارس العمل النضالي بجانب الفكري دفاعا عن الطبقة العاملة وعمل على تغيير الواقع حسب
منظوره الطبقي حيث اكد ضمن مقولاته بان الفلاسفة السابقين عليه قد عملوا على تفسير وتبرير الواقع والدفاع عنه وعن الطبقات المسيطرة فلسفيا واجتماعيا وليس العمل على تغييره، وان المطلوب هو تغيير العالم من خلال القوى الاجتماعية الجديدة التي لها دائما مصلحة في تغيير الواقع نحو اللاطبقية، حيث كان ماركس من المؤمنين بالحتمية التاريخية لمسار البشرية وان هذا المسار الحتمي لابد وان يؤدي إلى المجتمع اللاطبقي ( الشيوعي ) وهي رؤية امنت بها الاحزاب العمالية الماركسية في جميع انحاء العالم.
أما على الصعيد الرأسمالى فقد حاولت الدول الديمقراطية إنقاذ الرأسمالية من مصيرها الحتمى بعد فشلها فى اشباع الحاجات الأساسية للجماهير العريضة واستحدثت صيغة دولة الرعاية الاجتماعية والتى تضمن تأمينات اجتماعية متعددة للمواطنين الضعفاء اقتصاديا فى مجال البطالة والمرض إلا أن التجربة فشلت للعجز عن تمويل هذه البرامج الاجتماعية المتعددة. وقبيل نهاية القرن العشرين حدثت واقعة كبرى لها دلالتها التاريخية العظمى وهى انهيار الاتحاد السوفيتى بعد فشل النظام السلطوى فى إشباع الحاجات الأساسية للجماهير وفى تحقيق الحد الأدنى من الديمقراطية وحقوق الإنسان. إن قوة أيديولوجيا ما وضعفها لا يرتبطان بمدى رصانة وتماسك أطروحاتها الفكرية بالمقارنة مع أطروحات الأيديولوجيات الأخرى. إذ مع الإقرار بوجود معايير واضحة لمثل هذه المقارنة فإن الأطروحات الأيديولوجية نفسها تبقى عصية على التوصيف الموضوعي لكونها تمثل قناعات عقدية قبلية ليست موضع بحث أو مقارنة بالنسبة لمن يؤمنون بها. لذلك يصح القول إن أحد أهم شروط عقد مثل هذه المقارنة هو الحياد التام للباحث إزاء الأيديولوجيات المختلفة التي يقارنها فضلا عن رسم منهج واضح يجعله على مسافة متساوية من جميع العقائد والأفكار التي تعتنقها الأيديولوجيات المختلفة وهو أمر صعب التحقق. وعموما فإن مثل هذه المقارنة ستكون ذات طابع نظري بحت. وهي قد تكون ذات قيمة كبيرة من ناحية منهج نقد الأفكار الذي يمثل حقلا معرفيا صعبا. أما المعايير الأساسية التي يمكن أن تعتمد في مجال تقويم الأداء السياسي الفعلي للأيديولوجيات المختلفة ومعرفة مقدار قوتها وحظها من النجاح.
أن مصطلح أيديولوجيا يُستخدم في أغلب الأحوال باعتباره سلاحاً سياسياً لإدانة أو انتقاد مجموعة الأفكار والقيم العقائدية المنافسة. فعندما يصف الليبرالي مثلاً غريمه السلفي أو الشيوعي بأنه “مؤدلج”، ويرفض في الوقت نفسه الاعتراف بأن الليبرالية أيديولوجيا أيضاً، فإنه يفترض بأن هذه الكلمة تحمل معانٍ سلبية بالضرورة. منها: تشويه الواقع، والتضليل، والتزييف؛ وهو مصطلح يشير إلى هيمنة الأيديولوجيا على وعي الجماعات والطبقات المُستَغَلّة، وإسهامها في نفس الوقت بتبرير واستمرار هذا الاستغلال. تؤكد الدراسات السوسيولوجية (خاصة أعمال ب.بورديو) أن كل سلطة سياسية ترتكز على منظومة إيديولوجية رمزية ذات طابع مهيمن من اجل تغذية هيمنتها المشروعة، بالتوسع وفي الديمومة، وبهذه الصفة تجد المؤسسة المدرسية نفسها متورطة موضوعيا في هذه الوظيفة فتحول إلى جهاز ، يتجاوز تيقين المعارف والمهارات من أجل تشكيل النماذج الضرورية للفرد وفق تلك النزعات الأيديولوجية الرمزية المهيمنة والمشروعة وهي بهذه الصفة، تشارك بفعالية في الحد من العنف المشروع للسلطة كمورد للإرغام لصالح التوظيف ، لكن التوسع في العنف المشروع كمورد من اجل الإقناع، دون وعي الأفراد والجماعات بذلك (ماكس قيبر / ببورديو) .
ان الواقع الاجتماعي والطبقي والطائفي والاثني والقبلي والريعي المشوة وانعكاساته السياسية والاقتصادية والفكرية والعقائدية، هو واقع معقد بدرجة شديدة حيث لا يمكن ان نتيقن بان التمسك المطلق بنظرية او ايديولوجية محددة كفيل بان يحقق لنا التحليل الصائب ومن ثم الموقف السياسي او الاجتماعي او الثقافي او الاقتصادي الصائب، ولذلك فعندما ندعوا الى التحرر من قيود الايديولوجيا الصنمية الجامدة بنصوصها المقدسة كما تم ترويجها في
المراحل السابقة وندعوا الى الانفتاح على نتاج العلوم الحديثة وافكار المفكرين ومناهج التحليل المعاصرة المتعددة التي انتجتها عقول قيّمت التحولات وتابعت المستجدات بعد مرحلة الفلسفات الكبرى او الاحزاب الثورية المناضلة في ظل ظروف القمع والسرية والصراع الدولي الحاد فاننا في ذلك دعوتنا تصب في التحرر من الجمود والتعويم الايديولوجي للايديولوجيات المغلقة على ذاتها او المجترة لنصوصها وهي دعوة نحو الانطلاق في فضاء المناهج الفكرية المتعددة التي تجاهد ايضا من اجل تعزيز قيم ومباديء العدالة والحرية والمساواة والديمقراطية، وهذه المباديء هي بمثابة البوصلة الفكرية التي تخدم الانسان كغاية الحركات السياسية وتخدم الاهداف التي يناضل المخلصون من اجل انتقال مجتمعاتهم من اغلال وقيود ملكوت الواقع الراهن ( الضرورة) الى ملكوت الحرية (ما ينبغي ان يكون عليه المجتمع) .
الأحزاب الاشتراكية الجديدة في غرب أوروبا كيّفت وطوّعت أيديولوجيتها من أجل مواكبة العصر، ومجاراة التغيرات المحيطة، فقد وجدت هذه الأحزاب (الإسباني والإيطالي والفرنسي) نفسها في ظل بيئة ديمقراطية فرضت عليها التغيير في أيديولوجيتها ورفض فكرة ديكتاتورية البروليتاريا في ظل دول تتبنى الحرية الفكرية والسياسية، فنلاحظ أن البيئة التي وجدت فيها هذه الأحزاب قد فرضت عليها نوعًا من أنواع التكيف حتى تستطيع الاستمرار، والتطور، والتقدم، ومواكبة الأحداث والوصول الى السلطة. وثبت بالوجه القاطع أن ما رددته العديد من الحركات الإسلامية على أنه ثوابت لا يمكن المساس بها أو الحياد عنها، أنها لم تعد كذلك، وإنما تم تطويعها وإعادة انتاجها من جديد لتتلاءم مع الواقع السياسي المتغير، بما يكفل لهم تحقيق مصالحهم الحزبية وتسهيل عملية وصولهم إلى سدة الحكم. أن الحركات الأيديولوجية باختلافها قد تقدم على التنازل عن أيديولوجيتها والتخلي عنها في سبيل وصولها للحكم في حال لم تنجح هذه الحركات بعد تطويعها وتكييفها لأيديولوجيتها في تحقيق أهدافها.
في أواخر العام 2010 وبداية 2011 أطاحت انتفاضات شعبية بعدد من الديكتاتوريات التي عمرت في الحكم بدءاً من زين العابدين بن علي في تونس مروراً بحسني مبارك في مصر ومعمر القذافي في ليبيا وصولاً إلى علي عبد الله صالح في اليمن، وقد جلبت هذه الانتفاضات معها عقدة جديدة من الروابط المتشابكة والمتقاطعة محدثة تغييراً بيناً في البنية السياسية لهذه الدول مما سمح بظهور قوى سياسية جديدة إلى الساحة. فالفصائل الإسلامية، السلفيون والإخوان المسلمين بتعددادهم المتنوع لم ينخرطوا منذ البداية بالحركة الثورية في مصر وإنما لعبوا دوراً هاما بعد ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني، حيث فازوا ب 351 مقعد من أصل 498 أي ما يقارب ال70 بالمئة من إجمالي مقاعد البرلمان المصري، حيث حصل حزب العدالة والتنمية على 45.7 % من المقاعد بينما كانت حصة حزب النور السلفي 23.6 % فقط من إجمالي المقاعد، وفقاً لهيئة الانتخابات الرسمية في مصر. على الرغم من أن الثورة المصرية لم تكن ثورة اجتماعية تسعى لتغيير التكوين البنيوي الاجتماعي في مصر وإنما انتفاضة سياسية بحتة تسعى للتخلص من تسلط ديكتاتوري على الحكم دام ثلاثون عاماً، نستطيع أن نلاحظ تحولاً في موازين القوى السياسية وتغييراً في القوة الإيديولوجية لتضع الأحزاب الإسلامية سياسياً في أعلى الهرم، ولتفضي إلى انتخاب محمد مرسي رئيساً للبلاد تارةً، وبتحول عكسي تارةً أخرى بانتخاب النظام الانقلابي بقيادة عبد الفتاح السيسي الذي دعا بدوره إلى تغيير منهجي بالدين الإسلامي وإعادة هيكلة الحوار الديني، كيف لنا التوقع بهكذا تحولات محورية وجوهرية بشكل دراماتيكي حدثت خلال خمس سنوات فقط ؟ إن عملية التحدي والتحول السياسي في مصر أو العراق أو أي دولة أخرى لا يمكنها الاقتصار على البعد الإيديولوجي فقط، وإنما نشهد صراعاً حقيقياً على السلطة التي تستطيع التحكم بمصادر هذه الإيديولوجية ومنظماتها، وإن الأطراف المتصارعة تسعى بكل ما لديها لتتحكم بالشبكات والعلاقات المتحكمة بهذه الإيديولوجية عن طريق محاولات الإقناع والتضليل والتحويل والتبديل أو حتى
القضاء على هذه الإيديولوجية لتصل نهاية إلى إعطاء الشرعية للسلطة التي تمتلكها، وبكلمات أخرى هو صراع على السلطة.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط