العشاء الأخير

عذرا سيدتي إنه خطأي لم أرك تقتربين مني فقد كنت سارحا في ملكوت آخر… كان قد وطيء الأرض يلتقط ما أسقطه من يدها دون أن ينظر إليها فصورة جودي لا زالت تعيش في عقله وقلبه، لم تفارقه لحظة خاصة وأنها ليلة عيد الميلاد ستكون ليلته سمجة مملة يقضيها وحيدا مع صورها التي ملئ جدران شقته بها.. لملم دون ترتيب أغراض من اصطدم بها, فما ان رفع رأسه حتى صعق يا إلهي هل من المعقول أنك بعثت من جديد من عالم الموتي!! جودي أهذه أنتِ!!؟..

بهتت من سمعته يحدثها دون سابق معرفة فاردفت مقطبة حاجبيها باستغراب!!.. يبدو أنك مجنون أو مخمور يا سيد فأنا لست السيدة التي تظن!!

توماس: أوه أعتذر جدا عن فظاظتي وسوء أدبي لقد حسبتك شخصا يمت لي بصلة حميمية أعني جودي كان أسمها جودي.. ارجو المعذرة مرة أخرى

تركها وسار منطلقا حيث المكان الذي ركن في سيارته توقف عندها ينظر باتجاه السيدة التي وقفت على بعض مترات من إشارة موقف الحافلات.. البرد شديد وقارس على غير العادة كل شيء هذه الليلة مختلف حتى أعمدة النور دثرت نفسها جيدا بعد أن زادت في إلقاء الضياء لمساحات بعيدة والثلج يغمر رؤسها كقبعات فتاة بياض الثلج، هكذا يتخيلها توماس ركب سيارته ولم يدر محركها ظل يرقبها وهي تختلس النظر إليه لقد إستبطأت الحافلة عن موعدها وبين فينة وأخرى تتطلع الى ساعة يدها..

همس توماس.. يبدو أن لديها موعد ما؟ ولكن ترى ما الذي اسقطته من كيس الهدايا الذي كانت تحمله لعلي شاهدت لعبة أكس بوكس لا أكثر من لعبة لا أتذكرها لاشك إنها تتوق لأن تكون بين من أحبت قبل الساعة الثانية عشر، تطلع الى ساعة السيارة إنها الحادية عشر وعشر دقائق لديها الكثير من الوقت لا أظنها ستتأخر عن موعدها فآخر محطة لتوقف الحافلة لا يتعدى الثلاثين دقيقة، عدل من جلسته توماس مديرا محرك السيارة، لم يلحظها وهي تقترب، طرقت على زجاج شباك سيارته تفاجئ بها!! ودون إرادته أنزل الزجاج قائلا:

هل استطيع ان أقوم لك بأي خدمة؟

اولا اعتذر عن تصرفي وارجو ان لا يذهب بالك بعيدا وتسيء الظن بي، لكني تأخرت عن موعدي ويبدو الحافلة أيضا قد تأخرت فإذا كنت ذاهبا في إتجاه جادة 29 قرب مقبرة فورماك أرجوك أوصلني في طريقك..

توماس : مقبرة بهت لونه ولكن سيدتي!!…

السيدة : لا عليك كان من السخافة أن اطلب منك ذلك أعذر جهلي

توماس: لا أبدا تفضلي فأنا فعلا ذاهب بنفس الاتجاه واسكن على بعد تقاطعين من نفس المقبرة غير أني تفاجأت لا أكثر هيا أركبي قبل أن تتجمد اوصالك سيدتي فتح لها الباب من الداخل بعد أن دارت وركبت الى جانبه…

كان يحدق فيها وهي تنزع قفازاتها وتقربهما من فتحات التدفئة كأنها تريد ان تستعيد هدوء اسنانها التي تصطك محدثه صوت عال… ابتسم توماس وهو يراها تحاول اطباق فكيها لكن دون جدوى فعلق قائلا:

أدعى توماس هههههههه لا عليك سوف تتدفئ أوصالك سريعا فالطريق والتدفئة كفيلان بذلك

– أوه عفوا بداية أشكر لك صنيعك سيد توماس وأعتذر عن صفاقتي وقلة تهذيبي عن عدم تقديم نفسي إني أدعى السيدة بلاكويل جوديث بلاكويل… الحقيقة إني في عجالة بعد أن وعدت جين وماري وهما إبنتا ولدي الذي فقدته في الحرب على افغانستان والعراق إنهما يعيشان مع والدتهما

كان حضوري ملزما بوعد اتخذته على نفسي بأن اكون متواجدة بينهما في مناسبات اعياد ميلادهما او عيد رأس السنة لقد مات ولدي منذ بضعة أعوام..

توماس: أنا آسف سيدتي يبدو أني اثرت المواجع عليك في مناسبة كهذه

جوديث: لا أبدا فأنا لم أنس مواجعي بفقدانه، لكني لم اعد استسيغ الحياة دونهما ولولا إبنتيه ربما انهيت حياتي

توماس: ما هذا التفكير! إنك تعيشين من اجله فإبنتاه امتداد له وهما سيكونان الدافع كي تطلبين طول العمر لترينهما سعيدتان كما كان يتمنى أليس كذلك؟؟

جوديث: إن تتحدث كما لو كنت حاضرا حفل التأبين قبل وفاة زوجي بعد ولدي بعام كان يقول نفس كلامك، حديثه بلسما لجراحي في فراق رونالد إبني، لكني أبدا لم أحسب أني سأفقده هو الآخر، كان ذاك عندما كنا نتناول العشاء معا لم أحسب يوما او للحظة ان زوجي الحبيب سيتركني وحدي في عالم موحش، كنت قد جهزت له هدية بمناسبة أول لقاء لي معه، أحضرت له ربطة عنق جميلة جدا ذات لون أزرق سمائي، اردته أن يرتديها في حفلة مناسبة الليلة التي تليها والتي طلبني للزواج منه… لم أعلم انه سيكون العشاء الاخير لي معه، رحل هو الآخر وترك لي الشعور بالألم في كل مرة أرى جين وماري حتى بت لا أستطيع التحمل والغريب أني في كل مرة ازورهما اذهب الى المقبرة قبل أن أطرق الباب عليهم، اجلس طويلا احدثهما عن معاناتي وألمي بفراقهما… وها انا الليلة برغم كل شيء سأكون بينهما محاولة ان أضفي الحياة في عامها الجديد وأزيل الوجوم من على وجهي، احتفل كما كان يفعلان حبيباي زوجي ورونالد…

توماس: سيدتي اجدني سعيدا وأنت تفضفضين عن كاهلك وجع معاناتك، أشكر لك مشاركتي ما تحسين وأأمل ان تكون حياتك ومن تحبين على خير ما تتمنين، فعالمنا رغم كل مآسيه يلفح وجوهنا ساعات من ركوده بإبتسامات أمل كي تدفع بنا لنواكب المسير… كنت قبل أن اصطدم بك سارحا في ملكوت من فقدت ولكن عندما سمعت قصتك استعدت توازني وأأمل يوما ان اقص لك حكايتي لكننا قد وصلنا حيث جادة 29 قرب المقبرة ..

جوديث: شكرا لك سيد توماس سعيدة بلقاءك وحسن إصغائك أتمنى أن ألتقيك ثانية بظروف افضل

توماس: يسعدني ذلك ويسرني كثيرا..

جوديث: هذا كارت فيها رقم هاتفي إتصل متى ما رغبت بذلك، سعيدة جدا بصحبتك واتمنى التعرف عليك لدماثة خلقك سيد توماس

ذهبت جوديث بعيدا وهو يرمقها حتى دخلت العمارة التي تقطنها زوجة أبنها وأبنتيه.. حرك السيارة الى حيث سكنه وهو يقول: جوديث اسم جميل لأمرأة تحمل كل هذا الحب والمعاناة على مائدة عشاءها الأخير.

القاص والكاتب

عبد الجبار الحمدي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here